ن بعض المسلمين يفهم اليسر في الشريعة على غير وجهه، تراه مثلا يرتكب معاصي الله وهو يعلم، ويدفع عن نفسه بأن الله غفور رحيم، أو أن الصلوات والجمعة تكفر السيئات، وبعضهم إذا وجد في مسألةٍ ما خلافا بين العلماء اختار من أقوالهم ما يسهل عليه، أو تميل إليه نفسه، وقد...
الخطبة الأولى
إن الحمد لله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
أما بعد:
فيقول ربنا تبارك وتعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]. ويقول تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )[الحـج: 78]، (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) [المائدة: 6]، (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ) [النساء: 28].
ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشادّ الدينَ أحد إلا غلبه"، "إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا"، "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".
اللهم فلك الحمد.
إذن، هذه الشريعة الكاملة التي أنعم الله بها علينا من أبرز صفاتها: اليسر، فهي يسر كلها، ولا حرج فيها مطلقا.
اليسر في الشريعة -أيها المسلمون-: ليس منحصرا في الرخص، كرخص السفر مثلا، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، ولكنه سمة عامة لكل شرائع الدين، فالأحكام الشرعية وضعت ابتداء على أساس اليسر، ثم إذا عرض للعبد مشقة طارئة - مثل مشقة السفر والمرض والإكراه- جاءت الشريعة بيسر آخر.
فلله الحمد أولا وآخرا.
أيها الأحبة: إن اتصاف هذه الشريعة الكاملة بصفة اليسر أمر معلوم وواضح، صرحت به النصوص القاطعة التي استمعنا إليها آنفا، لكن الأمر الذي أريد أن نقف عنده في هذا المقام، وأن نتأمله جيدا هو: كيف نفهم اليسر في الشريعة فهما صحيحا؟ نعم، هل فَهْمُنا لليسر فهم صائب؟
عباد الله: إن بعض المسلمين يفهم اليسر في الشريعة على غير وجهه، تراه مثلا يرتكب معاصي الله وهو يعلم، ويدفع عن نفسه بأن الله غفور رحيم، أو أن الصلوات والجمعة تكفر السيئات، وبعضهم إذا وجد في مسألةٍ ما خلافا بين العلماء اختار من أقوالهم ما يسهل عليه، أو تميل إليه نفسه، وقد يحتج لذلك بأن "خلاف الأمة رحمة"، مع أن هذه الكلمة لا تثبت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
كما تجد بعض المسلمين يترخص في أموره بلا علم ولا مراعاة لقواعد الشرع مستندا إلى أن الدين يسر.
بعضهم يرى أن اليسر، وأن المفتى الذي يتحرى اليسر هو من يفتي دائما بالجواز والإباحة، أو يفتي بعدم الوجوب إذا دار الأمر بين كون الشيء واجبا أو غير واجب.
هناك من يرى أن اليسر في الفتوى: هو مجاراة هذا الواقع الذي نعيشه ومسايرته، بما فيه من انحراف، والبحث في أقوال الفقهاء عما يوافقه، وإن كانت أقوالا ضعيفة.
إلى صور أخرى، نشاهدها، من صور الفهم غير الدقيق لمعنى اليسر في الشريعة.
عباد الله: "اليسر" من المعاني التي يختلف الناس في تحديدها وضبطها، فقد يرى إنسان أمراً ما يُسرا، ويراه آخرون عسرا، كما أن رؤية البشر عموما إلى اليسر هي رؤية محدودة بحدود علمهم القاصر، هي رؤية تنتابها أيضا نوائب الهوى والرغبات التي تؤثر في حكم العقل.
تأملوا معي -أيها الأخوة- صورة ذلك الأب، الذي يوقظ ولده الصغير للمدرسة، الطفل في هذه الحال قد يبكي، ويرى أن إيقاظه في هذا الوقت أمر شاق وعسير، وأنه أبعد شيء عن اليسر؛ ذلك أن نظرة هذا الطفل إلى اليسر نظرة قصيرة، وصغيرة، أما الأب فيرى أن إيقاظ ولده هو حقيقة اليسر به؛ نظرا منه إلى المصالح البعيدة التي تترتب عليه، ويرى أن إسلامه للنوم هو العسر حقا، وإن كان لذيذا شهيا في الحال.
وقل مثل ذلك حينما يُجرِّع الوالد ولده دواء مُرّا، أو يأتي به إلى طبيب يَخِزُه بإبرة، إنه يفعل ذلك طلبا لليسر الأكبر والمصلحة الراجحة، وإن احتمل في سبيل ذلك عسرا يسيرا ومشقة خفيفة.
الذي نخرج به من هذا المثال المصغر: هو أن رؤية العباد لليسر، إنما هي رؤية محدودة بحدود عقولهم وإدراكهم للمصالح، ويبقى حكم الحكيم العليم الخبير -سبحانه وتعالى- حكمَ من هو بكل شيء محيط، وبكل شيء عليم.
والإيمان بهذا المبدأ -عباد الله- يدعو العبد إلى أن يكون مُسلما، منقادا، طيِّعا لكل ما جاء عن الله تعالى، في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
فحقيقة اليسر: هي اتباع الدليل، فحقيقة اليسر هي اتباع الدليل، فما دل عليه الدليل الشرعي علمنا أنه هو اليسر، وإن ظهر في نظرنا القاصر خلافَ ذلك، وليس اليسر: أن نختار ما نراه يسرا في عقولنا، ثم نبحثَ في أقوال المفتين والفقهاء عما يوافقه، فهذا إنما هو اتباع الهوى.
فالعالم، المفتى حينما يختار هذا القول أو ذاك، فهو لا يختاره لأنه أسهل، أو أيسر، وإنما يختاره لأنه أقرب إلى أدلة الشرع، هذه طريقة أهل العلم، يدورون مع الدليل، خفّ على النفوس أم ثقل، فليس هناك أحد من العلماء الراسخين يبني ترجيحه الفقهي على أساس سهولة هذا القول ولا على أساس صعوبته، فالسهولة والصعوبة ليست معيارا شرعيا للترجيح بين الأقوال عند العلماء، اللهم إلا في حالات قليلة جدا، وذلك إذا تكافأت الأقوال، وتعادلت، ولم يدل دليل على تقديم أحد منها، فهنا -وفي هذه الحال فقط- قد يرجحون القول الأسهل، أما أن يكون الدافع لهم ابتداء هو اليسر، فهذا ليس من طريقة أهل العلم.
والمستفتي حينما يسأل عالما، فإنه لا يسأله لأنه يفتيه بما يوافق رغبته، ويسهل عليه، وإنما يسأله، لأنه يراه أهلا للفتوى، علما وورعا ومعرفة بالواقعة التي يستفتيه فيها، وإذا علم أن في هذه المسألة قولين للعلماء، فإنه لا يجوز له أن يتخير من أقوالهم ما يوافق رغبته، ولا تبرأ ذمته بذلك، كما قد يقول قائلهم: اجعل بينك وبين النار مفتيا! وإنما تبرأ ذمته باتباع من يرى أنه الأوثق في هذه المسألة، علما وتقوى، تماما كما يفعل المرء حينما تختلف آراء الأطباء، فيتخار لصحته قول الأعلم والأتم خبرة ونصحا.
عباد الله: إن هذا العلم دين؛ فعليكم بالبصيرة في دينكم، وتمسكوا منه بالعروة الوثقى، والتزموا سنة نبيكم الذي قال الله له: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]. (وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
عباد الله: اليسر صفة لازمة لهذه الشريعة، هذا أمر نؤمن به إيمانا، ونوقن به حقا، كما صرحت به نصوص الشرع.
ولكن، دعونا نسأل أنفسنا سؤالا صريحا، سؤالا لا يصلح أن نتغافل عنه أو نتجاهله، وهو:
لِمَ نجد في أنفسنا تثاقلا وصعوبة ومشقة في القيام ببعض الشرائع التي أمرنا الله تعالى بها، أو في ترك بعض ما نهى الله عنه، ألسنا نجد هذا في أنفسنا، ألسنا نشعر بالمشقة والعسر تجاه بعض شرائع الإسلام؟
اللهم بلى، اللهم بلى.
لنكن صادقين، أليس كثير منا يرى أن الاستيقاظ لصلاة الفجر في وقتها مع الجماعة أمر عسير، ولذا يتخلف عنها كثير منّا، أليس كثير منا يشعر بأن تطهير بيته من أجهزة اللهو والمنكر وقنوات الإفساد أمر شاق، وأنه لا يستطيع الاستغناء عنها، ألسنا نشعر بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض المواقف أمر شاق وحرِج، مع أننا نؤمن نظريا بأنه : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [الحـج: 78]. فكيف ذلك؟
لا أريد أن أطيل عليكم، وسأضرب لهذا مثالا: لو طلب من أحدكم الآن أن ينتقل من مكانه هذا في المسجد إلى مكان آخر في المسجد أيضا، فما تقولون في هذا الطلب؟ أهو طلب يسير أم ثقيل؟
لا شك أنه طلب يسير.
لكن لو طلب هذا الطلب ذاته من رجل مريض، ضعيف، أوهنه المرض، فلا يستطيع الحركة. فسيكون طلبا شاقا، وقد يكون معجزا له.
إذن، هذا طلب واحد، لكنه في حق إنسان سهل ويسير، وفي حق آخر عسير جدا، أو غير ممكن.
ما الذي تغير؟ الطلب لم يتغير، لكن الذي تغير هو حال المأمور، هو حال الإنسان، لما كان المأمور قويا كان الطلب عنده سهلا يسيرا، ولما كان المأمور ضعيفا سقيما كان الطلب عنده شاقا.
إذن، هذا ما نقوله في أحكام الشرع، إنها في نفسها وحقيقتها هي يسر كلها، بلا استثناء، كما بيّن الله تعالى ذلك، وما وجدنا فيها من عسر أو كلفة فهذا ليس راجعا إلى عسر في أوامر الشريعة، بل هو راجع إلى ضعفنا نحن.
لست أعني ضعف الأبدان، فالضعف إذا كان في البدن فإن الشرع يعذر به، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولكن أعني ضعف الإيمان، فإذا ضعف الإيمان وجد مشقة في اليسر.
وخذ مثالا عاجلا نراه بكثرة، شيخ كبير ضعيف محافظ على الصلوات الخمس، يأتي إلى المسجد مبكرا، ولا يفوته ركعة من قيام رمضان، وشاب قوي صحيح، يتثاقل عن الفرائض، ولا يكاد يجيء إلا متأخرا إن جاء.
إذن: تيسير الشرعِ المعيارُ فيه: القلبُ السليم، أما القلب المريض أو القلب الميت، فإنه يشعر بالثقل والمشقة؛ كما قال الله تعالى عن المنافقين: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى) [التوبة: 54].
وقال عنهم نبيه صلى الله عليه وسلم: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر".
ما فائدة هذا الكلام؟
حينما نستحضر ونتيقن: أن شرع الله تعالى في حقيقة الأمر هو شرع ميسر، وهو شرع رحمة، ولكن البلاء إن وُجد فإنما هو من ضعف إيماننا، ومرض قلوبنا، حينما نوقن بذلك فالنتيجة هي أن نعتني بإصلاح هذه القلوب، بدلا من أن نحاول ونلجأ إلى إدخال التخفيفات والتسهيلات على الأحكام الشرعية.
الذي نقع فيه أحيانا: أننا عندما نجد ثقلا في بعض الواجبات، نلجأ إلى حلول غير صحيحة، لتخفيف هذا الواجب، أو التخلص منه، كالبحث عن رخص أو فتاوى ملائمة، مع أن المسلك الصحيح: هو علاج هذا القلب، الذي إذا صح وسلم شعَر بيسر الشريعة، بل وجد الحلاوة فيها، بل علم أنها هي حياته.
عباد الله: ديننا -بحمد الله- يسر كله منذ أن أنزله الله، فليس بحاجة إلى تجديد أو إصلاح، لكنه بحاجة إلى نفوس قوية بقوة الإيمان، تحمله بقوة، تستقيم عليه وتجاهد في سبيله، وأما البشر، فتصورهم عن اليسر تصور قاصر، محدود بحدود الجهل والهوى؛ ولهذا اقتضت رحمة الرب الرحيم أن أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ ليهدوا البشر إلى يسرهم الحقيقي عاجلا وآجلا، ثم جعل العلماء الربانيين الصادقين ورثة الأنبياء، وجعلهم أدلاّء على الحق، فهم لا يجتمعون على ضلالة، وإذا اختلفوا فهم مأجورون ومعذورون في اختلافهم، وفي اختلافهم حكمة ربانية، ليظهر من الناس من قصده طلب الحق واتّباعه، ومن قصده اتباع هوى نفسه والبحث عما يوافق هواها من الآراء والأقوال.
اللهم ربنا، فمُنّ علينا بشكر نعمتك، والاستقامة على دينك، واسلك بنا سبيل الصادقين، واجعلنا من عبادك المخلصين، وتوفنا على الإسلام والسنة يا أرحم الراحمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي