تعظيم حرمة دم المسلم

خالد بن عبدالله الشايع
عناصر الخطبة
  1. كثرة القتل في آخر الزمان .
  2. هوان دماء المسلمين وكثرة القتل فيهم .
  3. وجوب تعظيم دم المسلم وبعض عقوبات سفك دمه بغير حق .
  4. وجوب التوبة من سفك دم المسلم بغير حق .
  5. قصة قتل أسامة بن زيد لكافر بعدما نطق الشهادتين وما فيها من العظات والعبر .
  6. أسباب إقدام المسلم على سفك دم أخيه المسلم .
  7. متاجرة بعض أولياء المقتول بدمه ومغالاتهم في ديته .

اقتباس

أيها المؤمنون: إذا نظرنا لمن يقتل على هذه المعمورة نجد أن أغلبهم من المسلمين، وأنهم يقتلون لأنهم مسلمون، وهذا ابتلاء من الله وتمحيص لمن شاء من عباده: (وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) [آل عمران: 154]، وليس هذا هو الشأن، ولكن الشأن أن يقوم المسلمون...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله...

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه، وأن الله سائلُنا عن كل ما اقترفت أيدينا، من صغير وكبير، فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المهتدين.

معاشر المسلمين: لقد أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن القتل في آخر الزمن يكثر بين الناس حتى لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قتل.

أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود وأبي موسى مرفوعًا: "إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج" قالوا: وما الهرج؟ قال: "القتل".

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا يدري المقتول في أي شيء قتل".

ولقد تكاثرت النصوص الشرعية في التحذير من الوقوع في أعراض الناس، فضلاً عن دمائهم وأرواحهم.

وأخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن عذاب هذه الأمة في الدنيا هو القتل، أخرج أبو داود من حديث أبي موسى مرفوعًا: " أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والبلايا".

‌والمقصود من الحديث جملة الأمة، لا أنها لا تعذب كلها في الآخرة، كما نص على ذلك في أحاديث الشفاعة.

أخرج أبو نعيم في الحلية من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري مرفوعًا: "إن الله -تعالى- جعل عذاب هذه الأمة في الدنيا القتل".

وأخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: أن أول ما يقضى بين الناس فيه يوم القيامة هو الدماء، كما أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء".

أيها المؤمنون: إذا نظرنا لمن يقتل على هذه المعمورة نجد أن أغلبهم من المسلمين، وأنهم يقتلون لأنهم مسلمون، وهذا ابتلاء من الله وتمحيص لمن شاء من عباده: (وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154].

وليس هذا هو الشأن، ولكن الشأن أن يقوم المسلمون بقتل بعضهم بعضًا من غير ما جرم إلا التأويلات الفاسدة، والآراء المنحرفة.

فيا سبحان الله! كيف رخص دم المسلم حتى هذه الدرجة، أفلا نعلم أن دم المسلم عظيم عند الله: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].

أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم".

وأخرج الطبراني من حديث جندب قال صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَحُولَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ يُهْرِيقُهُ، كَأَنَّمَا يَذْبَحُ دَجَاجَةً، كُلَّمَا تَقَدَّمَ لِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ".

وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دمًا حرامًا".

وأخرج البخاري من قول ابن عمر: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله".

وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث معاوية مرفوعًا: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا أن الرجل يموت مشركًا، أو يقتل مؤمنًا متعمدًا".

ومن شؤم القتل: أن القاتل من أبغض الناس إلى الله، أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس مرفوعًا: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطّلب دم امرىء بغير حق ليهريق دمه".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أخبر صلى الله عليه وسلم أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة، وذلك؛ لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا، فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير حق، ولهذا كان أكبر الكبائر بعد فساد الدين الذي هو الكفر" أ. هـ.

أيها المؤمنون: إن كلمة التوحيد لها شأن عظيم لا يجوز خرق حرمتها إلا بدليل شرعي متفق على صحته ومعناه، أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله ابن مسعود مرفوعًا: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". ‌

عباد الله: إن مجرد رفع السلاح على المسلم من كبائر الذنوب، وهو علامة على عدم دخول رافع السلاح على إخوانه المسلمين في جماعتهم، أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن النبي  -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا".

أيها الناس: إن قتال المسلم طريق النار، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي بكرة مرفوعًا: "إذا التقى المسلمان وحمل أحدهما على أخيه السلاح، فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعًا‌".

وفي الصحيحين عن أبي بكرة مرفوعًا: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه".

ألا فلنعلم: أننا في دار المهلة التي ينفع المسلم فيها التوبة والحوبة، فكل ذنب يستطيع المرء أن يتحلل من صاحبة إلا القتل، فإنه يزهق روحه، ولا يلتقيان إلا عند الملك الديان أفتراه يعفو عنه، وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس مرفوعًا: "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دمًا، فيقول: يا رب! سل هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش".

اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين...

أما بعد:

فيا أيها الناس: إن لنا في قصة أسامة بن زيد عبرة عظيمة من تأملها، فإنه يتبين له عظيم حرمة هذه الكلمة، أخرج مسلم في صحيحه من حديث المقداد بن الأسود أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة؟ فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تقتله، قال: فقلت يا رسول الله إنه قد قطع يدي؟ ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".

أخرج مسلم في صحيحه من حديث جندب بن عبد الله البجلي: أنه بعث إلى عسعس بن سلامة زمن فتنة بن الزبير، فقال: اجمع لي نفرًا من إخوانك، حتى أحدثهم فبعث رسولًا إليهم، فلما اجتمعوا جاء جندب وعليه برنس أصفر، فقال: تحدثوا بما كنتم تحدثون به حتى دار الحديث، فلما دار الحديث إليه حسر البرنس عن رأسه، فقال: إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم إن رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- بعث بعثًا من المسلمين إلى قوم من المشركين، وأنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإن رجلًا من المسلمين قصد غفلته، قال: وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف، قال: لا إله إلا الله، فقتله، فجاء البشير إلى النبي  -صلى الله عليه وسلم- فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع فدعاه فسأله، فقال: لم قتلته؟ قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلانًا وفلانًا، وسمى له نفرًا، وإني حملت عليه، فلما رأى السيف، قال: لا إله إلا الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أقتلته؟ قال: نعم، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: يا رسول الله استغفر لي؟ قال: "وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟" قال: "فجعل لا يزيده على أن يقول كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟".

وفي رواية في مسلم: "إنما كان متعوذًا؟ قال: فقال "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟" قال "فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم".

وفي رواية في مسلم: "قال قلت يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح؟ قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، قال فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلمًا حتى يقتله ذو البطين، يعني أسامة قال: قال رجل ألم يقل الله: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) [الأنفال: 39]؟ فقال سعد: "قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة".

أخرج ابن ماجة في سننه من حديث عمران بن الحصين قال: شهدت رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- وقد بعث جيشًا من المسلمين إلى المشركين، فلما لقوهم قاتلوهم قتالًا شديدًا، فمنحوهم أكتافهم، فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح، فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إني مسلم فطعنه فقتله، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله هلكت؟ قال: "وما الذي صنعت؟" مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع، فقال له رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "فهلا شققت عن بطنه، فعلمت ما في قلبه؟" قال: يا رسول الله لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه، قال: فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه، قال: فسكت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات فدفناه، فأصبح على ظهر الأرض، فقالوا: لعل عدوا نبشه فدفناه، ثم أمرنا غلماننا يحرسونه، فأصبح على ظهر الأرض، فقلنا: "لعل الغلمان نعسوا فدفناه، ثم حرسناه بأنفسنا، فأصبح على ظهر الأرض، فألقيناه في بعض تلك الشعاب".

وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه، ولكن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله".

أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة: أن النبي  -صلى الله عليه وسلم- خطب في حجته، فقال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان، ثم قال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم" فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى، ثم قال: "أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة؟" قلنا: بلى، ثم قال: "أي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليست البلدة؟" قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم" وأحسبه قال: "وأعراضكم، عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلالًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألاهل بلغت، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه".

أيها المسلمون: الكل سمع ولا يزال يسمع يوميًا أخبار القتل على توافه الأمور، فرجل يقتل سبعة من المسلمين، من موظفي التعليم، لقرار نقل، وآخر يطعن أمه، وثالث يرمي أباه بطلقات نارية، ورابعة يقتل زميله في العمل، وذاك يغدر بصاحبه لشهوة أو حفنة مال.

فيا سبحان الله! أين عقول الناس عن ما سمعنا من التحذير والتشنيع من قتل النفس المعصومة.

وإن المتأمل في تلك الوقائع يرى أن لها أسبابًا ظاهرة.

أولًا: قلة الخوف من الله.

ثانيًا: مشاهدة الأفلام السينمائية للعنف والقتل.

ثالثًا: تأثير الأصحاب وأصدقاء السوء.

رابعًا: النعرات القبلية، والعصبية الجاهلية.

خامسًا: الغضب المفرط، وعدم كظم الغيظ.

عباد الله: إن انتشار القتل أخرج لنا المتاجرة بالدماء، وذلك في المغالات في الديات، حتى بلغت عشرات الملايين، وكأنهم يبيعون ويتاجرون بدم المقتول، وهذا الفعل مع مافيه من الخسة والدناءة، هو محرم شرعا بهذه الصورة.

والواجب على ولي الدم أن يعفو عن القاتل لوجه الله، وابتغاء الثواب من الله، فإن أبى فلا يغالي في الدية، ويكون قصده من الدية نفع الورثة لكونهم محتاجين، أو نفع الميت بعمل خيري، أما أن يغالى في الدية من أجل التكسب منها، ثم يقوم أولياء القاتل بشحذ الناس واستجدائهم، فلا ينبغي هذا، وعلى المسئولين منع ذلك.

اللهم احقن دماء المسلمين، وأعذنا من الفتن ما ظهر منها  وما بطن.

اللهم اهد شباب المسلمين...

اللهم أنج المستضعفين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي