عباد الله: إن الخوف من الله: حصن من المهلك، وحماية دون المنزلقات، والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد على ذلك؛ بأن أورث...
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
عباد الله: لما كان الخوف من الله أجلَّ مقامات الدين وأشرفها وأفضلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله - تعالى-، ذكره الله -عز وجل- في غير موضع من كتابه العزيز، قال تعالى: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ) [النحل: 50].
وقال - جل وعلا-: (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [لأنبياء: 28].
وقال -سبحانه-: (وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39] وغير ذلك من الآيات.
وأعد الله -عز وجل- لمن حقق مقام الخوف الجزاء العظيم، فقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46].
قال القرطبي: المعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية.
وقال ابن كثير - رحمه الله-: أي خاف القيام بين يدي الله - عز وجل-، وخاف حُكم الله فيه، ونهى النفس عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 41] أي مُنقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.
عباد الله: الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه، بسبب توقع مكروه في المستقبل، ومن توقع مكروهًا في المستقبل سعى إلى الاستعداد له، والمثابرة على اجتيازه، والخوف الصادق من الله -عز وجل- هو ما يدفع المسلم إلى البعد عن المنكرات، والمسارعة إلى الخيرات.
وقد حذر الله -عز وجل- من تخويفات الشيطان ووساوسه، فقال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
الخوف من الله: هو هيبة في القلب لله -سبحانه- مع تعظيم وتعبد وخضوع وتذلل.
وقد ذكر الله -عز وجل- في هذه الآية أن الشيطان يخوفكم بأوليائه ويوهمكم أنهم ذو بأس شديد ويعظمهم في صدوركم فلا تجاهدونهم، ولا تأمرونهم بالمعروف، ولا تنهونهم عن المنكر، وهـذا من أعظم كيده بأهل الإِيمان، ثم حذر وبيَّن لعباده الطريق الصحيح، وهو عدم الخوف منهم: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) جعل الخوف منه - سبحانه - شرطًا في الإِيمان؛ لأن الإِيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس؛ ولأن من عرف أن الخوف عبادة وصرفه لغير الله شرك لم يصرفه لغيره، وكلما قوي إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-: "وفيه أن إخلاص الخوف من الفرائض.
والخوف على ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف السر وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو صاحب القبر أو غير ذلك أن يصيبه بما يكره، أو يغضب عليه فيسلبه نعمة أو نحو ذلك، كما قال تعالى: (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) [الزمر: 36]، وهو الواقع من عُباد القبور ونحوها، يخافونها ويُخوفون بها أهل التوحيد وهذا شرك أكبر.
الثاني: أن يترك ما يجب عليه من جهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر؛ لغير عذر خوفًا من بعض الناس، فهذا مُحرم، وهذا هو سبب نزول الآية، كقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران: 173].
وفي الحديث: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى" [رواه أحمد وغيره].
الثالث: الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك، فهذا لا يُذم، كقوله - سبحانه - عن موسى عليه السلام: ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ).
وإن الخوف وهميًا؛ كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً، أو له سبب ضعيف، فهو مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من الجبن فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن ضلع الدين وغلبة الرجال" [رواه الترمذي].
أيها المسلمون: أثنى الله -سبحانه- على عمار المساجد الذين اتصفوا بصفات عدة:
فقال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].
فذكر أنهم: آمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم، قال تعالى: (مَنْ آمَنَ بِاللّهِ).
وذكر أنهم: أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، قال تعالى: (وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ).
وذكر أيضًا أنهم: أخلصوا لله الخشية والخوف اللذين هما أساس العبادة، ولا تصلحان إلا لله وحده، قال تعالى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ).
فعمارة المساجد ليست ببنائها وترميمها وتنظيفها فقط، بل لا تكون عامرة إلا بالإِيمان والعمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وإدامة العبادة والذكر، وأصحابها هم المهتدون.
عباد الله: قال -تعالى- في سورة العنكبوت: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [العنكبوت: 10] أي: ومن بعض الناس من يدعي الإِيمان بلسانه، ولم يثبت في قـلبه: (فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ)، أي: لأجل الله - جل وعلا-، فأصابته محنة اعتقد أنها من نقمة الله فارتد عن الإسلام.
قال ابن عباس : يعني فتنه أن يرتد عن دينه، إذا أوذي في الله.
وقال ابن القيم: أخبر عن حال الداخل في الإِيمان بلا بصيرة، أنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له - وهي أذاهم ونيلهم له بالمكروه، وهو الألم الذي لابد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم - جعل ذلك في فراره منه، وتركه السبب الذي يناله به: (كَعَذَابِ اللَّهِ) الذي فر منه المؤمنون بالإِيمان، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم، فروا من ألم عذاب الله إلى الإِيمان، وتحملوا ما فيه من ألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم، ففر من ألم عذابهم إلى عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس بمنزلة ألم عذاب الله، وغبن كل الغبن إذا استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق.
فلا ينبغي للعبد أن يخاف غير الله، ولا يصدق عليه الإِيمان الشرعي إلا باعتقاد القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، وفيه الخوف من مداهنة الخلق، والمعصوم من عصمه الله، وأن الخوف من الناس أن ينالوه بما يكره بسبب، الإِيمان بالله من جملة الخوف من غير الله.
جعلني الله وإياكم من أهل الله وخاصته ومن المتحابين فيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: إن الخوف من الله: حصن من المهلك، وحماية دون المنزلقات، والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات، كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد على ذلك؛ بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًا لازمًا، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله -عز وجل- لم يكن محمودًا.
قال الحسن: الرجاء والخوف مطيتا المؤمن.
فإذن لابد من الجمع بين هذه الأمور، وغلبة الخوف هو الأصلح، ولكن قبل الإِشراف على الموت، أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن.
قال ابن القيم: القلب في سيره إلى الله -عز وجل- بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان، فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضه لكل صائد وكاسر.
وقد أثنى الله -عز وجل- على من قرن الخوف بالرجاء في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فقال - تعالى - في حق الأنبياء -عليهم السلام-: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) [الأنبياء: 90].
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله-: الخشية أبدًا متضمنة للرجاء ولولا ذلك لكانت قنوطًا، كما أن الرجاء يستلزم الخوف ولولا ذلك لكان أمنًا، فأهل الخوف لله والرجاء له، هم أهل العلم الذين مدحهم الله.
جعلني الله وإياكم ممن يستعد ليوم الحساب والمعاد.
هذا، وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي