إن الجهل داء خطير، ومرض عضال، إذا أصاب الشخص كان صاحبه على خطر عظيم، وعلى شفير هاوية، وإن لم يتدارك نفسه وعقله بالعلم والتوجيه كان صاحبه خطرا على نفسه ومجتمعه ، فالجاهل طريقه مظلم، ومستقبله غامض، ولا...
ما من صفة تزري بالإنسان وتجعله يلغي عقله كصفة الجهل، فالجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به.
الجهل داء عظيم, وشر مستطير، بالجهل يهبط الإنسان عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به؛ فيرتكب من التصرفات ما هو فوق طاقته (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
وعظ الله نوحا -عليه السلام- أن لا يقول بلا علم، أو يسأل بلا علم، أو يتحدث بلا علم، أو ينقل بلا علم، فقال: (فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود:46].
لأن الجاهلين يقفون في كل طريق ليس فيه علم رجما بالغيب، فتنتشر في المجتمع سلوكيات الجهلاء وأساليبهم.
ولذا جاء الأنبياء يكافحون الجهل، ويطاردونه في المجتمعات، ويحررون الإنسان من قيوده التي تزري به.
نبي الله هود -عليه السلام- جابهه قومه بالجهل والمراوغة والجدال والمراء والسخرية: (مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود:27]، هذا مقياس الجهلاء في التعامل بين الناس ونظرتهم للمجتمع. (وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) [هود:29].
أما يوسف -عليه السلام- فاختار ضيق السجن على رحابة الجهل : (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف:33]
ونبي الله لوط -عليه السلام- قام يحارب الرذيلة التي شاعت بين قومه، فيوجه لهم الخطاب: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل:54-55].
موسى -عليه السلام- يرفع راية العلم في وسط مجتمع جاهل ما جفت أقدامهم من البحر الذي أنقذهم الله منه حتى استطالوا بألسنتهم جهلا وجدالا فقالوا: (يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف:138].
ثم بدؤوا يسخرون ويتطاولون على أوامر الله وشرعه كما هي عادة الجُهال: (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة:67]؛ فلأن السخرية والاستهزاء من صفات الجاهلين؛ استعاذ بالله من صفاتهم.
وهذا هو سمت المؤمنين الذين لا يخوضون مع الخائضين، ولا يلقون القول على عواهنه: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55].
بل تنزيها للنبي أمره الله تعالى أن يعرض عن كل جاهل، وأن لا يوليه اهتمامه، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) [الأعراف:199]؛ لأن الجاهل يستهلك وقته وجهده وسعيه ثم لا يستفيد منه في شيء .
إن مما أوقع الكثير من الناس في المعاصي والفتن والمصائب والمحن كان بسبب الجهل الذي هو أكبر عدو للعبد، وصدق من قال: "يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه"، فهو ينطلق في تصرفه حسبما يملي عليه هواه.
إن الجهل داء خطير، ومرض عضال، إذا أصاب الشخص كان صاحبه على خطر عظيم، وعلى شفير هاوية، وإن لم يتدارك نفسه وعقله بالعلم والتوجيه كان صاحبه خطرا على نفسه ومجتمعه، فالجاهل طريقه مظلم، ومستقبله غامض، ولا يرجى من ورائه أمل.
والجاهل قد يكون يقرأ ويكتب ويفهم الخطاب، وربما يحسن اللغات، لكنه جاهل، تصرفاته وتحركاته وسلوكه وطريقة كلامه طريقة إنسان جاهل، وإن لبس لباس الكبار.
ولهذا جاء ديننا بكل ما يفتح العقل، ويحمل صاحبه على الخلق العالي، والمبادئ العظام، وحسن التصرف، وطيب السلوك، ورجاحة العقل.
لقد وقف جعفر بن أبي طالب يوما لم ينسه التأريخ في خطاب تأريخي أمام ملك الحبشة النجاشي ليصف مظاهر الجهل وخلق الجاهلية ومبادئها، ليكشف أن الجهل لا يأتي بخير، وأن الإسلام جاء حربا على الجهل .
قال جعفر بن أبي طالب: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله -عز وجل- إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله -عز وجل- لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدّقناه، وآمنا به ... فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفَتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث".
وبهذه الوثيقة يكشف جعفر -رضي الله عنه- للأمة خطر الجهل، وأن الجهال لا تعجبهم خصال الخير، ولا يريدون إلا ما تربوا عليه من ظلمات.
لقد غير الإسلام أخلاق العرب حين أسلموا، ووبخ من تعنت منهم ليرد حكم الله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
ويحكي القرآن فصلا من فصول تلك الجاهلية ومظاهرها وصفاتها النتنة التي ما برح -صلى الله عليه وسلم- يكشف نتنها لأمته، يقول الله تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) [الفتح:26]، حمية لا لعقيدة ولا لمنهج، إنما هي حمية الكبر والفخر والبطر والتعنت.
الحمية التي جعلتهم يقفون في وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه يمنعونهم من المسجد الحرام، مخالفين بذلك لكل عُرف، كي لا تقول العرب إنه دخلها عليهم عنوة...
ففي سبيل هذه النعرة الجاهلية يرتكبون هذه الكبيرة الكريهة في كل عرف ودين، وينتهكون حرمة البيت الحرام الذي يعيشون على قداسته…
الجاهل موازينه مقلوبة، ومقاييسه غير منطقية، تقوده لكل شر.
ولذا يقول الحكماء: الجهل أبو الشرور، والجهالة أمها، وإذا بحثنا عن مصدر الشر وفاعله نجد أن الجهل هو المصدر.
أيها الإخوة: يجب على المرء ألا يخجل من الاعتراف بجهله، ويسعى لإنقاذ نفسه من ذلك الجهل، وخاصة إذا كان المرء يجهل عيوبه، حيث يصبح لزاماً عليه أن يعرف تلك العيوب ويتخلص منها حتى لا ينشرها بين الناس، فمن تربى على الجهل كبر عليه، وعبر عنه بسلوكه وتصرفه وخلقه.
ومن المؤكد إذا عرف الجاهل أسباب جهله يستطيع أن يتخلص من ذلك الجهل، ويصبح حكيماً ينتفع منه المجتمع، وينال من خيره، متّقيا لله تعالى في قوله وفعله وتصرفه وسلوكه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي