الأمر بعبادة الله أول دعوة الرسل، فقد بدأ الخليل دعوته لأبيه بذلك: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) [مريم: 42]. فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر تعتريه العوارض البشرية من مرض، ومصائب، وجراح، كما حصل له في غزوة أحد من الابتلاء والامتحان على أيدي أعدائه، فقد...
الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- اتقوه في السر والعلن، فإن تقوى الله عز وجل سبب للنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.
عباد الله: يقول الله -عز وجل- في محكم التنزيل: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)[الأعراف: 191- 192].
في هذه الآية العظيمة وبَّخ الله -سبحانه- المشركين على جهلهم، وضلالهم، وبيَّن عجز هذه الأصنام من أنها لا تصلح أن تكون معبودة، وذلك بأنها: لا تخلق شيئًا، ومَنْ لا يخلُق لا يستحق العبادة، قال تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً).
ثانيًا: أنها مخلوقة، قال تعالى: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ).
ثالثًا: أنها لا تستطيع نصر من يدعوها، قال - تعالى-: (وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا).
رابعًا: كذلك هي لا تستطيع نصر نفسها، قال - تعالى-: (وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ).
ولا ريب أنَّ هذا من أقوى الأدلة على بطلان الشرك، وعلى أنَّ الذي يستحق العبادة هو الله، الخالق، الرازق، المدبر الذي ينصر عباده الموحدين دون سواه.
قال - سبحانه-: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر: 13- 14].
أخبر الله -سبحانه وتعالى- أنَّ المُلْك له وحده، وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره، فهو المستحق للعبادة لتفرده بصفات الربوبية كالمُلْك، وسماع الدعاء، والقدرة على الإِجابة، ولقد نفى الله -تعالى- عن تلك المعبودات هذه الصفات:
فنفى الملك، إذ لا تملك أدنى شيء ولو كان حقيرًا، قال - تعالى-: (مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ).
ونفى عدم سماع الدعاء، قال - تعالى-: (إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ).
ونفى كذلك عدم القدرة على الاستجابة، فهي لا تستجيب لمن دعاها، قال - تعالى-: (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ).
وأخبر أنّ المعبودات تبرأ من عابديها يوم القيامة، قال - تعالى-: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ).
فهذه دلائل ناصعة في بطلان عبادة غير الله، وإثبات العبادة لله وحده، ولا يخبرنا بعواقب الأمور ومآلها مثل خبير بها، وهو الله - سبحانه وتعالى-: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
أيها المسلمون: في الصحيح عن أنس قال: "شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟" فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران: 128].
وفيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رفع رأسه من الركوع، في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانًا وفلانًا" بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد" فأنزل الله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ).
الرسول صلى الله عليه وسلم عبد من عباد الله، شرَّفه الله بالرسالة، وتلقي الوحي، وتبليغه للناس، وهذه منزلة عظيمة، ومكانة عالية، ودرجة سامية؛ ومع هذا فهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر تعتريه العوارض البشرية من مرض، ومصائب، وجراح، كما حصل له في غزوة أحد من الابتلاء والامتحان على أيدي أعدائه، فقد أصيب صلى الله عليه وسلم في موضعين من جسده: شُجَّ رأسه، وكُسرت رباعيته، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟" استبعد حصول الفوز والسعادة لهم مع فعلهم هذا بنبيهم، ودعا على ثلاثة أشخاص معينين من الكفار، كانوا من أشد الناس عداوة له صلى الله عليه وسلم، فعاتبه ربه جل وعلا بقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) أي: ليس عليك إلا دعوتهم وجهادهم.
وليس في ذلك تنقص للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل الخلق وسيد المرسلين، ولكن الآية تبين منزلته صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله ورسوله، لا يدفع عن نفسه الضر وليس له من الأمر شيء فلا وأنه يجوز الغلو فيه برفعه فوق مكانته التي جعلها الله له فَيُعْبَد من دون الله، فإذا كان هذا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيره من الخلق من باب أولى.
وأفاد الحديث أنَّه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مُبتلى المعاصي؛ فلا نستبعد رحمة الله منه، فإنَّ الله - تعالى - قد يتوب عليه. فهؤلاء الذين شجُّوا نبيهم لما استبعد النبي صلى الله عليه وسلم فلاحهم؛ قيل له: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ).
والرجل المطيع الذي يمرُّ بالعاصي من بني إسرائيل، ويقول: "والله، لا يغفر الله لفلان، قال الله له: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك"؛ فيجب على الإِنسان أن يحفظ لسانه لأنَّ زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قومًا كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم وعداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا نستبعد رحمة الله بقوم كانوا عُتاة؟! وما دام الإِنسان لما يمت فكل شيء ممكن، كما أنَّ المسلم - نسأل الله الحماية - قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.
فالمهم أنَّ هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أن لا نستبعد رحمة الله بأي إنسان كان عاصيًا.
وفي غزوة أحد عبر ودروس كثيرة، منها:
أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فقد هدى الله - سبحانه - هؤلاء الثلاثة الذين دعا عليهم صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامهم.
وثانيها: عدم اليأس من هداية أحد وإن تمادى في الكفر والضلال، فالقلوب بيد الله - سبحانه-.
وثالثها: إثبات وقوع الابتلاء بالأنبياء لينالوا جزيل الثواب، ولتعرف الأمم ما أصابهم، فيتأسوا بهم، قال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" [رواه الحاكم].
ورابعها: وجوب التحلي بالصبر وتحمل الأذى في سبيل الدعوة إلى الله.
عباد الله: روى الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] فقال: "يا معشر قريش" أو كلمة نحوها "اشتروا أنفسكم لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية - عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا أغنى عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا".
كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على دعوة الناس جميعًا، امتثالاً لقوله - سبحانه وتعالى-: (أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ) [يونس: 2] فقام بواجب الدعوة مبشرًا ونذيرًا، ولما نزل عليه الأمر بإنذار قربته لأنهم أحق الناس ببره وإحسانه الديني والدنيوي، كما قال - تعالى-: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع صلى الله عليه وسلم قريشًا قائلاً: "اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا" أي: خلصوها من عذاب الله بالتوحيد والعمل الصالح؛ لأنه ثمن النجاة، لا الاعتماد على الأحساب والأنساب، فإنها لا تُغني من الله شيئًا.
ونادى الرسول صلى الله عليه وسلم عمه وعمته، وأمرهم أن يُخلِّصوا أنفسهم من عذاب الله بالتوحيد والعمل الصالح، فمجرد قرابتهم منه لا تنفعهم ولا تنجيهم من عذاب الله، ثم خص بالنذارة من هي بضعة منه (ابنته فاطمة) - رضي الله عنها - وقال لها: "سليني من مالي ما شئت"؛ لأن هذا هو الذي يقدر عليه صلى الله عليه وسلم، أمَّا الهداية والفوز بالجنة، والنجاة من النار فلا تُطلب إلا من الله، فإذا كان صلى الله عليه وسلم لا ينفع عمه ولا عمته، ولا ابنته فغيرهم من باب أولى.
وهذا الحديث حجة على من تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه من دون الله ليشفع له، أو يدفع عنه الكروب، فإن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله - سبحانه-، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتحذير منه، ومن عرف الله، وعرف الخلق نزه الخالق عن الشركاء، وأخلص له وحده.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون: 117].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله يهدي إلى الطيب من القول ويهدي إلى صراط الحميد، أحمده
-سبحانه- وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدبه ربه فأحسن تأديبه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن الدخول في دين الله لا يصح إلا بإعلان وحدانية الله، وهو آخر ما يخرج به المسلم من الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" [رواه مسلم]، والوقوع في ضده أعظم من قتل الأولاد، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب عند الله أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًا وهو خلقك" قلت ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك" [رواه البخاري]؛ لذا تأكد النهي عن الشرك في القرآن وتكرر الأمر بالتوحيد، أبدى الله فيه وأعاد، وضرب لذلك الأمثال.
والأمر بعبادة الله أول دعوة الرسل، فقد بدأ الخليل دعوته لأبيه بذلك: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) [مريم: 42].
ودعا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد عشر سنين قبل فرض الفرائض تعظيمًا لشأنه، وأرشد الدعاة إلى أن يكون الأمر بالتوحيد أول دعوتهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وإمام الموحدين إبراهيم -عليه السلام- دعا ربه بقوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35]. قـال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟
ولقد وصى الأنبياء بنيهم بالثبات على الدين الصحيح والعقيدة الصافية حتى الممات: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [البقرة: 132].
وقد سأل يعقوب - عليه السلام - وهو على فراش الموت أبناءه: (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي).
ليطمئن على استمرارهم على التوحيد بعد وفاته: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 133].
هذا، وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي