وحقيقة السندات التقليدية هي أن تصدر الشركة أو البنك المركزي مثلاً تعهّدًا بدفع مبلغ لحامله بعد مدة كسنة مثلاً مقابل شرائه بمبلغ أقل حالاً، كأن تحتاج الشركة لتمويل نقدي لتوسيع نشاطها التجاري، فتصدر السندات بمبلغ عشرة آلاف ريال تدفع بعد سنة من تاريخ شرائها، فتبيعها الشركة حالاً بسبعة آلاف ريال مثلاً، فيجتمع الربا بنوعيه ربا الفضل والنسيئة. ولا أظنه يخفى على متابع أن المجامع الفقهية ولجان الفتوى في طول العالم الإسلامي وعرضه كلها...
إنه لا أحد أعلم بما ينفع الناس من ربهم، ولا أعرف بما يُصلح الخلق من خالقهم، فهو العليم الحكيم واللطيف الخبير، خلق الخلق لعبادته، ودلهم على هدايته، وأرشدهم إلى ما يسعدهم، وحذَّرهم مما يضرهم، شرع من الأخلاق أكملها، وقضى من الأحكام أعدلها.
ولما خلق الله تعالى الأرض وما عليها وأسكنها آدم وذريته جعل فيها من الأرزاق والمنافع ما تصلح به أحوالهم، ويستقر معاشهم، ويحفظ عليهم أمنهم، وأنزل -سبحانه وتعالى- عليهم من الشرائع ما ينظم حياتهم، ويهذب أخلاقهم، ويدلهم على ما ينفعهم، ويحجزهم عما يضرهم، وأمرهم بها، وحذرهم من تركها: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18].
ومما جاءت به الشريعة ونظمته ولم تترك البشر يخوضون فيها بأهوائهم ما يتعلق بالأموال وتبادلها وكسبها وإنفاقها؛ إذ إن الأموال قيام البشر وأساس حضارتهم وعمرانهم؛ فحسن تعاملهم بها يعود عليهم بالأمن والرخاء والاستقرار وسوء استخدامهم لها، يكون سببًا للخوف والجوع والاضطراب. والمال مال الله تعالى، والرزق رزقه سبحانه، وَهَبَه للبشر، وسخّره لمعايشهم، فوجب عليهم أن يتصرفوا فيه وفق شريعته -عز وجل-؛ ليتحقق العدل ويرفع الظلم.
وللمال في نفسِ الإنسان حظوةٌ وشرَه وتطَلُّب حثيثٌ، إذا لم يُحكَم بميزان الشّرع والقناعةِ والرّضا فإنه سيصِل بصاحبه إلى درجةِ السّعار المسمومِ والجشَع المقيت. ولا جرَم -عباد الله-، فإنّ حبَّ ابنِ آدمَ للمال ليسرِي في جسدِه سَرَيان الدّم في العروق، كيف لا والله -جلّ وعلا- يقول عن ابن آدم: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8]، أي: المال، ويقول سبحانه عن جماعةِ بني آدم: (وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:20].
والشرع المطهّر جاء بتشريعات ربانية عادلة للحصول على الأموال بطرق مباحة تنافسية شريفة، لا ظلم فيها ولا شطط، ولا غبن فيها ولا غرر، بعيدة عن أكل أموال الناس بالباطل، أو ظلمهم لبعض في المكاسب، أو بتكديس المال عند طائفة بعينها، كما هو واقع ويقع في التعامل بالربا، وفي الاقتصاديات القائمة عليه. قال تعالى: (كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ) [الحشر:7]؛ ولذا جاء تشديد تحريم الربا والتحذير منه والوعيد عليه بأعظم العقوبات؛ لما يترتب عليه من مفاسد وخيمة وأضرار جسيمة وانهيارات اقتصادية أليمة، كما رأيناه يقع في كبريات المصارف والشركات والمصانع في الأزمة المالية الحالية.
الربا -يا أيها المسلم- قليلاً كان أم كثيرًا، حرام حرام حرام، إي وربي حرام، كبيرة من الكبائر، موبقة من الموبقات، مهلكة من المهلكات، ومن أعظم الجرائم وأشد العظائم وأقبح الرذائل. الربا يهلك الأموال ويمحق البركات ويجلب الحسرات ويورث النكسات، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة:276]. الربا دمار للأفراد والشعوب وإشعال لفتيل الحروب. الربا هلاك للأمم والمجتمعات، بل صغار وذلة للمتعاملين به، ولا أدلّ على ذلك من هذه النكبات التي حطّت رحالها بأمة محمّد -صلى الله عليه وسلم-؛ من حروب مدمرة وفيضانات عارمة وكسوف وخسوف ورياح عاتية، وقتل وسرقات وجرائم واغتيالات ونهب للممتلكات، كوارث وحوادث ليس لها من دون الله كاشفة، ولا منجى منها إلا بتوبة صادقة وفرار إلى الملك الجبار ورجوع إلى الله الواحد القهار.
من يأكل الربا يعلنُ الحرب على الله ورسوله، فيا تُرى من يحارب الله ورسولَه أتراه ينتصر؟! أتراه يكسب في الباقية؟! قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ * وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا يأكلُه الرجلُ وهو يعلم أشدُّ من ستةٍ وثلاثين زنية". رواه أحمد عن عبد الله بن حنظلة -رضي الله عنه- وصححه الألباني.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرُها مثلُ أن ينكحَ الرجلُ أمه". صححه الألباني في صحيح الترغيب. وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "هم سواء". رواه مسلم.
فاتق الله في نفسك إن كنت ممن يساهم في الأسهم الربوية، ولا تعرّضْ نفسَك وأهلكَ لأكلِ الحرام. وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أُريت الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجلَ بحجر في فيه فردّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟! فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا". رواه البخاري.
ولذلك -أيها المسلمُ- لا تجرح دينك بسهمِ ربا، وإلا فإنك تعلن الحرب على الله ورسوله. وإذا أردتَ شراءَ أسهمِ أيِّ شركةٍ فعليك أن تتثبّتَ من أنَّ نشاطَها مباح ونقيّ، فلا يصحُّ بحالٍ أنْ تساهمَ في شركاتِ التأمينِ التجاري أو البنوكِ الربوية أو الشركاتِ المصنعةِ للسلعِ التي حرمها الله تعالى كالدخانِ أو الخمرِ وما شابه ذلك، أو أنْ تشارك في الشركةِ التي ما سلمت من الربا إيداعًا واقتراضًا.
رُبَّ سهمٍ يأكلُ منه الإنسان يحرِمه من دعوة مستجابة، قد يأتيك مرض أو همّ أو نكبة، فترفع يديك إلى الله: يا رب، يا ربّ، فلا يستجيب الله لك. وقد ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرجلَ يطيل السفر أشعث أغبر، يمُدُّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فأنى يستجابُ لذلك؟!". رواه مسلم.
ورُبّ سهم ربويّ كان شؤمًا على صاحبه، فسلّط الله عليه بسبَبه الآفات المهلكة والكوارث المدمرة؛ من غرق أو حرق أو لصوص أو نهب أو أنظمة جائرة أو مكوس ظالمة، تذهب به جميعه، وكم رأى الناس وعاينوا وشاهدوا وعايشوا عاقبةَ الربا على أصحابه، فكم من الأثرياء المساهمين بالربا محق الله ما بأيديهم، حيث أصابتهم الديون، فأخذهم الله بعذاب الهون، فصاروا عالة على الناس يتكفّفون، وصدق الله العظيم القائل: (فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء:160، 161].
رُبَّ سهم من الأسهم أمرض مستثمريها ومضاربيها، فسبّب لبعضهم أمراضًا نفسية وحالات عصبية وضيقًا وهمًّا!!
رُبَّ سهم من الأسهم -يا مسلمون- أصاب مقتلاً في اقتصادنا التجاري، فعطَّل الناس عن تطوير البلد وإنشاء المصانع وإقامة المشاريع، فتقلّصت حركة البناء، وارتفع مؤشر البطالة، وتراكمت الديون، وأصاب الفتورُ الحركة التجارية.
وعلينا -أيها الناس- أن لا ننفرط بالكلية في وضع أموالنا في هذه المساهمات، أقصد المساهمات النقية، وأن يتفطّن الإنسان في إيجاد المكاسب التجارية التي تعود عليه وعلى أهل البلد بالخير والفائدة، ولا يصبحُ الإنسان طُعمًا سهلاً للكبارِ دون أن يشعر، من أجل أن لا يصبح بين لحظات في قطار المفلسين.
كم من سهمٍ محرم -أيها المسلمون- ضيّع أمانة المسلم بسبب غشّه وخداعه في تعاملِه مع الناسِ.
ماذا ينفعُ الإنسانَ حرصهُ على جمعِ حطامِ الدنيا دون تحرٍ للحلال إذا أُوقف على سقر؟! (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ - عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ). ماذا ينفعُه حينئذ حرصهُ على ارتفاع أو انخفاض مؤشّر الأسهم وقد ضيع الواجبات وفرط في الفرائض إذا أوقف بين يدي الله تعالى، وبدأ يبحثُ يمنةً ويسرةً عن حسنةٍ واحدةٍ تُنجيه بإذن الله تعالى من ناره وجحيمه؟! لِنَكن ممن قال الله فيهم: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور:37]، يقول الله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا). قال سفيانُ بنُ عيينة -رحمه الله-: "لا يُصيبُ عبد حقيقةَ الإيمانِ حتى يجعلَ بينَه وبين الحرامِ حاجزًا من الحلال، وحتى يدعَ الإثمَ وما تشابه منه". نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.
فالله الله في أكل الحلال وتحري طرق كسب الحلال، والحذر الحذر من المكاسب الخبيثة والمعاملات المحرمة والعقود المشتبهة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]. قال القرطبي: "سوى الله تعالى بين النبيين والمؤمنين في الخطاب بوجوب أكل الحلال وتجنب الحرام، ثم شمل الكلّ في الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)".
ففي أكل الحلال صلاح للقلوب ونجاة من الهلاك ولذة الإيمان؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. فلا ننسق خلف البنوك الربوية والدعايات الصحفية التي تُروج تحت شعارات مضللة وروايات باطلة بأسماء منمقة، كالخدمات البنكية والنظام المصرفي والمداينات الآمنة والتورق المنظم والقرض والفائدة وحساب التوفير وودائع الائتمان ونحو ذلك، لمَّا تغيَّر اسم الربا إلى تلك الأسماء انساق الناس وراءَ ترّهات الأحلام وسفهاء الأقلام، فوقعوا في الربا عيانًا بيانًا.
فيا حسرةً على العباد! تاهوا في كل واد، والمال فتنة كما قال تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:28]، وقد صحّ عند الترمذيّ وغيره أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع"، وذكر منها: "وعن مالِه: من أين اكتسبه؟! وفيم أنفقه؟!".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:130-132].
أقول قولي هذا...
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لقد تفاجأ المسلمون والاقتصاديون المنصفون بافتتاح شركة السوق المالية السعودية (تداول) السبت الماضي سوقًا للصكوك والسندات الآلي، فيا لله العجب! نحن نعيش منذ أشهر وحتى الساعة ونشهد النكسات الاقتصادية والأزمة المالية العالمية بسبب المراهنات على صكوك وسندات العقارات الأمريكية الربوية، وما جرته على العالم كله بلا استثناء من ويلات وخسائر ومصائب، ثم نأتي ونكرر التجربة الرأسمالية الأمريكية الفاشلة؛ لنخسف باقتصادنا، وليستولي بعض الذئاب على ما بقي من أموال متواضعة في أيدي محدودي الدخل من أموال ومدخرات.
وحقيقة السندات التقليدية هي أن تصدر الشركة أو البنك المركزي مثلاً تعهّدًا بدفع مبلغ لحامله بعد مدة كسنة مثلاً مقابل شرائه بمبلغ أقل حالاً، كأن تحتاج الشركة لتمويل نقدي لتوسيع نشاطها التجاري، فتصدر السندات بمبلغ عشرة آلاف ريال تدفع بعد سنة من تاريخ شرائها، فتبيعها الشركة حالاً بسبعة آلاف ريال مثلاً، فيجتمع الربا بنوعيه ربا الفضل والنسيئة. ولا أظنه يخفى على متابع أن المجامع الفقهية ولجان الفتوى في طول العالم الإسلامي وعرضه كلها منعت من إصدار السندات التقليدية، ومن تداولها بيعًا وشراءً، فمثلاً جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، جاء فيه قرار خاص بالسندات، ونصه:
أولاً: إن السندات التي تمثل التزامًا بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعًا من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول؛ لأنها قروض ربوية، سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة، ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكًا استثمارية أو ادخارية، أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحًا أو ريعًا أو عمولة أو عائدًا.
ثانيًا: تحرم أيضًا السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضًا يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق بصفتها خصمًا لهذه السندات.
ثالثًا: كما تحرم أيضًا السندات ذات الجوائز، بصفتها قروضًا اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار.
رابعًا: من البدائل للسندات المحرمة -إصدارًا أو شراءً أو تداولاً- السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين، بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك، ولا ينالون هذا الربح إلاّ إذا تحقق فعلاً. اهـ.
وصدر بمثل هذا القرار قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي وقرار من هيئة كبار العلماء بالمملكة، وعموم لجان الفتوى والهيئات الشرعية.
إنها خطوة جريئة أن تقدم السوق المالية على مثل هذه الخطوة بطرح السندات التقليدية؛ لأنها تعني أن يفتح المجال على مصراعيه ليكتتب الناس في السندات، فيطرق الربا كل بيت، ويتسلل إلى كل دار، ويلغ الناس فيه بيعًا وشراءً كل يوم وكل لحظة! والعجيب أن يُعلن عن هذه الخطوة في هذا الوقت بالذات، والذي تجرع العالم فيه لوعة السندات، وذاقوا فيه ويلاتها إبان الأزمة المالية العالمية التي يشهدها العالم اليوم! والأعجب أن يكون هذا التوقيت في الوقت الذي تنفتح فيه المؤسسات والبنوك والأسواق المالية العالمية على المنتجات الإسلامية، فهل هي محاولة لإفشال هذا الاتجاه العالمي ممن ليس لديه القناعة بالمصرفية الإسلامية ليعلن عن هذه الخطوة في عمق العالم الإسلامي؟!
إن الصكوك الإسلامية (الحقيقية) تعزز الاستثمار الحقيقي، وتكرس الشراكة، وتساعد على تدويل المال بين الأغنياء والفقراء، ويقتسم فيها الجميع الربح والخسارة. أما السندات التقليدية فهي تعزز من استثمار النقود في النقود ذاتها، وتهيئ لطفيليات تعيش على امتصاص الدماء الحية، ومن هنا فإنه يجب أن يكف المسؤولون في شركة (تداول) وفي هيئة سوق المال عن فتح هذه السوق، وأن يتقوا الله في تجارات المسلمين وبيوعاتهم، وأن يراعوا فيها أن تكون مصونة بالعدل والقسط، محفوظة بحفظ الشريعة الإسلامية.
ولنحذر جميعًا من تداول هذه السندات الربوية المحرمة، فلا خير فيما حذرنا منه ربنا وخالقنا سبحانه، ولا بركة فيما حرمه علينا رازقنا العليم الخبير تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14].
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا وعلمًا نافعًا وعملاً صالحًا متقبلاً ورزقًا حلالاً واسعًا وشفاء من كل داء. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي