يظنون بالله غير الظن

عبد الملك بن محمد القاسم
عناصر الخطبة
  1. الصراع بين الحق والباطل .
  2. أنواع سوء الظن بالله وحكم كل نوع .
  3. وجوب حسن الظن بالله .
  4. بعض صور سوء الظن بالله .
  5. مفاسد سوء الظن بالله .

اقتباس

إن الواجب على العبد أن يُحسن الظن بالله في جميع ما يقضيه ويقدره؛ كوعده بنصر المؤمنين، وإجابة دعاء الداعين، كما عليه أن يراجع نفسه، فإن كان قد وقع في سوء ظن بربه فعليه المبادرة إلى التوبة، وأن... فسر هذا الظن بأنه- سبحانه- لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهر على الدين كله؛ وهذا هو...

الخطبة الأولى

الحمد لله مصرف الأوقات، وميسر الأقوات، فاطر الأرض والسموات، أحمده- سبحانه- وأشكره، والى علينا نعمه وإحسانه، فهو أهل الفضل والمكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا لعبادته ويسر لنا سبل الطاعات، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، جاء بالحنيفية السمحة، ويسير التشريعات، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد أكرم البريات، وعلى آله السادات، وأصحابه ذوي المقامات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: أوصيكم- ونفسي- بتقوى الله- عز وجل- فإن تقوى الله خلفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128].

أيها المسلمون: الصراع في هذه الدنيا سجال بين الحق والباطل، بين أهل الخير وأهل الشر؛ بين أهل الإِسلام وأصحاب الكفر؛ وفي ذلك من الحكم البالغة ما لا يعلمه إلا الله- عز وجل-، ففيها من تمحيص المؤمنين، ورفع الدرجات، وتحصيل الأجور؛ وإقامة الحجة والخزي والعار على الكافرين.

ها هم الكفار والمنافقون يتمنون للمسلمين الهزيمة والهلاك، في كل حين وزمان؛ وظهر ذلك جليًا في معركة أحد، كما قال الله- تعالى- عنهم: (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران: 154].

فحال المنافقين عند الشدائد يظهرون ما عندهم من النفاق؛ فقد ظنُّوا أن الله لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل، وأن الأمر لو كان إليهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعًا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم؛ فأكذبهم الله في هذا الظن:(قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران: 154] يعني القدر خيره وشره، فقضاء الله نافذ لا محالة.

وقد توعد الله- سبحانه- المنافقين الذين يتهمون الله في حكمه، ويظنون أن الله لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه على أعدائهم، بأن دائرة العذاب والذل لازمة لا تتخطاهم، وغضب الله عليهم وأبعدهم عن رحمته وأعد لهم نار جهنم: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [الفتح: 6].

عباد الله: ينقسم سوء الظن بالله إلى قسمين:

الأول: قد يكون سوء الظن بالله كفرًا ينافي التوحيد بالكلية كظن الكفار والمنافقين في الآيتين الكريمتين، فقد زعموا أن الله لا ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن أمره سيضمحل، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر وحكمة وهذا ظن سوء بالله، مُكذِّب لقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر: 51].

وقوله تعالى: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173] وقد أظهر الله دين الإِسلام على جميع الأديان، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

وقد يديل الله الباطل أحيانًا على الحقَّ؛ تمحيصًا ورفعة لأهل الحق، وغرورًا لأهل الباطل، ثم تكون العاقبة للمتقين.

الثاني: قد يكون سوء الظن بالله من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد، كظن بعض عصاة الموحدين: إذا رأى رجلاً صالحًا مريضًا، قال: فلان ما يستاهل.

أو إذا رأى فاسقًا غنيًا، قال: هذا ما يستحق هذه الأموال!

أو إذا أصابه بلاء في نفسه أو ماله ظن أنه غير مُستحق له!

فهذا كله من الاعتراض على الله، إذ هو- سبحانه- أعلم بأحوال عباده، وله الحكمة البالغة فيما يقتضيه ويقدره على عباده من صحة، ومرض، وغنى وفقر، وغير ذلك (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].

والطريق إلى السلامة من سوء الظن بالله: هو معرفة الله بأسمائه وصفاته ولا سيما أسمائه: العليم، الحكيم، الحميد، القدير، ومعرفة وعده الصادق.

إن الواجب على العبد أن يُحسن الظن بالله في جميع ما يقضيه ويقدره؛ كوعده بنصر المؤمنين، وإجابة دعاء الداعين، كما عليه أن يراجع نفسه، فإن كان قد وقع في سوء ظن بربه فعليه المبادرة إلى التوبة، وأن لا يظن بربه إلا الظن الحسن.

قال ابن القيم في قوله تعالى: (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).

فسر هذا الظن بأنه- سبحانه- لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهر على الدين كله؛ وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح وإنما كان هذا ظن السوء، لأنه ظن غير ما يليق به- سبحانه- وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.

فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق أدلة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك: (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص: 27].

وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء.

ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمُستقل ومُتسكثر وفتش نفسك: هل أنت سالم؟

فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة *** وإلا فإني لا أخالك ناجيًا

لأن الله وعد ورسوله أن ينصره، ويظهر أمره ودينه على الدين كله، فمن ظن أن دينه سيضمحل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء، ومن قنط من رحمته، وأيس من روحه، أو جوز عليه أن يعذب أولياءه على إحسانهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى، أو أنه لا يجمعهم بعد الموت للثواب والعقاب فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه، وأنه يحسن منه كل شيء، حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه، وترك الحق لم يخبر به، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه وسنة رسوله فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه، دون الله ورسوله وأن الهدى في كلامهم، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أن يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يقدر على إيجاده وأنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، ولا يتكلم ولا يُكلم وأنه ليس فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه فيدعونهم ويرجونهم فقد ظن به ظن السوء.

فليعتن اللبيب الناصع لنفسه بهذا، ليتب إلى الله، ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هو مأوى كل سيئ، ومتبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فإنها أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام، والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله؛ فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأسماؤه كلها حسنى، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل.

فلا تظنن بربك ظن سوء *** فإن الله أولى بالجميل

ولا تظنن بنفسك قط خيرًا *** فكيف بظالم جان جهول

واقتراحًا عليه وأنه يستحق خلاف ما جرى به القدر، بل يبوحون بذلك ويصرحون به جهارًا في كلامهم وأشعارهم، وهذه حالة كما قال ابن الجوزي وغيره قد شملت خلقًا كثيرًا من العلماء والجهال، أولهم إبليس، وقال: الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارًا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظروا ما أعطاهم الله مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم ويذم مُعطيهم، حتى يقول: فلان يُصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ويظهر الإِعجاب كأنه ينطق: لو كانت الشرائع حقًا لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيًا والفاسق فقيرًا، وقال صدقة بن الحسين الحداد- وكان فقيهًا وعليه جرب، فقال: ينبغي أن يكون هذا على جمل لا علي، وكثير من العوام إذا رأى رجلاً صالحًا مؤذى، قالوا: هذا ما يستحق، أو هذا ابن حلال! كأن الله ظلمه أو يذمه كأنه لا يستحق، قدحًا في القدر، وارتفاعًا على الخالق- جل وعلا- في التحكم عليه، حتى كأن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكًا لله- تعالى- في ملكه، والله- سبحانه- هو العليم الحكيم، يضع الأشياء مواضعها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5].

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله ما خاب من رجاه ولا أضاع من دعاه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإِسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادكم وأقدامكم على النار لا تقوى، والزموا جماعة المسلمين، فمن شذ عنهم شذ في النار، واعلموا أنكم محاسبون وعلى أعمالكم مجزيون، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، فاستعدوا لما أمامكم وحاسبوا أنفسكم فالكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

عباد الله: إن ظن السوء ينافي الإِيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا؛ لأن الله- تعالى- قال عن أسمائه: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)[الأعراف: 180].

فإذا ظن بالله ظن السوء؛ لم تكن الأسماء حسنى، وقال سبحانه وتعالى في صفاته العلا: (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ) [النحل: 60] وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى.

فاعرفوا لربكم قدره، وعظموه أمره، واجتنبوا نهيه، تكن لكم الجنة دار مستقر ورحمة، بمنه وجوده ورحمته.

هذا، وصلوا وسلموا.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي