إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (1)

محمد أبوعجيلة أحمد الككلي
عناصر الخطبة
  1. التعريف بالإمام أحمد .
  2. من فضائله وعلمه -رحمه الله- .
  3. زهده في الدنيا .
  4. نماذج من ورعه وخوفه وعبادته .
  5. الإمام وثباته في الفتنة .
  6. عفوه عمن أساء إليه وآذاه .

اقتباس

عظيمُنا أحدُ الأئمَّة الأعلام، ومِن الأفذاذ الذين قلَّما يجود الزمان بمثلهم، أحاط بالمجد من جميع أطرافه، وبَرز في كثيرٍ من العلوم، فهو عند المحدِّثين: إمامُهم، وعند الفقهاء: سيِّدُهم، وعند الحفَّاظ: أميرُهم، وعند الشجعان: رائدُهم، وعند الثابتين على الحق: قائدُهم، عالِمٌ لا كالعلماء، وعَلَمٌ لا كالأعلام، يُعدُّ بجدارة إمامَ القرن الثالث الهجري، فريدُ عصره، ونادرة دهْره، قَلَّ...

الخطبة الأولى:

الحديثُ عن العظماء من العلماء ليس أمرًا سهلاً، فمهما اجتهدتَ لتستوعبَ حياة أحدهم فسيعجز قلمُك، ويقصر عِلمُك؛ بل قد يغيب عنك الأهمُّ دلالةً، والأبلغ تأثيرًا، سيرة العظماء من العلماء الأوائل هي القُدوة المُثلَى، وإبرازها تحفيزٌ لفتيانِنا وفتياتنا؛ للإفادة منها، ولئلاَّ يلتفتوا لقدوات هزيلة هابطة، لا وزنَ لها في الحياة، ولا قِيمة لها في التاريخ.

حديثنا عن العلماء ليس تعصُّبًا لأحد منهم، فكلُّ إنسان يُؤخذ منه ويُردُّ، إلاَّ المعصوم.

عظيمُنا أحدُ الأئمَّة الأعلام، ومِن الأفذاذ الذين قلَّما يجود الزمان بمثلهم، أحاط بالمجد من جميع أطرافه، وبَرز في كثيرٍ من العلوم، فهو عند المحدِّثين: إمامُهم، وعند الفقهاء: سيِّدُهم، وعند الحفَّاظ: أميرُهم، وعند الشجعان: رائدُهم، وعند الثابتين على الحق: قائدُهم، عالِمٌ لا كالعلماء، وعَلَمٌ لا كالأعلام، يُعدُّ بجدارة إمامَ القرن الثالث الهجري، فريدُ عصره، ونادرة دهْره، قَلَّ أن يجود الزمن بمثله، إنَّه إمام أهل السُّنَّة، الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله-.

قال عنه الإمام الذهبي -رحمه الله-: "عالِم العصر، وزاهد الدهْر، ومحدِّث الدنيا، وعَلَمُ السُّنَّة، وباذل نفسِه في المحنة، قَلَّ أن ترى العيونُ مثلَه، كان رأسًا في العِلم والعمل، والتمسُّك بالأثر، ذا عقلٍ رزين، وصِدْقٍ متين، وإخلاصٍ مكين، انتهتْ إليه الإمامةُ في الفقه والحديث، والإخلاص والورع، وهو أجلُّ من أن يمدح بكلمي، أو أن أفوهَ بذِكْرِه بفمي".

وُلِد الإمام أحمد -رحمه الله- ببغداد، وتوفِّي أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فكفلتْه أمُّه، ويُنسب إلى جدِّه لشهرته.

نشأ الإمام أحمد ببغداد، وتربَّى فيها تربيتَه الأولى، وشبَّ على حبِّ العِلم، واستمرَّ في طلب العلم بعزم صادق، حَفِظ القرآن، وأقبل على الحديث والأثر، حتى حفظ مئات الألوف من الأحاديث، وألَّف المسند في مدة ستِّين سَنة تقريبًا.

يقول عنه الإمام الشافعي -رحمه الله-: "خَرَجتُ مِنْ بَغْداد، فَمَا خَلَّفتُ بِها رَجلاً أَفْضلَ، ولا أَعْلَمَ، ولا أَفْقَهَ، وَلاَ أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ".

وقال ابنه عبد الله: قال لي أبو زُرعة: "أبوك يحفظ ألْفَ ألْفِ حديث"، فقيل له: وما يُدرِيك؟! قال: "ذاكرتُه فأخذتُ عليه الأبواب"، ويقول ابن الجوزيِّ عن الإمام أحمد: "كان -رضي الله عنه- شديدَ الإقبال على العِلم، سافَرَ في طلبه السفر البعيد، ووفر على تحصيله الزمانَ الطويل، ولم يتشاغل بكسْب ولا نِكاح حتى بلغَ منه ما أراد".

والعلماء لهم منزلةٌ عظيمة، ومكانةٌ رفيعة، فهم ورثة الأنبياء، والعلم تاجٌ يرفع مِن ذِكْر الإنسان ويُعلي قدرَه، وكم من أصيل النَّسب حطَّه الجهل! وكم من وضيع النسب رَفَعَه العِلم فوقَ جميع الناس!

الْعِلِـمُ يَرْفَـعُ بَيْتًا لاَ عِمَـادَ لَهُ *** وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ

ويزداد فضلُ الإنسان ومكانته بزيادة عِلمه، والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- جَمَع الأمرَيْن معًا، ما جعل شيوخَه قبل تلاميذه يُقدِّرونه، ويُجلُّونه، ويحترمونه، ويبجِّلونه، ويقصدونه للسلام عليه.

عُرضتْ عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها، كان صابرًا محتسبًا، وعلى نهْج الصالحين متبعًا؛ قال -جلَّ وعلا-: (وَجَعَلنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].

فبالصبر تُترك الشهوات، وباليقين تُدفع الشبهات؛ قال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبرِ) [العصر: 3]، وكان الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- زاهدًا قانعًا، وكان على قدم السلف الصالح سالكًا، فلم يقبل هدايا الخلفاء والسلاطين، قال إسحاق بن موسى الأنصاريُّ: "دَفَع إليَّ المأمون مالاً فقال: اقسمْه على أصحاب الحديث، فإنَّ فيهم ضعفًا، فما بقي أحدٌ إلاَّ أخذ، إلاَّ أحمد بن حنبل فإنَّه أبَى".

وكان يقول: "إذا ذُكِر الموت هان عليَّ كلُّ شيءٍ من أمر الدنيا، وإنَّما هو طعامٌ دون طعام، ولِباس دون لباس، وإنَّها أيَّام قلائل، ما أَعْدِل بالفقر شيئًا"، وكان يأكل مِن عمل يده، وإذا وجد خصاصةً كان يؤجِّر نفسه للحمل في الطريق، وعن زهده قال صالح بن أحمد: "ربَّما رأيتُ أبي يأخذ الكِسَر، ينفض الغبارَ عنها، ويصيرها في قصْعَة، ويصبُّ عليها ماءً، ثم يأكلها بالمِلْح، وما رأيته اشترى رمَّانًا ولا سَفَرْجَلاً ولا شيئًا من الفاكهة، إلاَّ أن تكون بطيخة -فيأكلها بخبز- وعنبًا وتمرًا".

وقال ابنه عبد الله: كان أبي أحرصَ الناس على الوحدة، لم يرَه أحدٌ إلاَّ في المسجد، أو حضور جنازة، أو عيادة مريض، وكان يكره المشيَ في الأسواق، ولا يدع أحدًا يتبعه، وتلك والله مقاماتُ العظماء، ومناهج العلماء الأتقياء.

وعن شدَّة خوفه من ربه -جل وعلا- قال المَرُّوذيُّ: "كان الإمام أحمد إذا ذُكِر الموت خنقتْه العَبْرةُ، وكان يقول: الخوفُ يمنعني أكْلَ الطعام والشراب"، قال ابنُه عبد الله: "دخلتُ عليه يومًا من الأيَّام في غرفة مظلمة، فوجدتُه متربعًا يبكي، فقلت له: يا أبي: ما شأنك؟! لِمَ تجلس هذه الجِلْسة وتبكي؟! قال: يا بني: أتفكَّر في القبر وأهواله، أتفكر في اليوم الآخِر. فقلت: يا أبي، هلاَّ اتكأت؛ أي: أنت رجل كبيرٌ في السِّنِّ، هلاَّ استندتْ على الحائط؟! قال: أستحي أن أناجِيَ ربِّي وأنا متكئ".

وكان من شدَّة ورعه -رحمه الله- أنَّه لا يُحدِّث إلاَّ في كتاب خشيةَ الزلل، مع قوَّة حافظته، وشدَّة عارضته، ولا يسمح بتدوين فتاواه، ولا يرى تأليفَ الكتب تقوىً وورعًا منه -عليه رحمة الله-، قيل: إنَّه لسعة علمه أجابَ عن ستين ألف مسألة بـ"قال الله، وقال رسوله، وفتاوى الصحابة -رضي الله عنهم-".

وعن عبادته: فقد صحَّ عنه بأسانيد، أنَّه كان يصلِّي في كلِّ يوم ثلاثمائة ركعة، قال ابنه عبد الله: فلَّما جُلِد كان يصلِّي مائة وخمسين ركعة.

ويقول الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-: سمعتُ أبا عصمة بن عاصم البيهقيَّ يقول: بتُّ ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضَعَه، فلمَّا أصبح نظر إلى الماء، فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله، رجلٌ يطلب العِلم لا يكون له وِردٌ من الليل!!

وكان -رحمه الله- سليمَ القلب، يعفو عمَّن أساء إليه، أغلظ له رجلٌ الكلام، وترَكَه مغاضبًا، ثم عاد إليه نادمًا، وقال له معتذرًا: "يا أبا عبد الله: إنَّ الذي كان مني على غير تعمُّد، فأنا أحبُّ أن تجعلني في حلٍّ، فقال الإمام أحمد: "ما زالتْ قدماي من مكانها حتى جعلتُك في حلٍّ".

وأمَّا حياته الأسريَّة، فلم تشغلْه همومُ العلم والدعوة والإصلاح والجهاد عن أسرته، وحسن العشرة لأهلِه وزوجه، يقول الإمام أحمد -رحمه الله-: تزوجتُ أمَّ صالح، فأقامت معي ثلاثين سَنَة، فما اختلفتُ أنا وهي في كلمة واحدة.

ولعلَّ أعظمَ مِحنة وفتنة تعرَّض لها الإمام أحمد -رحمه الله- هي مِحنةُ خَلْق القرآن، استطاع المعتزلةُ خلالها التسللَ إلى قلْب المأمون، وأقنعوه بمسلكهم الفلسفيِّ في التفكير الذي نتج عنه إنكارُ صفات الخالق -سبحانه وتعالى- ومِن بينها صِفة الكلام، ومِن ثَمَّ دعوة المأمون العلماء إلى القول بخَلْق القرآن.

وأراد المأمون أن يحملَ النَّاس على ذلك، إلاَّ أنَّ الإمام أحمدَ بن حنبل -رحمه الله تعالى- أبى واستعصم، وثَبَت على الحقّ، في الوقت الذي تراجع فيه كثيرٌ من أهل العِلم عن قول الحقّ.

فتصدَّى لهذا التيار الإمامُ أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- وابتلي في هذه المِحنة، فَثَبَت على نَهْج الكتاب والسُّنة، وما عليه سلف الأمَّة في التوحيد والصفات وإنزال القرآن، حتى أوذيَ وامتُحن، فصبر وصابر، ولم يتزحزحْ عن قول الحقِّ، حتى رُبِط موقفُه في محنته بموقف الصِّدِّيق -رضي الله عنه-.

يقول عليُّ بن المديني: "لقد أعزَّ الإسلام برجلين، بأبي بكر يوم الفتنة، وبأحمد بن حنبل يوم المِحْنة".

ولاقَى مِن العذاب ما لاقَى، صابرًا محتسبًا، مدافعًا عن عقيدة أهل السُّنة والجماعة، وقف الإمام أحمد هذا الموقفَ في الوقت الذي أحجَم فيه عامَّةُ العلماء عن الحقّ، وصَدَق رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حينما قال في حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-: "لا تزالُ طائفةٌ مِن أمَّتي ظاهرين حتى يأتيَهم أمر الله وهم ظاهرون".

وقد حُبِس وعُذِّب وقُتِل في هذه المحنة خلْقٌ كثير، وصارت هذه المحنةُ هي الشغلَ الشاغل للدولة والناس، خاصَّتِهم وعامَّتِهم، وأصبحتْ حديثَ مجالسهم، وأنديتهم وحاضرتهم وباديتهم، في العراق وغيره، كلُّ هذا بسبب ما أدخله المأمونُ على الناس من هذه العقيدة الفاسدة، والله حسيبه، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "ما أظنُّ أنَّ الله -تعالى- يغفل المأمون على ما أدخل على المسلمين".

وثَبَت في بادئ الأمر في بغداد أربعةٌ من العلماء، الإمام أحمد بن حنبل، ومحمَّد بن نوح، واثنان آخران ما لَبِثا أن تراجعَا، وقالا مثلما قال الناس، وبقي الإمام أحمد ومحمَّد بن نوح.

ثم بعد ذلك أمر المأمون أن يُحمل له الإمام أحمد بن حنبل، ومحمَّد بن نوح، فأرسلاَ مقيَّدَين على بعير واحدة، فأمَّا محمد بن نوح فمات في أثناء الطريق قبلَ أن يصل إلى طَرَسُوسَ، حيث مقرُّ الخليفة المأمون، وبقي الإمام أحمد بن حنبل فدَعَا الله -عز وجل- في أثناء الطريق أن لا يُريَه المأمون، وأن لا يجتمع به، فاستجاب الله -عز وجل- دعاء الإمام أحمد، فمات المأمون قبلَ أن يصلَ إليه الإمام أحمد.

ويروى في كتب التاريخ أنَّه قبل وصول الإمام أحمد إلى طرسوس، جاءَه رسول مِن قِبَل المأمون في الطريق، فقال له: إنَّ الخليفة قد أعدَّ لك سيفًا لم يقتل به أحدًا، فقال الإمام أحمد: أسأل اللهَ أن يكفيني مؤونتَه، وما هي إلاَّ مدة قصيرة وإذا بالخبر يصل بوفاة المأمون، فأُعِيد الإمام أحمدُ إلى السجن مرَّة أخرى.

ثم تولَّى الخلافةَ بعدَ المأمونِ المعتصمُ، وكان المأمون قد أوصاه بتقريب ابن أبي دؤاد، والاستمرارِ بالقوْل بخلْق القرآن، وكان الإمام أحمد في السجن، وكانوا يُحضِرونه من السجن في كلِّ مرَّة، وكان جمعٌ من العلماء يناقشونه في خلْق القرآن، وكان الإمام أحمد يستدلُّ بالقرآن والسُّنة، ويقول لهم: "أعطوني دليلاً مِن كتاب الله أو سُنَّة رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-"، وأعيد للسجن، وبعد المرَّة الثانية، وفي اليوم الثالث أُحضر الإمام أحمدُ من السجن، وأعيدتِ المناقشة، وكان المعتصم عند عقد مجلس المناظرة، قد بسط بمجلسه بِساطًا، ونَصبَ كرسيًّا جلس عليه، وازدحم الناس، كازدحامهم أيَّام الأعياد، وكان مما دار بينهم أن قال للإمام أحمد: ما تقول في القرآن؟! فقال: "كلام الله غيرُ مخلوق؛ قال الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ) [التوبة: 6]، قال: هل عندك حُجَّة غير هذا؟! قال: نعم، قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن: 1 - 2]، ولم يقل: خَلَق القرآن، وقال تعالى: (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس: 1 - 2]، ولم يقل والقرآن المخلوق، فقال المعتصم: أعيدوه للحبس وتفرَّقوا.

فلمَّا كان مِن الغد، جلس المعتصم مجلسَه ذلك، وقال: هاتوا أحمدَ بن حنبل، فاجتمع الناس، وسُمِعتْ لهم ضجَّة ببغداد، فلمَّا جيء به وقف بين يديه، والسيوف قد جُرِّدت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نُصبت، والسِّياط قد طرحت، فسأله المعتصم: ما تقول في القرآن؟! قال: "أقول: غير مخلوق، واستدلَّ بقوله -تعالى-: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) [السجدة: 13]، قال: فإن يكنِ القوْل من الله -تعالى- فإنَّ القرآن كلام الله.

وأحضر المعتصم له الفقهاءَ والقضاة، فناظروه بحضرته ثلاثة أيَّام، وهو يناظرهم، ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة، ويقول: "أعطوني دليلاً من كتاب الله، أو كلام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-"، فقال المعتصم: "قهَرَنا أحمد"، وتحدَّث الوشاة عنده من علماء السُّوء، أنَّه قد غلب خليفتين، فأخذتْه العِزَّة بالإثم، فشتمَه وهدَّده بالقتل، فقال الإمام أحمد: "يا أمير المؤمنين: إنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "لا يَحِلُّ دمُ امرئ مسلِم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلاَّ بإحدى ثلاث"، فبِمَ تستحلُّ دمي، وأنا لم آتِ شيئًا من هذا يا أمير المؤمنين؟! تذكَّر وقوفَك بين يدي الله -عز وجل- كوقوفي بين يديك"، فلمَّا رأى المعتصم ثبوتَ الإمام أحمد وتصميمه لاَنَ، فخشي ابن أبي دؤاد من رأفتِه عليه، فقال: يا أمير المؤمنين: إن تركتَه قِيل: إنَّك تركت مذهب المأمون، أو أن يقال: غلب خليفتَين، فهاجَه ذلك، ثم أعيد إلى السجن مرَّة أخرى، وأخرج في رمضان وهو صائم، وجعلوا -والعياذ بالله- يضربونه، وأتى المعتصم بجلاَّديِن، كلما ضَرب أحدُهم الإمامَ أحمد سوطين، تأخَّر وتقدَّم الآخَر، والمعتصم يحرِّضهم على التشديد في الضَّرْب، وهو يقول: شدُّوا عليه قطع الله أيديَكم، يقول واحد ممَّن جلده: والله الذي لا إله إلاَّ هو: لقد جلدتُ الإمام أحمد بن حنبل جلْدًا لو جلدتُه بعيرًا لَمَات، كان يأخذ العصي مثل الخيزران ويبرد في الماء، ثم يجلد الإمام حتى يسيلَ دمُ الإمام أحمد في الأرض.

ثم نزل المعتصمُ من كرسيه، وجاء للإمام أحمد، وهو يقول له: قلْ بما قلتُ لك بأنَّ القرآن مخلوق، فيقول الإمام أحمد: "أعطوني دليلاً من كتاب الله، أو سُنَّة رسوله حتى أقولَ به".

بعد ذلك جرَّدوه مِن ثيابه -رحمه الله تعالى- ولم يبقَ عليه إلاَّ إزارُه، وصاروا يضربونه حتى يُغمَى عليه، فيُفيق، ثم يُعاد عليه الكرَّة يقول الإمام أحمد: فذهَبَ عقلي عندَ ذلك، فلم أفق إلاَّ وقد أُفرِج عني، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرتْ صلاة الظهر، فصليت، فقالوا: صليتَ والدمُ يسيل منك؟! فقلت: قد صلَّى عمر -رضي الله عنه- وجُرْحه يَثعُب دمًا، ثم نُقِل بعد ذلك إلى بيته، وهو لا يقدر على السَّيْر من شدَّة ما نزل به -رحمه الله تعالى-.

فلمَّا مكث مدَّة من الزمن في بيته، وبرئتْ جراحُه، وقوي جسمُه، خرج إلى المسجد، وصار يدرِّس للناس، ويملي عليهم الحديث، ولم يمنع من ذلك حتى توفِّي المعتصم.

رحم الله الإمامَ أحمد، وأجزلَ له مثوبتَه، وجزاه الله عنَّا وعن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء.

الخطبة الثانية:

قال المقدسيُّ في كتابه "محنة الإمام أحمد" بسنده إلى أبي علي حنبل قال: حضرتُ أبا عبد الله؛ أي: أحمد بن حنبل، وأتاه رجل في مسجدنا، وكان الرجل حسنَ الهيئة كأنَّه كان مع السلطان، فجلس حتى انصرف مَن كان عند أبي عبد الله، ثم دنا منه فرفعَه أبو عبد الله لما رأى من هيئته، فقال الرجل: يا أبا عبد الله: اجعلني في حلٍّ، قال أحمد: مِن ماذا؟! قال: كنتُ حاضرًا يومَ ضُرِبت، وما أعنتُ ولا تكلَّمت، إلاَّ أنِّي حضرت ذلك، فأطرق أبو عبد الله، ثم رَفَع رأسَه إليه فقال: أَحْدِث لله توبةً، ولا تَعُدْ إلى مثل ذلك الموقِف، فقال له: يا أبا عبد الله: أنا تائب إلى الله -تعالى- من السلطان، قال له أبو عبد الله: فأنت في حلٍّ، وكلُّ مَن ذَكَرني إلاَّ مبتدعًا، قال أبو عبد الله: وقد جعلتُ أبا إسحاق -المعتصم- في حلٍّ، ورأيتُ الله -عزَّ وجلَّ- يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور: 22]، وأَمَر النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أبا بكر بالعفو في قضية مِسْطح.

ثم قال أبو عبد الله: "العفو أفضل، وما ينفعك أن يُعذَّب أخوك المسلِم بسببك، لكن لتعفُ وتصفحْ عنه فيغفر الله لك كما وعَدَك". اهـ.

أيها المسلم: إنْ سمعتَ أحدًا قال فيك قولاً، أو حتى آذاك، فلا شكَّ أنَّ النفس ببشريتها تغضب، وتفكِّر في الانتقام، لكن اعلم أنَّ صِدْق الأخلاق لا يظهر إلاَّ في المواقف العصيبة الشديدة، أمَّا في المواقف الهيِّنة الليِّنة فلا فَخرَ ولا فضْل.

وساق المقدسيُّ -رحمه الله- بسنده إلى أبي علي الحسن بن عبد الله الخِرقي قال: بتُّ مع أحمد بن حنبل ليلةً، فلم أرَه ينام إلاَّ يبكي إلى أن أصبح، فقلت: يا أبا عبد الله: كثُر بكاؤك الليلة، فما السبب؟! قال أحمد: ذكرتُ ضَرْب المعتصم إيَّاي، ومرَّ بي في الدرْس قوله -تعالى-: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40]، فسجدتُ وأحللتُه مِن ضرْبي في السُّجود.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي