في الأمراض حكم

عبد الرحمن بن صالح الدهش
عناصر الخطبة
  1. سنة البلاء .
  2. تعامل المؤمن مع المرض .
  3. اغتنام الصحة .
  4. حقُّ نعمةِ الصحة .
  5. من فوائد وحِكَم المرض .
  6. التعبد بالتداوي .
  7. من التداوي والرُّقى .
  8. تنبؤ النبي الكريم بظهور الأمراض بفشو الفواحش .
  9. مدافعة الأمراض قبل وقوعها. .

اقتباس

عباد الله: من منا لم يشتكِ شيئاً في بدنه، فهو معافى طيلة يومه وليلته، سليم في كل دهره؟ لا أظن ذلك لأحد من عباد الله، والبلاء سنة ماضية، والمرض ملازم للأبدان الفانية، وصفة للبنية الضعيفة، وكان...

الحمد لله العليم الخبير، أحاط بكل شيء علماً، وإليه المصير، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، ما ترك خيراً إلا دلَّ عليه، ولا شراً إلا حذَّر منه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فأصغ -رحمك الله- إلى ما حدَّثك به ربك، وبين لزومه في أصل خلقتك، (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:186]، (وَنَبْلُوكُم بِلشَّرّ وَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، والمصائب والرزايا في الأموال؛ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أي: ليرجعوا إلى طاعة ربهم، وينيبوا إليه، ويتوبوا من معاصيه.

عباد الله: من منا لم يشتكِ شيئاً في بدنه، فهو معافى طيلة يومه وليلته، سليم في كل دهره؟ لا أظن ذلك لأحد من عباد الله، والبلاء سنة ماضية، والمرض ملازم للأبدان الفانية، وصفة للبنية الضعيفة، وكان الإنسان ضعيفاً.

إلّا أنه من رحمة الله أن الإنسان ينسى مرضه حين يشفيه الله، (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:80].  

ويخف عليه مرضه الملازم، ويهون عليه بعض تعبه حين يرى من هو أسوأ حالا منه، وأشد اعتلالا في صحته، (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [الإسراء:21].

وفي هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو أعلى منكم".

عباد الله: الصحة مغنم، قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اغتنم خمساً قبل خمس"، وذكر منها: "صحتك قبل سقمك".

والصحة نعمة يغبن فيها الصحيح، قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".

فهل من وصية للصحيح قبل السقم، وللمعافى قبل البلاء؟.

أجل أيها الصحيح المعافى، يا من يقوم على قدميه، ويحرك أطرافه، ويحمل ما يشاء بيديه، سلم من علاج لأمر في باطنه، وآخر يسكّن به وجعاً في جنبه، أو صداعاً في رأسه.

يا من يتخير من الطعام ما يشتهي، وفي بدنه مناعة إلهية فلا يضره حَر، ولا يعوقه ريح أو قر.

الوصية لك بتقوى الله في هذه الصحة، فالزم الطاعة، واستغل العافية، ثم كف عن المعصية، واحم جوارحك عن سوقها إلى ما لا يرضاه الله لك، فيجدك حيث نهاك، غير مبال بحرمة الله، جاعلاً الله أهون الناظرين إليك.

فهذا حق هذه النعمة بالصحة؛ فهل أنت لحقها من المؤدين، ولقدرها من العارفين؟.

أما أنت -أيها المريض- فطيب عيشك إنما هو بالصبر والاحتساب، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يرد الله به خيراً يصب منه" رواه البخاري.

فتفاءل خيراً تجده. و"ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" رواه البخاري.

وفي الحديث الآخر: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" متفق عليه.

وفي المرض من الحكم والفوائد التعبد لله بعبودية الضراء وهي الصبر، وقد قال الله -تعالى-: (وَبَشّرِ الصَّـابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].

قال ابن عمر -رضي الله عنه-: "كل ما ساءك فهو مصيبة".

ومن أعظم فوائد المرض أنه سبب لدخول الجنة؛ فالجنة سلعة الله الغالية التي لا تنال إلا بما تكرهه النفس، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حُفَّت الجنة بالمكاره".

وفي صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى يقول: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -أي: عينيه- فصبر عوضته منهما الجنة".

ومن فوائد المرض أنَّ المرض يرد العبد الغافل إلى ربه، الشارد عن ذكره، فلا يزال المرض يذكره بمولاه بعد أن كان غافلاً عنه، ويكفه عن معصيته وهواه بعد أن كان منهمكًا فيها، فإن العبد متى كان صحيحًا معافى سعى في ملذاته وشهواته، وأقبل على دنياه ونسي مولاه، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـاهُمْ بِلْبَأْسَاء وَلضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42].

وقال -تعالى-: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ) [التغابن:11].

قال علقمة في تفسير الآية: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله".

وقال بعض السلف: "إن العبد ليمرض وما له عند الله من عمل خير، فيذكره الله -سبحانه- بعض ما سلف من خطاياه، فيخرج من عينه مثل رأس الذباب من الدمع من خشية الله، فيبعثه الله مطهرًا، أو يقبضه مطهرًا".

فالصِّحَّةُ قد تدعو إلى الأشر والبطر، وقد يغُرُّهُ نشاطه وقوة بأسه، ثم يأتي المرض فتتجاذبه الآلام فتنكسر نفسه، ويرق قلبه، ويطهر من سيء أخلاقه، وقبيح صفاته، فهو المتواضع المتسامح يطول صمته، ويكثر ذكره.

قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء".

ومن فوائد المرض أن الإنسان يفتح باب الدعاء بينه وبين الله، فهو يقوم من آخر ليله، يطيل سجوده، تعلق قلبه بالمساجد، يسأل عن أوقات الإجابة، يتحرى جوامع الدعاء، وأفضل المناجاة.

ثم هو بالمرض سوف يعيد نظام حياته، سوف يتفقد ذوي الحقوق عليه، يطلب المسامحة ممن ظلمه، يحسن إلى من قد أساء إليه؛ والحسنات يذهبن السيئات.

يسارع في قضاء ديونه، وتوثيق ما لا يستطيع قضاءه من حقوق الناس، فلا يدري من يخلفه عليها.

وهو حسن الظن بالله، يعلم أن هذه الأمور لا تقرب بعيداً ولا تقصي قريباً؛ ولكن المؤمن كيّس فطن، تنبه حين نبهه ربه بعلة بدنه.

ومن حسن ظنه بالله أنه يتعبد لله بمداواة علته، فهو ينشد الدواء النافع والطبيب الماهر، على أنها أسباب هيأها الله، ولا شافي إلا الله.

وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام، فإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرَّم عليكم".

ومن التداوي أن يرقي نفسه كما هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولن تجد أخلص لنفسك من نفسك، ولم يخلق الله قوماً للرقية دون آخرين.

وأعظم رقية يرقي بها الإنسان نفسه كلمات الله من المعوذات، وآية الكرسي، وغيرها، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الفاتحة: "إنها رقية".

وعن عَبْد اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِى لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُصَلِّىَ لَنَا، فقال يا عبد الله قل، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِى، وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شيء" رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.

وفي الوارد غنية عما اجتهد به بعض إخواننا من الرقاة والقراء، حين يطلبون من المصابين، أن يقرؤوا سورة كذا عدداً معيناً، في وقت معين، على هيئة معينة لم يرد بها أثر.

ومع ذلك؛ على العبد أن يملأ قلبه بقوله -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام:17].

فاللهم أسبغ علينا لباس الصحة والعافية، واجعل ذلك عوناً لنا على طاعتك.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فإنَّ المسلم ليزداد يقينه بالله حينما يرى أمراً غيبياً أخبر به العليم الخبير، أو جاء في كلام البشير النذير، ثم يقف على مصداق ما جاء به في أحوال الناس القريبين أو البعيدين.

وإنَّ مما أخبرنا به النبي -صلى الله عليه وسلم- ما جاء في قوله: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا" رواه ابن ماجة والحاكم.

ولقد أصبحنا نسمع تطبيق هذه الحديث في أحوال الأمم وأخبار الناس بسبب هذا الانفتاح الإعلامي والتواصل الإخباري، فبقدر إيغال الناس في الفاحشة والسعي في بثها، والمنافحة عن وسائلها وتقرير ممارستها، بقدر ذلك ظهرت الأمراض والأوجاع المستعصية التي هي غريبة في أسمائها، وفي أعراضها، وسرعة انتشارها، ثم في نتائجها.

وصدق الله العظيم: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].

يقول ابن القيم رحمه الله: ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص، ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين، والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمرها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها، أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

فدافعوا -رحمكم الله- هذه الأمراض بأسباب المدافعة الحقيقية قبل وقوعها، وأعظم سبب حقيقي هو اللَّجأ إلى الله بالاستقامة وترك المعاصي، والتواصي بين الناس بالبر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحذير ممن يسعى في الأرض فسادا بترويج إثم ظاهر أو باطن، والله -تعالى- يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].  

فاللهم عاملنا بعفوك. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، ونعوذ بك من فجاءة نقمتك، ونعوذ بك من جميع سخطك.

فاللهم قِ المسلمين الفتن، والأمراض والإحن، والشرور والمحن.

اللهم اشف مرضى المسلمين، وعافهم في أبدانهم، وقوهم في عزائمهم، واجعل ما قدَّرته عليهم تكفيراً لسيئاتهم ورفعة في درجاتهم، تعظم به أجورهم وأجور ذويهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم قَوِّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم خذ بأيديهم للبر والتقوى، اللهم ألهمهم رشدهم، وقهم شرور أنفسهم.

اللهم أعذهم من كيد الحاسدين، وتمالؤ المعاندين، الذين في قلوبهم مرض على الخير في هذه البلاد، تسوؤهم جهود المصلحين، وقد شربوا الفتنة فأصبحوا لا يحبون الناصحين، اللهم قنا شر هؤلاء، واكفنا مكرهم، ولا تجعل لهم يداً على مصلحة من مصالح المسلمين، يا من له الدنيا والدين، وهو أعلم بالمصلحين من المفسدين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماءهم، وهيئ لهم من أمرهم رشدا...

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي