انشراح الصدر

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
عناصر الخطبة
  1. عِظَمُ مَطْلَبِ انشراح الصدر .
  2. ثمرات انشراح الصدر .
  3. أسباب انشراح الصدر .

اقتباس

«انْشِرَاحُ الصَّدْر» مطلبٌ عظيم، ومقصدٌ جليل، إذا منَّ الله -سبحانه وتعالى- على عبده به وشرح له صدره ويسَّر له أمره تحققت للعبد مصالحه الدينية والدنيوية، وأما إذا ضاق الصدر فإن أغلب مصالح العبد تتعطل؛ فلا قدرة له على عمل، ولا نشاط له على بابٍ من أبواب البر، بل لا...

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه ولا شراً إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه -سبحانه- مراقبة من يعلم أنَّ ربه يسمعُه ويراه، وتقوى الله -جل وعلا- خير زادٍ ليوم المعاد، وهي وصية الله -جل وعلا- للأولين والآخرين من خلقه، قال الله -سبحانه-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].

عباد الله، معاشر المؤمنين: «انْشِرَاحُ الصَّدْر» مطلبٌ عظيم، ومقصدٌ جليل، إذا منَّ الله -سبحانه وتعالى- على عبده به وشرح له صدره ويسَّر له أمره تحققت للعبد مصالحه الدينية والدنيوية، وأما إذا ضاق الصدر فإن أغلب مصالح العبد تتعطل؛ فلا قدرة له على عمل، ولا نشاط له على بابٍ من أبواب البر، بل لا يزال متنقلاً من همٍّ إلى آخر ومن غمٍّ إلى غم.

وأما من شرح الله -سبحانه وتعالى- له صدره فإنَّ ذلك معونةٌ له على تحقيق غاياته ونيل مقاصده وأهدافه.

فلا تلين العبادات ولا تتيسر الطاعات إلا بانشراح الصدر، ولا يتهيأ للإنسان تربية لولد ورعاية لنشء إلا بانشراح الصدر، ولا يتهيأ للعبد القيام بعموم مصالحه الدينية والدنيوية إلا بانشراح الصدر.

نعم عباد الله؛ ما أعظم شأن انشراح هذا الصدر واتساعه! بحيث يكون صاحبه قادراً على مصالحه وشؤونه، وكلما عظمت المهمَّة وكبُر الأمر احتاج إلى مزيد انشراح صدرٍ؛ ليتسنى له نيل مقصده وتحصيل غايته.

ولهذا -عباد الله- لما أمر الله نبيه موسى-عليه السلام- بالذهاب إلى الطاغية فرعون لدعوته وتحذيره من مغبة طغيانه توجَّه موسى-عليه السلام- إلى الله: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه:25-26].

ويقول الله -سبحانه- ممتناً على عبده ورسوله ومصطفاه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح:1]؛ أي: إنَّ هذه منة إلهية وعطية ربانية منَّ الله -سبحانه وتعالى- عليك بها.

عباد الله: وهذا المطلب العظيم -أعني «انْشِرَاحُ الصَّدْر»- يحتاج من العبد بتوفيقٍ من الله ومنّ وتسديدٍ وعوْن إلى أسبابٍ لا بد أن يعمل العبد على بذلها وتحقيقها لينال هذه الخصلة الكريمة.

ومن أعظم أسباب انشراح الصدر معاشر المؤمنين: توحيد الله وإخلاص الدين له، والبراءة من الشرك والبُعد عنه؛ دقيقه وجليله، كبيره وصغيره؛ فإن التوحيد -معاشر المؤمنين- أعظم سببٍ لانشراح الصدر، وضده -وهو الشرك بالله- أعظم سببٍ لظلمة الصدر وكآبته وضيقه وعذابه.

ومن أسباب انشراحه عباد الله: اتباع سنة النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- ولزوم نهجه القويم، والائتساء بهديه -صلى الله عليه وسلم-، كيف لا؟! وهو اتباعٌ لأشرح الناس صدرا، وأطيبهم خُلُقا، وأجملهم سيرةً، وأزكاهم سريرة؛ فإن من اتَّبعه -عليه الصلاة والسلام- نال بهذا الاتباع انشراحاً في الصدر، وطمأنينةً في القلب، وصلاحاً في الحال.

ومن أسباب انشراحه عباد الله: تعلُّم العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وكلما زاد العبد تحصيلاً لهذا العلم، متقرباً بتحصيله إلى الله، زاد انشراح صدره وصلاح حاله، وضده وهو الجهل ظلمةٌ في القلب، وكآبة في الحال.

ومن أسباب انشراحه عباد الله: الإنابة إلى الله، وحُسن الإقبال عليه -جل في علاه-، والتلذذ بعبادته وطاعته؛ فإن الطاعة والعبادة راحة القلوب، وأُنس النفوس، وقرَّة العيون، وسعادة الصدور، وفي الحديث: "يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ"، وفي الحديث الآخر: "جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". وعموم الطاعات -عباد الله- راحةٌ وسعادةٌ وأُنسٌ وطمأنينة.

ومن أسباب انشراحه: دوام ذكر الله -جل وعلا-؛ فإنَّ ذكره -سبحانه- طمأنينة القلوب، وراحة الصدور، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].

ومن أسباب انشراحه: الإحسان إلى عباد الله؛ ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]؛ الإحسان إليهم سواءً بالجاه أو المال أو النفع البدني أو نحو ذلك، فإن من كان محسناً لعباد الله جازاه الله -تبارك وتعالى- بشرح صدره وتيسير أمره وحُسن عاقبته ومآله، أما البخيل الشحيح فإنه من أضيق الناس صدرا، وأكثرهم همًّا وغمّا، وأنكدهم معيشة.

ومن أسباب انشراحه عباد الله: إبعادُ أدواء القلوب وأسقامها، وهي أدواء كثيرة؛كالحسد والغل والحقد ونحو ذلك، فإن هذه الخصال الذميمة والأدواء المشينة إذا دخلت إلى القلوب أعطبتها، وإذا وصلت إلى الصدور أظلمتها، وترتب عليها ضيق صدر صاحبها وكآبة حاله وسوء عاقبته ومآله.

ومن أسباب انشراحه عباد الله: صيانة اللسان من الكلام بالحرام، وصيانة الأذن من سماع الحرام، وصيانة النظر من النظر إلى الحرام؛ فإنَّ فضول السمع والبصر والكلام مضراتٌ بصاحبها إضراراً عظيما، وهي مجلبةٌ للهموم والغموم، وتترتب عليها من العواقب الوخيمة ما لا يحمده الإنسان في دنياه وعقباه.

معاشر المؤمنين: لنقبِل على الله -سبحانه- راجين منَّه وتوفيقه بأن يشرح صدورنا، وأن ييسر أمورنا، وأن نتخذ من الأسباب الشرعية النافعة ما هو أعظم زادٍ لنيل هذا المقصد والفوز بسعادة الدنيا والآخرة.

نسأل الله -عز وجل- أن يشرح صدورنا أجمعين، وأن ييسِّر أمورنا، وأن يحمِّد لنا العواقب، وأن يصلح لنا شأننا كله، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين؛ إنه -تبارك وتعالى- سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله -تعالى-.

عباد الله: إنَّ «انْشِرَاحُ الصَّدْر» منَّة إلهية، وعطية ربانية، يمنُّ الله -سبحانه وتعالى- بها على من شاء من عباده، (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:29].

وتأمَّلوا -عباد الله- في تقرير ذلك وبيانه قول الله -سبحانه-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [الأنعام:125]، ويقول الله -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر:22].

فشرح الصدر -عباد الله- منَّةٌ وعطية لا تُنال إلا بتوفيقٍ مِن الله ومَنّ، ولا تُنال إلا بحسن الإقبال على الله، إخلاصاً واتباعاً وطاعةً وإنابةً إلى الله، وإحساناً إلى عباد الله، ومجاهدةً للنفس في نيل رضاه -سبحانه-.

فلْنجتهدْ -عباد الله- بأن نكون مقبلين على الله، سائرين على النهج القويم الذي يحبه منَّا، ويتلخص ذلكم في قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "احْرصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ".

واعلموا أنّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإنَّ يد الله على الجماعة.

وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.

وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكرٍ الصدِّيق، وعمرَ الفاروق، وعثمانَ ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصراً ومُعينا وحافظاً ومؤيِّدا، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحقن دماءهم يا رب العالمين.

اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

اللهم أعِنَّا ولا تُعِن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.

اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين، لك مطيعين، اللهم تقبَّل توبتنا واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا. اللهم اشرح صدورنا، ويسِّر أمورنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم ألِّف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، واهدنا سُبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.

ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي