مالكم لا ترجون لله وقارا؟

منديل بن محمد آل قناعي الفقيه
عناصر الخطبة
  1. الغفلة عن عبادة تعظيم الله .
  2. الفجوة بين الاعتقاد بتعظيم الله وسلوك مُدَّعِيه .
  3. تعظيم الله أصل الإيمان والعبادة .
  4. تعظيم كل الكون لله تعالى .
  5. تعظيم نبينا الكريم والأنبياء والصحابة والسلف لله .
  6. أسباب تزيد من تعظيم الله في القلب .
  7. مظاهر تعظيم العبد لله تعالى .
  8. ثمرات تعظيم الله تعالى. .

اقتباس

إنَّ تعظيمَ الله عبادةٌ من أجلّ العبادات، قد غفل عنها كثير من الناس في هذا الزمن، غفلوا عن تعظيم الله وإجلاله بما يستحقه التعظيم والإجلال، ذلك التعظيم الذي يملأ القلب، وتظهر آثاره على الجوارح والكلام، ويرتسم سلوكا وواقعا معبرا عن ذلك التعظيم.

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون: إنّ تعظيمَ الله عبادةٌ من أجلّ العبادات، قد غفل عنها كثير من الناس في هذا الزمن، غفلوا عن تعظيم الله وإجلاله بما يستحقه التعظيم والإجلال، ذلك التعظيم الذي يملأ القلب، وتظهر آثاره على الجوارح والكلام، ويرتسم سلوكا وواقعا معبرا عن ذلك التعظيم.

إن من أسماء الله -تعالى-: العظيم، الحميد، المجيد، الكبير، العزيز، القوي، القهار، الجبار؛ فما أثر هذه الأسماء علينا؟!.

إن تعظيم الله لا ينبغي للعبد أن يدعيه ثم يخالف ذلك بسلوكه وواقعه، ولكننا نعيش اليوم في زمن المغالطات، فنرى صورا شتى من الاستخفاف بالله -تعالى-، والاستهزاء بشرعه، والازدراء للمتمسكين بدينه، مما يدل على خلل عظيم في هذه العبادة العظيمة، وجهل مركب بهذه المسألة العقدية المهمة.

إن أصل الإيمان بالله مبني على تعظيمه -سبحانه-؛ لأن عبادة الله مبنية على كمال حُبِّهِ وتعظيمه والخضوع له، حتى إن الجمادات لتخضع لله تعظيما له، فضلا عن الحيوانات وسائر المخلوقات.

وبنو آدم هم أحق الخلق بتعظيم الله؛ ولذا قال -سبحانه- على لسان نوح: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:13].

كيف لا يعظم الإنسان ربه ومولاه وقد عظمته الجمادات؟ تأملوا في قوله -تعالى-: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44].

وتأملوا قوله -تعالى-: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [الرعد:15]، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) [الحج:18].

فهل الكائنات التي لم تكلف أكثر تعظيما لله منك أيها الإنسان؟ اسمعوا ما قاله -سبحانه- عن السموات والأرض والجبال لما ترك بعض البشر تعظيم الله ونسبوا إليه الولد: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:88-95].

الله أكبر يا مسلمون! كادت السموات أن تنفطر، وكادت الأرض أن تنشق، وكادت الجبال أن تنهد؛ غضبا لله، وتعظيما له، حين نسب النصارى والمشركون لله الولد. فهل يشبه تعظيمنا لله وغضبنا لله تعظيم وغضب السموات والأرض والجبال إذا انتهكت حرمات الله، وانتقصت حقوقه، وتُعُدِّيت حدوده، واستهزئ بشرعه؟.

ألم يلم الواحد منا نفسه يوما من الأيام وهو يرى الانتقاص لحق الله والانتهاك لحرماته؟ ألم تخشع قلوبنا لكلام الله ونحن نسمعه أو نقرؤه كل يوم وقد علمنا أنه لو نزل على الجبال الصم الراسيات لتصدعت وتشققت وتفطرت تعظيما لله وخشية منه؟ (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21].

ما أسوأ قلب الإنسان إذا لم يعرف ربه حق معرفته ولم يعظمه حق تعظيمه حين يكون أقسى من هذه المخلوقات العظيمة! وصدق الله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:74].

أيها المسلمون: ما قيمة الاعتقاد الصحيح في الله إذا لم يصاحبه تعظيم الله وتوقيره وإجلاله؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمَن اعتقد الوحدانية في الألوهية لله -سبحانه وتعالى- والرسالة لعبده ورسوله، ثم لم يتبع هذا الاعتقاد موجبه من الإجلال والإكرام، والذي هو حالّ في القلب، يظهر أثره على الجوارح؛ بل قارنه الاستخفاف والتسفيه والازدراء بالقول أو بالفعل، كان وجود ذلك الاعتقاد كعدمه، وكان ذلك موجبا لفساد ذلك الاعتقاد، ومزيلا لما فيه من المنفعة والصلاح".

وقال ابن القيم: "وروح العبادة هي الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت ".

أيها المسلمون: لقد ضرب لنا أنبياء الله ورسله أروع الأمثلة التي تبين مدى تعظيمهم لله وإجلالهم له -سبحانه-، ولا عجب، فالله يقول: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124].

ومن ذلك قول نوح لقومه: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) [نوح:13-14].

وبلغ من تعظيم أيوب لله أنه قال: "الله -تعالى- يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما؛ كراهية أن يذكر الله إلا في حق" المستدرك وصححه الألباني. فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا التعظيم!.

وأما عيسى عليه الصلاة والسلام، فقد "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: سَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلاَّ وَالَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ! فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَكَذَّبْتُ نَفْسِي" مسلم.

لقد حلف هذا السارق كاذبا كما يحلف كثير من الغشاشين اليوم في أسواقنا، فقبل عيسى حلفه وكذّب ما رأت عيناه.

إنه التعظيم لله الذي كبر في قلب عيسى حتى صار الله أجلّ وأعظم من أن يحلف به أحد وهو كاذب.

وأما محمد -صلى الله عليه وسلم- فسيرته حافلة بتعظيم ربه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالْأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). رواه البخاري ومسلم.

وعن مطعم بن عدي قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جُهِدَتِ الأَنْفُسُ، وَضَاعَتِ الْعِيَالُ، وَنُهِكَتِ الأَمْوَالُ، وَهَلَكَتِ الأَنْعَامُ؛ فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا؛ فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَيْحَكَ! أَتَدْرِى مَا تَقُولُ؟".

وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِى وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَيْحَكَ! إِنَّهُ لاَ يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ! أَتَدْرِى مَا اللَّهُ؟ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَوَاتِهِ لَهَكَذَا". وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ، "وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ" رواه أبو داود.

ولقد تعلم الصحابة وسلف الأمة التعظيم لله من رسول الله، فهذا ابن عباس يقول لبعض أصحاب المراء والجدال: إن لله -تعالى- عبادا أصمتتهم خشيته من غير بكم ولا عي، وإنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء، العلماء بأيام الله -عز وجل-، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله -عز وجل- طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم؛ حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله -عز وجل- بالأعمال الزاكية. فأين أنتم منهم؟.

وذاك مالك بن أنس لما قال له رجل: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ أطرق برأسه حتى تصبب عرقا في يوم شاتٍ، ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ ولا أراك إلا مبتدعاً. وأمر به فأخرج من المسجد.

أيها المسلمون: تعظيم الله مطلب الجميع، وله أسباب تزيده في القلب، من أهمها ما يلي:

أولا: من أجلّ ما يجلب التعظيم لله -تعالى- التأمل في أسمائه وصفاته وعظمته وقدرته، فسبحانَ الله وبحمده! هو الملك لا شريكَ له، والفرد لا ندَّ له، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ، لن يطاعَ إلا بإذنِه، ولن يعصَى إلا بعلمِه، يطاع فيشكر، ويُعصى فيعفو ويغفِر.

أقربُ شهيد، وأجلّ حفيظ، وأوفى بالعهد، وأعدلُ قائمٍ بالقِسط، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال؛ فالقلوب له مفضية، والسِّرّ عنده علانية، والغيبُ لديه مكشوف، وكلّ أحدٍ إليه ملهوف، عنتِ الوجوه لنور وجهه، وعجزتِ العقول عن إدراكِ كُنهِه؛ أشرقَت لنور وجههِ الظلمات، واستنارت له الأرضُ والسماوات، وصلَحَت عليه جميع المخلوقات.

أزمَّة الأمور كلّها بيده، ومَرادُّها إليه، مستَوٍ على سريرِ مُلكِه، لا تخفى عليه خافيةٌ في أقطار مملكتِه، تصعَد إليه شؤون العباد وحاجاتهم وأعمالهم، فيأمر -سبحانه- بما شاء فينفُذُ أمره، ويغلب قهره، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، يغفر ذنبًا، ويكشف كربًا، ويفكّ عانيًا، ويجبر كسيرًا، وينصر ضعيفًا، ويغني فقيرًا، يحيي ويميت، ويُسعِد ويشقِي، ويُضلّ ويهدِي، ويُنعم على قوم ويَسلب نعمتَه عن آخرين، ويعزّ أقوامًا ويذلّ آخرين.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر:22-24].

له القدرةُ المطلقَة، والإرادَة التامّة، كلَّم موسى تَكليمًا، وتجلَّى للجبل فجعله دكًّا هشيمًا، وهو -سبحانه- فوق سمواته لا تخفى عليه خافية، يسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرةِ الصّماء في الليلةِ الظلماء، لا تشتبِه عليه الأصوات مع اختلافِ اللغات، وتنوّع الحاجات، ولا تتحرَّك ذرّةٌ في الكون إلا بإذنه.

(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام:59].

(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة:255].

حجابه النور، لو كشَفه لأحرقَت سبحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره، فإذا كانت سبحاتُ وجهه الأعلى لا يقوم لها شَيءٌ من خلقه؛ فما الظنّ بجلال ذلك الوجهِ الكريم وجمالِه وبهائه وعظمَته وكبريائه؟!.

لذا كان أعظم نعيمِ أهل الجنة التلذُّذ بالنّظر إلى وجهِ الكريم جلّ جلاله، وهو موقفٌ عظيمٌ يتجلّى فيه كبرياء الله وعظمته وجماله وجلاله.

أيها المسلمون: فمتى ما تأمل المسلم أسماء الله وصفاته زاد تعظيمه لربه وإجلاله لخالقه، وعظم خوفه وخشيته منه، وصدق من قال: "مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف".

ورأى أنَّ كل ما يعمله من عبادة لا تساوي شيئا من عظيم حقه عليه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله -تعالى- ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلَّا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة ركوعاً لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السموات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك" رواه البيهقي، وقال ابن كثير: إسناده لا بأس به.

 
ثانيا: ومما يجلب التعظيم لله -تعالى- الإقبال على هذا الكتاب العظيم الذي هو كلام الرب -سبحانه- قراءة وتدبرا وعملا واستشفاء، كما قال -تعالى-: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:107-109].

ثالثا: ومما يجلب التعظيم لله -تعالى- التفكر في مخلوقات الله كالسموات والأرض والشجر والجبال والإنسان، وما فيها من عجائب: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164]، (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:20-21].

رابعا: ومما يجلب التعظيم لله -تعالى- العلم بالكتاب والسنة، وكلما ازداد العبد علما ازداد تعظيمه لله وخشيته منه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28].

خامسا: ومما يجلب التعظيم لله -تعالى- تذكر نعم الله وإحسانه على العبد والتي لا تعد ولا تحصى، فمن أعظم ما تستجلب به محبة الخلق الإحسان إليهم، ولا أحد أعظم إحسانا على الخلق من الله -تعالى-؛ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53].

وأجلّ النعم نعمة الإسلام، وهذا الشرع المطهر، فهل تفكرتم -أيها المسلمون- في نعمة الله بهذه الشريعة العظيمة التي جاءت لحفظ أنفسنا وعصمة أموالنا ودمائنا وأعراضنا وعقولنا؟ ألم يورثنا ذلك تعظيم الله ومعرفة قدره؟ فلو سُرق مال أحدنا قطعت يد السارق من أجله، ولو اعتدى علينا أحد منا أو قذفنا أقيم عليه الحد من أجلنا.

فتذكر النعم يستوجب تعظيم المنعم، والقيام بشكرها بالقلب واللسان والجوارح.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بالإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.

أيها المسلمون: كيف يعرف الواحد منا أنه معظم لربه؟ إن الأمر واضح، والإجابة على هذا السؤال سهلة.

إن تعظيم الله إذا وجد في القلب ظهر ذلك في أعمال القلب والجوارح وفلتات اللسان، يظهر تعظيم الله في تعظيم كلامه وشرعه، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله، وعدم مصادمة الشرع بالعقول البشرية الضعيفة.

يظهر تعظيم الله في التسليم لله ولحكمه في كل شيء إذعانا وامتثالا.

وإن من تعظيم الله تعظيم السنة النبوية واحترامها وتطبيقها، ومحبة المتمسكين بها، ولو كنت غير متمسكٍ بها.

وقد جاء عن الإمام مالك -رحمه الله- ما يدعو للعجب في تعظيمه للسنة، يقول ابن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله، فتغير وجهه عدة مرات ولم يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من حديثه وتفرق الناس قلت: يا أبا عبد الله، لقد رأيت منك عجبا حين كنت تحدث، فقد تغير وجهك عدة مرات. فقال: يا بني، لقد لدغت ست عشرة لدغة، وما كنت لأقطع حديث رسول الله إجلالا له.

وسأل رجل سعيد بن المسيب في مرض موته عن حديث، فقال: أقعدوني، فإني أكره أن أحدث بحديث رسول الله وأنا مضطجع.

الله أكبر! أين نحن يا مسلمون من هؤلاء؟ وهل تعظيمنا وإجلالنا كتعظيمهم وإجلالهم؟.

إن بعض الناس اليوم ربما يروق له بعض الكلام التافه، والشعر الماجن، والغناء الفاجر، فيتعلق به ويعظمه أكثر من تعظيمه لكتاب الله وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. بل ربما فضل سماع ذلك على سماع كلام الله!.

ومن تعظيم الله -جل جلاله- تعظيم أصحاب رسول الله، ويكون تعظيمهم بمعرفة منزلتهم وجليل قدرهم، والترضي عنهم، وبُغض من يسبهم، فقد انتقل جرير بن عبد الله البجلي, وحنظلة بن الربيع, وعدي بن حاتم, ومحمد بن عبد العزيز التيمي -رضي الله تعالى عنهم- من الكوفة، فلما سئلوا عن تركهم للسكنى بالكوفة قالوا: لا نُقيمُ ببلدةٍ يُشتمُ فيها عثمان -رضي الله عنه-.

ومن تعظيم الله -تعالى- تعظيم علماء الشريعة وتقديرهم ومحبتهم؛ لأنهم يبلّغون عن الله دينه للناس؛ فكم من ضال قد هدوه! وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! فما أحسن أثرهم على الناس! فمن أحبهم فقد أحب الله، ومن عظمهم فقد عظم الله.

فعَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ" رواه أبو داود وصححه الألباني.

ومن تعظيم الله وإجلاله تعظيم شعائره وعبادته، كتعظيم رمضان، والحج ومناسكه، وتعظيم المساجد، والمصحف، والصلاة، وما يتعلق بها، وتعظيم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ وصدق الله إذ يقول: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].

وليحذر المسلم من التأثر ببعض ما يعرض في وسائل الإعلام من البرامج التافهة الهابطة والتي تزرع في نفوس متابعيها ومشاهديها الاستهزاء بالدين وشعائره، والاستخفاف بالعلماء، والانتقاص من دين الله، وتشويه صورة الدين والمتدينين، وإلصاق التهم الكاذبة فيهم بغير حجة ولا برهان. 

أيها المسلمون: إن ثمرة تعظيم الله -تعالى- أن يصير العبد عبدا لله، تتحقق فيه صفات العبودية، فيعيش حياة يوقفها لله رب العالمين.

فلئن كان العبد الرقيق الذي يشترى لا يليق به أن يخالف سيده لأن له قدرا واحتراما عنده؛ فكيف بعبوديتنا لله وهو الخالق ونحن المخلوقون؟.

وصدق الفضيل بن عياض حين سئل: ما أعجب الأشياء؟ فقال: قلب عرف الله ثم عصاه. 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي