كم أهلكت المعاصي من أمم ماضية، وكم دمرت من شعوب كانت قائمة، ولا تزال تهدم في بناء الأمم الحاضرة، وتنخر في كيان الشعوب المتتالية، ولقد كثر من أهل هذه الأزمان الخبث، وفشت في المجتمعات المنكرات بلا نكير ولا رقيب، ضيعت الصلوات وهجرت المساجد، وظهر التبرج والسفور، والتطاول على شرع الله تعالى في الحجاب والحشمة والعفاف وتطبيق حدود الله وأوامره
عباد الله: إن دلائل عظمة الله تعالى وقدرته لا تعد ولا تحصى، آياته كثيرة تقصر النفوس عن عدها، وتعجز الألسنة عن وصفها؛ فالسماوات من آياته، والأرضون من آياته، والبحار من آياته، والنبات من آياته، والجبال من آياته، والحيوان من آياته، (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزُّمر:67].
أيها المسلمون: إن المتأمل ببصيرة يرى في هذه الشهور والأيام مزيداً من آيات الله ونذره، تعم الأرض وتهلك من تهلك من البشر والشجر والحيوان، تهد العوامر، وتعصف بالحياة والأحياء، لا يستوقفها سد منيع ولا تحيط بها قوة أو تستطيع أن تمنعها منظمة أو هيئة مهما أوتيت من قوة ومعرفة، زلازل مروعة، وأعاصير مدمرة، أمراض مهلكة، وفواجع متنوعة، جفاف وجدب، خسوف وكسوف، جوع ومرض، قتل وتشريد، ولا ندري ما بغيب الله تعالى في المستقبل.
عباد الله: تحصل هذه الكوارث وتقع تلك المصائب وتتفشى أنواع مختلفة من الأمراض؛ والمختصون بالصحة والسلامة وشؤونها يقفون عاجزين ضعفاء قد نكسوا رؤوسهم من هول ما يسمعون ويشاهدون، لا يستطيعون كشف الضر ولا تحويلا؛ ففي لحظات أو سويعات نرى أمة من الناس لا تشكوا مرضاً بل قد يكونون في كامل صحتهم وعافيتهم، ثم يكون ذلك الجمع هلكى لا تسمع لهم حساً ولا همساً؛ فلا إله إلا الله ما أجل حكمته، ولا إله إلا الله ما أعظم تدبيره، ولا إله إلا الله يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره.
فوا عجبا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة *** وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
عباد الله: إن هذه الآيات والحوادث فيها تذكير للعباد بعظمة الله وقدرته؛ فمهما وصل إليه علم البشر فيما يتعلق بمستجدات الحياة وضرورياتها فضلاً عن كمالياتها، فإنهم لا يزالون على رغم ذلك كله، وسيكونون كذلك أبداً، قاصرين ضعفاء، مساكين أذلاء، لا يملكون لأنفسهم حولاً ولا طولا، ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا؛ فيا ترى أين قوة البشر وقدرتهم أمام هذه الكوارث والأمراض؟ وأين دراساتهم وأبحاثهم؟ وماذا قدمت مكتشفاتهم ومخترعاتهم؟ هل دفعت لله أمرا؟ وهل منعت عذاباً؟ أو أوقفت بلاء؟ كلا والله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدَّثر:31]، (وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح:7] (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطَّلاق:12].
أيها المسلمون: لئن كان أهل الطبيعة والفلك، وأصحاب النزعات الإلحادية يعزون وقوع الكوارث والأمراض إلى أسباب مادية بحتة لا علاقة لها بأفعال الناس وأعمالهم، فإن أهل الإسلام لهم نظرة أخرى وميزان آخر يدركون من خلاله أن لبعض هذه الكوارث والأمراض أسباباً أجرى الله العقوبة بها، إلا أن السبب الأعظم لوقوعها هو حرب الله ورسوله بالكفر والفجور والخزي والعار: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشُّورى:30]. يقول ابن تيمية رحمه الله: " ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا، وبما شهد به في كتابه أن المعاصي سبب المصائب، وأن الطاعة سبب النعمة".
عباد الله: إن المعاصي والذنوب هي سر هذه البلايا المتتالية، وسبب الكوارث المتعاقبة والأدواء المستعصية التي تعصف بالعالم كل يوم، وتتخطف الناس وأموالهم من حولنا ومن بيننا، وما عداها من الأسباب أسبابٌ فرعية تبعية.. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ" رواه ابن ماجة والحاكم.
عباد الله: كم أهلكت المعاصي من أمم ماضية، وكم دمرت من شعوب كانت قائمة، ولا تزال تهدم في بناء الأمم الحاضرة، وتنخر في كيان الشعوب المتتالية، ولقد كثر من أهل هذه الأزمان الخبث، وفشت في المجتمعات المنكرات بلا نكير ولا رقيب، ضيعت الصلوات وهجرت المساجد، وظهر التبرج والسفور، والتطاول على شرع الله تعالى في الحجاب والحشمة والعفاف وتطبيق حدود الله وأوامره، وانتشر بين الناس التباغض والتحاسد وتقطيع الأرحام وتضييع الحقوق، وارتفعت في كثير من بيوت المسلمين المزامير الشيطانية والأغاني الهابطة، وعرضت على الشاشات أفلام الفاحشة وصور الفساد والخلاعة والدياثة، وكثرت الغيبة والنميمة والمعاصي في أوساطنا ومجتمعاتنا؛ فلماذا يستغرب بعض الناس إذا عاقبهم الله تعالى على شيء من هذه الذنوب العظيمة والكبائر الموبقة؟.
أيها المسلمون: إن المخيف في الأمر أن العقوبة إذا حلت شملت الجميع إلا من رحم الله : " (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال:25] وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا انزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم فيكون هلاك الصالحين في البلاء هو موعد آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم". قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: " وفي الحديث تحذير وتخويف عظيم لمن سكت عن النهى فكيف بمن داهن؟ فكيف بمن رضي؟ فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة ".
وفي الحديث الآخر " أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم، إذا كثر الخبث " فإذا قيل هذا للصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ فما الظن بغيرهم؟.
عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى يري عباده من آياته؛ ليعتبروا ويتوبوا، والسعيد من تنبه وتاب، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات، وإننا -أيها المسلمون- في نعم من الله تترى؛ أمن في أوطاننا، وصحة في أبداننا، ووفرة في أموالنا، وبصيرة في ديننا؛ فهل أدينا شكر الله الواجب علينا، وهل اعتبرنا مما يحدث لإخواننا؟ هل اتعظنا من المصائب والكوارث التي حلت قريبة منا؟ وهل غيّرنا من أحوالنا، وأصلحنا من أوضاعنا؟ هل أصلحنا نفوسنا وطهرنا بيوتنا من المفاسد والفضائيات؟ هل تاب المتكاسل منا عن الصلاة فحافظ على الجمع والجماعات؟ وهل ارتدع المرابي والمرتشي ومن يغش في المعاملات؟ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
عبد الله:
إذا كنت في نعمة فارعها *** فان المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد *** فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت *** فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى *** لتبصر آثار من قد ظلم
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية
عباد الله: إن السعيد من وُعظ بغيره، وكم ننشغل بأحداث الآخرين وننسى أنفسنا، والله يمهل ولا يهمل، وقد يبتلي الله قوماً بالضراء ويبتلي غيرهم بالسراء، والمسكين من خدعه الأمل، وغره طول الأجل، وفي القرآن تذكير مستمر لنا بمن أصبحوا في ديارهم جاثمين، وبمن أصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وتذكير كذلك بالقرية الآمنة المطمئنة التي يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بمن كان يصنعون؛ فهل نتعظ عباد الله بمن مضى ومن لحق..
قال الإمام بن باز رحمه الله: " الواجب عند الزلازل والكسوف والرياح الشديدة والفيضانات وغيرها من الآيات، البدار بالتوبة إلى الله سبحانه، والضراعة إليه، وسؤاله العفو والعافية، والإكثار من ذكره واستغفاره كما قال صلى الله عليه وسلم: " فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره " ويستحب أيضاً رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ارحموا ترحموا، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ". ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء: مبادرة ولاة الأمور بالأخذ على أيدي السفهاء، وإلزامهم بالحق، وتحكيم شرع الله فيهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ا.هـ رحمه الله.
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما جرى حولكم، ولنتُب إلى الله جميعًا، فإن الله هو التواب الرحيم، ولنتذكر قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65].
ثم صلوا على الهادي البشير..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي