تموج الأرض بالكوارث والمتغيرات، ويَتفاجأ البشر بالغِيَرِ والمَثُلَاتِ، يُقَلِّبُ الله عبادَه ويريهم من الآيات والكروب، ما يوجل القلوب، ويعلقها بعلام الغيوب، آيات كونية تضرب البشر هنا وهناك؛ لعلهم...إذا كان أهل الأرض فَجَعَتْهُمْ حركةٌ قليلة، وهزَّاتٌ يسيرة، في ثوانٍ معدودة، وفي بقعة محدودة؛ فكيف بنا -يا أهل الإيمان- إذا رُجَّت الأرض رجَّاً، وبُسَّت الجبال بسَّاً؟ كيف حالنا إذا...
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام: 1 - 5].
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أُوذِيَ فِي سَبِيلِ رَبِّهِ، وَقِيلَ عَنْهُ: سَاحِرٌ وَمَجْنُونٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ حَقَّ التَّقْوَى.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: تَمُوجُ الْأَرْضُ بِالْكَوَارِثِ وَالْمُتَغَيِّرَاتِ، وَيَتَفَاجَأُ الْبَشَرُ بِالْغِيَرِ وَالْمَثُلَاتِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ عِبَادَهُ وَيُرِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْكُرُوبِ مَا يُوجِلُ الْقُلُوبَ، وَيُعَلِّقُهَا بِعَلَّامِ الْغُيُوبِ، آيَاتٌ كَوْنِيَّةٌ تَضْرِبُ الْبَشَرَ هُنَا وَهُنَاكَ؛ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَيَدَّكِرُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام: 43].
وَمِنَ الظَّوَاهِرِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ نَقِفَ مَعَهَا وَقْفَةَ تَأَمُّلٍ وَادِّكَارٍ، وَالَّتِي تَهُزُّ الْأَرْضَ حِينًا بَعْدَ حِينٍ: ظَاهِرَةُ الزَّلَازِلِ.
فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ أَنْ نَقِفَ مَعَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ وَقْفَةً إِيمَانِيَّةً، بَعِيدًا عَنِ التَّحْلِيلِ الْمَادِّيِّ الْمُجَرَّدِ، الَّذِي لَا يَبْنِي إِيمَانًا، وَلَا يُزَكِّي نَفْسًا.
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: الزَّلْزَلَةُ وَالزِّلْزَالُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَقَدَرٌ مِنْ أَقْدَارِ اللَّهِ فِي مُلْكِهِ، يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ لِحِكْمَةٍ، وَيَصْرِفُهَا عَمَّنْ يَشَاءُ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].
الزَّلَازِلُ وَالْهِزَّاتُ الْأَرْضِيَّةُ رَسَائِلُ إِنْذَارٍ مِنَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59].
إِنَّ ظَاهِرَةَ الزَّلَازِلِ لَهِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَرْتَجُّ لَهَا النُّفُوسُ، وَتَنْخَلِعُ لَهَا الْقُلُوبُ؛ إِنَّهُ مَنْظَرُ الْأَرْضِ وَهِيَ تَتَصَدَّعُ، وَتَنْشَقُّ، وَتَتَغَيَّرُ؛ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي عَهِدَهَا النَّاسُ وَقَرُّوا فِيهَا، وَاسْتَأْنَسُوهَا (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) [نوح: 19] (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) [الرحمن: 10] (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) [النبأ: 6].
هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قَرَارًا، فِي مِثْلِ طَرْفَةِ الْعَيْنِ وَانْتِبَاهَتِهَا، يُغَيِّرُ اللَّهُ حَالَهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ غَافِلُونَ، أَوْ فِي لَهْوِهِمْ سَادِرُونَ، إِذْ أَذِنَ اللَّهُ لِجُنْدٍ مِنْ جُنْدِهِ أَنْ يَتَحَرَّكَ، أَذِنَ لِلْأَرْضِ الصُّلْبَةِ السَّاكِنَةِ أَنْ تَضْطَرِبَ، فَإِذَا السُّقُوفُ تَجْثُو، وَالْبِنَايَاتُ تَتَمَايَلُ، وَالْحِيطَانُ تَتَنَاثَرُ.
ذُهِلَتِ الْعُقُولُ، زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ؛ اخْتَلَطَتِ الْأَشْلَاءُ، سَالَتِ الدِّمَاءُ، أَعْضَاءٌ مُقَطَّعَةٌ، وَأَجْسَادٌ مُبَعْثَرَةٌ، وَجُثَثٌ تَحْتَ الْأَنْقَاضِ تَئِنُّ وَتَتَوَجَّعُ.
يَخْرُجُ النَّاسُ مَعَ رَجْفَةِ الزَّلْزَلَةِ مَكْلُومِينَ، مَشْدُوهِينَ، نَازِحِينَ، يَسِيرُونَ وَلَكِنْ إِلَى غَيْرِ اتِّجَاهٍ، يَقْصِدُونَ لَكِنْ إِلَى غَيْرِ وِجْهَةٍ، لَا بُيُوتَ تُنْجِيهِمْ، وَلَا أَبْرَاجَ تُؤْوِيهِمْ: (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 12 - 13].
إِنَّهَا صَدْمَةٌ سَرِيعَةٌ خَاطِفَةٌ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهَا اللِّسَانُ، أَوْ يُصَوِّرَهَا الْبَنَانُ!
فَكَمْ فِي آيَةِ الزَّلْزَلَةِ مِنْ عِبْرَةٍ وَعِظَةٍ نَحْنُ عَنْهَا غَافِلُونَ! كَمْ فِي ظَاهِرَةِ الزَّلَازِلِ مِنْ رَسَائِلَ لِبَنِي الْبَشَرِ، تُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَا الْمَقَالِ!
أُولَى تِلْكَ الرَّسَائِلِ تَقُولُ: مَا أَعْظَمَ قُدْرَةَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ! وَمَا أَشَدَّ بَطْشَهُ! تَعَالَتْ عَظَمَتُهُ، وَجَلَّتْ قُدْرَتُهُ، إِذَا أَرَادَ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَالٍ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ الْمَكْرُوهِ، وَلَا مَحِيدَ عَنْ أَمْرِهِ النَّافِذِ، إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
خَرَّتْ لِعَظَمَةِ اللَّهِ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ، وَتَشَقَّقَتْ مِنْ خَشْيَتِهِ الصُّخُورُ الْقَاسِيَاتُ.
فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نُرَاجِعَ أَنْفُسَنَا وَتَعْظِيمَنَا لِمَقَامِ رَبِّنَا، وَخُضُوعَنَا لَهُ، وَإِجْلَالَنَا، مَعَ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتِ الْمَهُولَةِ!
كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَسْتَشْعِرَ عَظَمَةَ اللَّهِ، وَقَدْ أُمْطِرْنَا بِالشَّهَوَاتِ، وَالْتَفَّتْ حَوْلَنَا الشُّبُهَاتُ، وَتَعَلَّقْنَا بِالْمَادِّيَّاتِ، وَتَنَافَسْنَا فِي الْمَظْهَرِيَّاتِ.
وَمِنْ رَسَائِلِ الزَّلَازِلِ أَنَّهَا يَوْمَ تَرْجُفُ رَجْفَتَهَا كَأَنَّمَا تُخَاطِبُ أَهْلَ الْأَرْضِ بِعَجْزِ الْمَخْلُوقِ، وَضَعْفِهِ، وَفَقْرِهِ، وَقِلَّةِ حِيلَتِهِ، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ مَهْمَا طَغَى وَبَغَى، وَمَهْمَا تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ، وَمَهْمَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ وَتَقَدُّمٍ - فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ، يَبْقَى هَذَا الْإِنْسَانُ مَهْمَا بَلَغَ وَكَانَ فَقِيرًا ذَلِيلًا، مَا لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
يَبْقَى هَذَا الْإِنْسَانُ وَإِنِ اكْتَشَفَ الذَّرَّةَ، وَصَعِدَ الْفَضَاءَ، وَصَنَعَ الصَّوَارِيخَ الْعَابِرَةَ لِلْقَارَّاتِ، وَرَصَدَ أَمَاكِنَ الزَّلَازِلِ وَدَرَجَاتِهَا، يَبْقَى ضَعِيفًا حَائِرًا أَمَامَ هَذَا الْجُنْدِيِّ الْإِلَهِيِّ، فَلَا قُوَّةَ عَسْكَرِيَّةً، وَلَا تَرْسَانَةَ حَرْبِيَّةً، وَلَا أَجْهِزَةَ تَقَدُّمِيَّةً تُقَلِّلُ مِنْ حَجْمِ هَذِهِ الْخَسَائِرِ الْمَادِّيَّةِ، فَضْلًا أَنْ تَدْفَعَهَا أَوْ تُؤَخِّرَهَا.
وَرِسَالَةٌ أُخْرَى تَعِظُنَا بِهَا هَذِهِ الزَّلَازِلُ: فَمَا نَرَاهُ الْيَوْمَ مِنْ دَمَارٍ مَهُولٍ، وَمَشَاهِدَ مُفْجِعَةٍ مَا هُوَ إِلَّا جُزْءٌ يَسِيرٌ، وَمَشْهَدٌ قَصِيرٌ مِنْ زِلْزَالِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
إِذَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ فَجَعَتْهُمْ حَرَكَةٌ قَلِيلَةٌ، وَهِزَّاتٌ يَسِيرَةٌ، فِي ثَوَانٍ مَعْدُودَةٍ، وَفِي بُقْعَةٍ مَحْدُودَةٍ؛ فَكَيْفَ بِنَا -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا؟! وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا؟! كَيْفَ حَالُنَا إِذَا حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً؟!
إِنَّهُ زِلْزَالٌ لَا مَوْتَ فِيهِ، وَلَكِنْ فِيهِ الْخَوْفُ الْمُتَنَاهِي (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا) [الزلزلة: 1 - 3].
زِلْزَالٌ يَتَمَنَّى كَثِيرُونَ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُوُا قَبْلَهُ وَلَمْ يُخْلَقُوا: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [النبأ: 40].
إِنَّهُ زِلْزَالٌ وَصَفَهُ اللَّهُ الْعَظِيمُ بِأَنَّهُ عَظِيمٌ! تَذْهَلُ مِنْ هَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ الْمَرَاضِعُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1 - 2].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سَنَوَاتُ الزَّلَازِلِ".
فَحَقٌّ عَلَى مَنْ عَقَلَ عَنْ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَسَمِعَ وَشَاهَدَ مِثْلَ هَذِهِ الزَّلَازِلِ أَنْ يَسْعَى لِلْآخِرَةِ حَقَّ سَعْيِهَا، وَأَنْ يُسَابِقَ عُمُرَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُقَرِّبُهُ عِنْدَ رَبِّهِ زُلْفَى.
فَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَالِحِي سَلَفِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْبِلُونَ عَلَى رَبِّهِمْ -مَعَ إِقْبَالِهِمْ- إِذَا رَأَوْا مِثْلَ هَذِهِ الْكَوَارِثِ.
انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ ضُحًى عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَآهَا النَّاسُ فَخَرَجَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِلَى الصَّلَاةِ فَزِعًا، يَجُرُّ إِزَارَهُ مُسْرِعًا.
وَحِينَ حَصَلَ زِلْزَالٌ بِالْبَصْرَةِ زَمَنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، صَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الزَّلْزَلَةِ كَهَيْئَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَكَانَ مِنْ هَدْيِ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَحَابَتِهِ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا مِثْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ - ارْتِفَاعُ صَوْتِ الْوَعْظِ بِالْبُعْدِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَمُجَافَاةِ الذَّنْبِ وَالْخَطِيئَاتِ.
رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آيَةَ الْكُسُوفِ فَحَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْ عِصْيَانِ اللَّهِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ؛ فَقَالَ: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ أَنْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ".
وَاهْتَزَّتِ الْأَرْضُ فِي عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَتَّى شَعَرَ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ: "يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ! وَاللَّهِ لَئِنْ عَادَتْ لَأَخْرُجَنَّ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ".
هَذِهِ بَعْضُ أَخْبَارِ سَلَفِكُمْ مَعَ هَذِهِ الْكَوَارِثِ؛ فَمَا خَبَرُنَا نَحْنُ؟ مَا خَبَرُنَا نَحْنُ، وَنَحْنُ تَتَسَابَقُ إِلَيْنَا الْفَضَائِيَّاتُ فِي مُتَابَعَةِ الْحَدَثِ لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ؟!
إِنَّ مِمَّا يُؤْسَفُ لَهُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ مَعَ كُلِّ كَارِثَةٍ نَرَاهَا وَنُتَابِعُ أَحْدَاثَهَا نَرَى أَنَّ الصَّوْتَ الْأَعْلَى هُوَ التَّحْلِيلُ الْمَادِّيُّ، فَالْأَعَاصِيرُ هِيَ بِسَبَبِ تَيَّارٍ هَوَائِيٍّ، وَالْغُبَارُ بِسَبَبِ مُنْخَفَضٍ جَوِّيٍّ، وَالطُّوفَانُ سَبَبُهُ زِيَادَةُ مَنْسُوبِ الْمَاءِ، وَالزَّلَازِلُ بِسَبَبِ تَشَقُّقٍ وَتَكَسُّرٍ فِي قِشْرَةِ الْأَرْضِ. وَهَكَذَا، كُلُّ ظَاهِرَةٍ تُفَسَّرُ تَفْسِيرًا مَادِّيًّا صِرْفًا.
فَأَيْنَ أَيْنَ مُدَبِّرُهَا؟! أَيْنَ مُصَرِّفُهَا؟! أَيْنَ خَالِقُهَا؟! أَيْنَ الْقَهَّارُ مُوجِدُهَا؟! أَيْنَ قَوْلُ الْعَظِيمِ الْجَبَّارِ: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)؟!
هَذِهِ التَّفْسِيرَاتُ الْحِسِّيَّةُ الْقَاصِرَةُ لَا تُحَرِّكُ الْقُلُوبَ إِلَى رَبِّهَا، وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْغَفْلَةِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ، وَقِلَّةِ الِاتِّعَاظِ.
وَلَيْتَ الْأَمْرَ يَنْتَهِي عِنْدَ هَذَا، بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى غَمْزِ وَلَمْزِ وَتَنَقُّصِ مَنْ يَدْعُو لِلتَّوْبَةِ فِيهَا، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهَا بِسَبَبِ الظُّلْمِ وَالْعُتُوِّ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ.
تُذْكَرُ أَخْبَارُ الزِّلْزَالِ وَصُورَتُهُ وَآثَارُهُ، الَّتِي تَرْتَجُّ لَهَا الْقُلُوبُ، ثُمَّ مَاذَا؟ ثُمَّ بَعْدَ بِضْعِ دَقَائِقَ، تَرَى الْفُجُورَ وَالْمُجُونَ: أَفْلَامًا خَلِيعَةً، وَرَقَصَاتٍ مُهَيِّجَةً؛ فَأَيُّ إِعْرَاضٍ وَغَفْلَةٍ أَشَدُّ مِنْ هَذَا الرُّقَادِ؟!
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: إِنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الْمَعَاصِي وَقْتَ الْكَوَارِثِ لَا يَعْنِي اتِّهَامَ النَّاسِ بِالتَّقْصِيرِ، وَرَمْيَهُمْ بِالْفِسْقِ؛ فَهَلْ كَانَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ رَأَى آيَةَ الْكُسُوفِ، وَحَذَّرَ النَّاسَ مِنَ الْمَعَاصِي مُتَّهِمًا لِأَصْحَابِهِ بِالسُّوءِ، أَوْ حَاكِمًا عَلَيْهِمْ بِالِانْحِرَافِ؟!
هَلْ مُجْتَمَعَاتُنَا الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْ مُجْتَمَعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَحَابَتِهِ الْكِرَامِ؟! فَمَا بَالُ فِئَامٍ مِنَ بَنِي جِلْدَتِنَا يَأْنَفُونَ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ! مَا بَالُ فِئَامٍ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنَا يَشْمَئِزُّ مِنْ عِبَارَةِ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165] وَقَدْ خُوطِبَ بِهَا صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
لَا نَدْرِي وَاللَّهِ لِمَاذَا يَأْنَفُ هَؤُلَاءِ أَنْ يُحَذَّرَ النَّاسُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ؟! لِمَاذَا يَشْرَقُونَ حِينَ يُطَالَبُ بِإِحْيَاءِ شَعِيرَةِ الِاحْتِسَابِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَوْرِهَا فِي إِصْلَاحِ الْمُجْتَمَعِ وَحِفْظِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَأَعْرَاضِهِمْ؟!
هَلْ جَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اسْتِعْلَانَ الْمُنْكَرِ وَاسْتِعْلَاءَهُ وَحِمَايَتَهُ وَالدِّفَاعَ عَنْهُ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ؟! (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال:25].
أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ". وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ: "سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: "إِذَا ظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ".
فَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: اسْتَدْفِعُوا الْبَلَاءَ بِكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33]، وَاتَّقُوا كَوَارِثَ الدَّهْرِ بِالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
كُونُوا مِنْ أُولِي الْبَقِيَّةِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
ارْجِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ حَقًّا وَصِدْقًا، كَمَا رَجَعَ خِيَارُ أُمَّتِكُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا الْعَمَلَ الصَّالِحَ مَعَ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ فِي أَزَمَاتِهِمْ.
وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ جَمَعَ الْخَطَايَا مَعَ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَتَّعِظُ بِالْمَثُلَاتِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ، وَأَنْ يَحْفَظَنَا مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ وَفَوَاجِعِ الزَّمَانِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي