أعظم ريحانة في هذه الحياة

معيض محمد آل زرعة
عناصر الخطبة
  1. حديث نبوي شريف مبين لمنزلة الأم .
  2. ثلاث وقفات مع الحديث واستحقاق الأم لحسن الصحبة .
  3. فضل بر الأم .
  4. اغتنام الفرصة للبر بالأم .

اقتباس

الأم هي أعظمُ هبة في هذه الحياة، وهي الحب إذا ذُكر الحب، وهي الجمال عندما يُذكر الجمال، وهي العطاء إذا ذُكر العطاء؛ فإذا أردت أعظم طريق وأقصر طريق إلى الجنة فهو طريق الأم الغالية والبرّ بها، كيف لا؛ والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لمعاوية بن جاهمة عندما ..

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على منهاجه، وسلم تسليماً كثيراً.

يا ربِّ صلِّ على النبي المصطفى  *** ما اهتزَّتِ الأملاك من نَفَس الصَّبا

يا رب صلِّ على النبي المصطفى  *** ما كوكبٌ في الأرض قابل كوكبا

أما بعد: أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي المقصرة بتقوى الله -تعالى-، ففيها النجاة والنجاح والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

عباد الله: حديثي إليكم في هذا اليوم المبارك عن أعظم ريحانة في هذه الحياة، هي التي طالما سهرت من أجل أن تنام، وطالما تعبت من أجل أن ترتاح وتسعد؛ حديثي إليكم عن مربية الأجيال، ومعدة الأبطال، وصانعة الرجال؛ إنها الأم...

فإذا أردت الصحة والمال والعافية والبركة في العلم والفكر والأولاد فعليك ببر أمك؛ وكيف يبتغي السعادة والراحة أولئك الذين ليس للأم مكانة عندهم، لا في بيتٍ ولا في سيارةٍ ولا في سفرٍ ولا في راتبٍ ولا في مجلسٍ؟.

وإليكم هذا الحديث العظيم الذي طالما سمعناه، ولكن؛ هل فهمنا معناه؟ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلا أتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال له: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أُمك"، فقال: ثم مَن؟ قال: "أُمك"، فقال: ثم من؟ قال: "أُمك"، فقال: ثم مَن؟ قال: "أبوك".

هل تأملنا: لماذا هذا التكرار؟ [ ما الفوائد منه في بيان أحقية الأم بحسن الصحبة؟].

أما الأولى: فلكي نتذكر وإياك ذلك البطن الذي كنت فيه تتقلب؛ فكم أحس بالتعب والإرهاق! تأكل من أكلها وتشرب من شرابها، ومع ذلك فهي مسرورة تتمنى تلك الساعة التي تخرج فيها إلى هذه الدنيا بعدما قضيت في هذا البطن ما يقارب مائتين وسبعين يوماً.

وأما الثانية: لكي نتذكر وإياك أعظم مهمة لأمهاتنا، وهي مرحلة آلام الوضع والولادة، وهي المهمة الشاقة التي ربما أدت إلى موت الأم وبقيت حياً بعدها، حملتك وهناً على وهن، وكرهاً على كره.

هذا ابن عمر -رضي الله عنهما- رأى رجلاً يطوف حول الكعبة وعلى ظهره امرأة عجوز، فتقدم ابن عمر إلى ذلك الرجل  فقال له: من أي الديار؟ فقال: من خُراسان، فقال ابن عمر: من هذه؟ فقال الرجل: هذه أمي، أتيت بها من بلاد خُراسان وهي على ظهري، وأطوف بها وهي على ظهري، وسأعود بها إلى الرحال والبلاد على ظهري؛ يا ابن عمر، أُتراني قد وفّيت حقها من المعروف والبر الذي عليّ؟ قال ابن عمر: لا؛ ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طلقات وضعك.

فكم ليلةٍ باتَتْ بِثِقْلِكَ تَشْتَكِي *** لَها من جواها أنّةٌ وزفيرُ

وفِي الوَضْعِ لو تدري عليها مشقَّةٌ ***  فمِنْ غُصَصٍ منها القلوب تطيرُ

وكم غسّلَتْ عنك الأذى بيمينها *** وما حِجْرُها إلا لديك سريرُ

وكم مَرَّةٍ جاعَتْ فأعْطَتْكَ قُوتَهَا   *** حَنَانَاً وإشفاقاً وأنت صغيرُ

فدونك فارغَبْ في عميم دُعائها  ***  فأنت لما تدعو إليه فقيرُ

وأما الثالثة: فعندما ترى التجاعيد التي في وجه أمك فتذكر سبعمائة وعشرين يوماً وأنت على صدرها، فليست يوماً أو يومين، وتذكر كذلك التعب والسهر والمشقة والتربية ومكابدة الحياة من أجل أن تعيش في سعادة وراحة.

أيها الناس: الأم هي أعظمُ هبة في هذه الحياة، وهي الحب إذا ذُكر الحب، وهي الجمال عندما يُذكر الجمال، وهي العطاء إذا ذُكر العطاء؛ فإذا أردت أعظم طريق وأقصر طريق إلى الجنة فهو طريق الأم الغالية والبرّ بها، كيف لا؛ والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لمعاوية بن جاهمة عندما أراد الغزو "أأُمّك حيّة؟" قال: نعم. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الزم رجليها؛ فإنَّ الجنة تحت قدميها".

ودائماً ننظر إلى الشموخ في الارتفاع، إلا عند الأم، فكلما نزلت فأنت شامخٌ، وكلما تواضعت فأنت شامخٌ؛ قال الله -تعالى-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:24].

عباد الله: البر بالوالدة هو من أسباب مغفرة الذنوب، جاء رجلٌ إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أذنبتُ ذنباً، فماذا قال له رسول الله؟ اذهب وابنِ مسجداً؟ اذهب فتصدق بكذا وكذا؟ بل قال له -صلى الله عليه وسلم-: "أأمك حيّة؟" فقال: لا يا رسول الله، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "خالتُك حيّة؟"، لأنها أخت الأم، قال: نعم، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اذهب وأحسِنْ إليها؛ فيغفر الله لك". 

وجاء رجلٌ إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال له: أذنبتُ ذنباً عظيما، فقال له ابن عباس: "أأمك حيّة؟"، فقال: لا، فقال ابن عباس: استغفر الله. فجاء عطاء بن أبي رباح إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- وقال له: يا ابن عباس، لماذا سألته عن أمه؟ قال ابن عباس كلمةً عظيمة! قال: "والله لا أعلم عملاً أقرب وأحب إلى الله -تعالى- من برّ الوالدة".

وجاء رجلٌ  إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال له: أذنبتُ ذنباً، فقال له: "أأمك حيّة؟"، فقال: لا؛ بل أبي على قيد الحياة. فقال عمر: "اذهب إليه وأحسِن إليه؛ فسيغفر الله ذنبك".

فلما ذهب الرجل قال عمر: "والذي نفس عمر بيده! لو كانت أمه حيّة فبرّها وأحسن إليها رجوت ألّا تطعمه النار أبداً".

عباد الله: دعاء الوالدة مستجاب، فهذا جبريل -عليه السلام- ينزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليخبره أن هناك في أمداد أهل اليمن رجلاً يسمى أويس القرني باراً بأمّه لم يمنعه من الوصول إليك إلا أمه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أويس القرني لو أقسم على الله لأبرّه".

بل أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل من يقابل أويساً أن يطلب منه أن يستغفر له، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإن دعوته مستجابة".

وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "رجُلان في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هم أبرّ الناس بأُمهاتهم: عثمان بن عفان والحارثة بن النعمان".

أما عثمان فله مع أمه برٌ خاص، يقول: "ما استطعت أن أتأمل في وجه أمي منذ أن أسلمت حياءً وخجلاً وخوفاً أن تكون نظرةٌ من النظرات عقوقاً".

لا إله إلا الله! وأما الحارثة بن النعمان فكان يُفلي رأس أمه، وكان يضع اللقمة في فيّ أمه، وعندما صعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قصة الإسراء والمعراج سمع صوت قراءة في الجنة فقال لجبريل: "لمن هذا الصوت؟" فقال جبريل: هذا صوت الحارثة بن النعمان. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ذلكم البر! ذلكم البر!"، رغم أنه مات شهيداً في بدر، وقال عنه جبريل: هذا رجلٌ من المائة الذين رزقهم في الجنة على الله.

الله أكبر! اللهم ارزقنا البر والوفاء بآبائنا وأمهاتنا أحياءً وأمواتاً يا رب العالمين...

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة، والسلام على من لا نبي بعده...

وبعد: في عام الحديبية  مر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قبر أمه آمنة بنت وهب والتي دفنت بالأبواء بين مكة والمدينة، فبكى وأبكى معه الناس وقال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة" رواه مسلم.

وهذا محمد بن المنكدر يقول: "بتُّ أغمز رِجل أمي لتخفيف آلامها، وبات أخي عمر يصلي ليلته، فما تسرني ليلته بليلتي".

ماذا نقول لأولئك الذين يرفعون أصواتهم على أمهاتهم ويدخلون عليهم الحزن والقهر والألم والمعاناة؟.

فيا من فقدت أمك: ابكِ على فقدها، وأكثِرْ من الدعاء لها.

ويا مَن ما زالت أمك باقية؛ فالزم قدميها؛ فثمَّ الجنة. فسيأتي يوم ولن تراها! فسيأتي يوم ولن تراها!.

اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك في هذا اليوم المبارك وفي هذا المقام المبارك وفي هذه الساعة -لعلها ساعة إجابة- أن ترزقنا البر بآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا.

وارزقنا برهم أحياء وأمواتا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء.

اللهم من كان منهم ميتاً فاغفر له وارحمه، ومن كان منهم حياً فبارك له في عمره وصحته على طاعتك...

اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين والمجاهدين في كل مكان فوق كل أرض وتحت كل سماء...

اللهم اشف مرضانا، وعافِ مبتلانا، وارحم موتانا، واجعل آخرتنا خيراً لنا من دنيانا يا ذا الجلال والإكرام.

عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، فقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم أصلح شبابنا وشباب المسلمين، واحفظهم من الفتن... اللهم وارزقهم التوفيق والنجاح والصلاح في الدنيا والآخرة.

اللهم أعزّ الإسلام وانصر المسلمين  ... آمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي