تجبُ نُصرةُ المظلوم وإيقافُ هذا الظلم، وكلُّ من استطاعَ النُّصرةَ بالمالِ والسِّلاحِ والمواقِف السياسيَّة ثم لم يفعَل فهو آثِمٌ، ويُخشَى عليه من العُقوبة العاجِلة والآجِلة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الناسَ إذا رأوا الظالِمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ من عندِه".?
الحمد لله خلق الخلقَ ودرَى، وقدَّر لأوليائِه الخيرةَ على كل الورَى، ليكونوا للعالمين في شُمِّ الذُّرَى، ويظهروا بدينهم على كل القُرى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا شكَّ ولا امتِرا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ من وطِئَ الثَّرَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِه أسود الشَّرَى، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى واعتصِموا منه بأوثقِ العُرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: الهمةُ العاليةُ شرفٌ ومقصدٌ، الهِممُ تعلُو بالأمم إلى أعالِي القِمَم، وتُوصِلُ إلى معالي الأمور ومحاسن الشِّيَم، والرِّفعةُ منحةٌ إلهية: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
أثنَى الله تعالى على أصحاب الهِمَم العالية من الأنبياء والمُرسَلين، وأوصَى نبيَّه بالاقتِداء بهم، فقال له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35].
كما أثنَى على أوليائه الذين كبُرت همَّتُهم في مواطن البأس والجلَد، والعزيمة والثبات، والقوة في دين الله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].
وأمرَ الله -سبحانه- بالتنافُس في المعالِي، فقال: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148].
وعلَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمتَه علوَّ الهِمَّة، فقال: "إن في الجنةِ مائة درجة، أعدَّها الله للمُجاهِدين في سبيلِه، كل درجتين ما بين السماء والأرض، فإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفِردوس؛ فإنه أوسطُ الجنة، وأعلى الجنة، وفوقَه عرشُ الرحمن، ومنه تفجَّرُ أنهارُ الجنة". أخرجه البخاري.
ورُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لا تصغُرنَّ همَّتُكم؛ فإني لم أرَ أقعدَ عن المكرُمات من صغر الهِمَم".
وذمَّ الله المهازيلَ الهابِطين إلى الأهواء: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175، 176].
عباد الله: إن دينًا هذا شأنُه لا يقبلُ من أتباعه الكسلَ والخُمولَ والعجزَ والسكونَ والاستِرخاءَ، وضعفَ الهمَّة والفتور: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7، 8].
ولأن طلبَ الراحة في الدنيا لا يصِحُّ لأهل المُروءات فقد كان من أوائل ما أُمِر به نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) [المزمل: 1، 2].
فضحَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه، وهجَروا الأوطان، وتربوا لأجل الله، وبالتضحيات الجِسام انتصَروا في بدرٍ، وبالصبر واليقين نجَوا من الأحزاب، ونفَروا في أحلَك الظروف إلى تبوك، وتبِعوا نبيَّهم في ساعة العُسرة، ولما قيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران: 173]، زادَهم ذلك إيمانًا وثباتًا، وقالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173].
وبعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكسَل الصحبُ الكِرامُ؛ بل علَت هِمَمهم حتى غلَبوا أعظمَ حضارتَين، وخفَقَت راياتُهم في روابِي المشرقَيْن، وملؤوا الدنيا حضارةً وعلمًا وهُدًى في أخبارٍ وسِيرٍ تأسِرُ القلوبَ، وتأخذُ بالألباب، ولولا التاريخُ لقيل: ضربٌ من الأحلام.
ولقد كانوا بشرًا من البشر، لكنَّ قلوبَهم صاغَها الوحيُ، فتعلَّقَت بالسماء، اصطفاهم الله وامتحَنَهم، فصدَقوا ونجَحوا.
وهكذا ربَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابةَ، حتى صاروا قادةَ الأمة في العلم والجهاد والقيادة.
أيها المسلمون: إن الأمةَ اليوم بحاجةٍ إلى من يشُدُّ على قلوبِ أبنائِها، ليُصبِحوا رجالاً، فقد أصبحَ الكثيرُون يعدُّون أنفسَهم من أهل الجنة بمجرَّد عملٍ يسيرٍ أو طاعةٍ محدودةٍ، دون تضحيةٍ وفداءٍ، وكأنَّ الله لن يتَّخِذَ منا شهداء، حتى لقد أصبحَ الإسلام عند البعض مُجرَّد سُلُوكٍ اجتماعيٍّ ربما يُشارِكُهم فيه غيرُهم، ويتفوَّقُ عليهم آخرون.
ألم يعلَموا أنه تكاليف شاقَّة، وعملٌ وامتحانٌ؟! (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة: 214].
إذا كان المرءُ ينامُ حتى يملَّ الفراشُ جنبَه، ويبسُطُ ألوانَ الطعام كلما اشتهَى، ويصرِفُ الأوقات الطويلة للتسوُّق والمُسامَرة، ولا يرعوِي عن صرفِ جُلِّ يومِه وغالبِ ساعاته في تصفُّح الأجهزة الإلكترونية، أو مُتابعة المُلهِيات، ويركُضُ وراءَ الدنيا ركضَ الوحوش في البَرِّيَّة، فمتى يُنتِجُ؟! أو يصلُح لردِّ عدوانٍ أو نهوضٍ بأمَّةٍ؟!
إن معالِيَ الأمور والطُموحات الكُبرى لا تأتي إلا بالكدِّ والتعَب.
والناظرُ في حال الأُمم يجِدُ أنه ما من أمةٍ ترقَّت في مراتبِ المجدِ وسطَّرَت اسمَها على صفحات التاريخ إلا كان وراءَ ذلك عملٌ كبيرٌ وتضحِياتٌ جِسامٌ، وبذلٌ للجُهد في كل الميادين.
إن الأُمم لا تكونُ كذلك بغير تحمُّل أبنائِها لمسؤولياتِهم، واستِعداد الشباب والناشِئة للبَذلِ والتضحِيةِ والعطاء، ما يجعلُنا نتبيَّنُ خطورةَ إهمالِ الناشِئة، وعدم تربيتهم على الجِدِّ واستِشعار المسؤولية.
قال الغزاليُّ -رحمه الله-: "والصبيُّ أمانةٌ عند والدَيْه، وقلبُه الطاهرُ جوهرةٌ نفيسةٌ؛ فإن عُوِّدَ الخيرَ وعُلِّمَه نشأَ عليه، وسعِدَ في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشرَّ وأُهمِلَ إهمالَ البهائِم شقِيَ وهلَك. وصيانتُه بأن يُؤدِّبَه ويُهذِّبَه ويُعلِّمَه محاسِنَ الأخلاق".
وإذا نظرنا إلى أحوال السابقين من أمَّتنا نجِدُ أنهم أعطَوا هذا الأمرَ ما يستحقُّه من العناية؛ بحيث نشأَ أبناؤُهم نشأةً سويَّةً، تحمَّلُوا المشاقَّ والصِّعابَ دون كلَلٍ أو ملَلٍ، وبذَلوا لهذا الدين ولرِفعة الأمة دون مَنٍّ.
عباد الله: إن الوهنَ والضعفَ الذي تُعاني منه أمَّتُنا اليوم سببُه: حبُّ الدنيا والرُّكونُ إليها، والجُبنُ عن الإقدام خشيةَ التلَف أو فوات الحُظوظ.
عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ الأُمم أن تتداعَى عليكم كما تتداعَى الأكلَةُ إلى قصعَتها". فقال قائلٌ: ومن قِلَّة نحن يومئذٍ؟! قال: "بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيْل، ولينزعنَّ اللهُ من صُدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفنَّ الله في قلوبِكم الوهنَ". فقال قائلٌ: يا رسول الله: وما الوهنُ؟! قال: "حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت". رواه الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ صحيحٍ.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تبايعتُم بالعِينَة، وأخذتُم أذنابَ البقر، ورضِيتُم بالزَّرع؛ سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزِعُه عنكم حتى تُراجِعوا دينَكم". رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ.
إن الإغراقَ في الشَّهَوات والملذَّات والفنِّ الرخيصِ والمُلهِيات لهِيَ المُخدِّرات المُقعِدات التي تُعيقُ مسيرةَ الأمة نحو مراقِي العزَّة والكرامة، واقرأوا التاريخ، اقرأوا التاريخَ القريبَ والبعيدَ، ثم اعتبِروا يا أولي الأبصار. لقد طالَ التِّيهُ الذي تعيشُه الأمة، وامتدَّت مأساتُها، وزادَ قتامُ ليلها.
ولقد رأينا في المائة عامٍ السَّالِفة سرعةَ نهوضِ أممٍ بعد كبَواتِها، وتتابُع عافيتها بعد نكَبَاتها، وقد لاقَت حروبًا وفتنًا، وطواعينًا ومِحنًا. وليس هذا إعجابًا بالغرب؛ إنما هو تعجُّبٌ من حال الشَّرق الذي يُفتنُ في كل شهرٍ مرةً أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، وقد عابَ الله قومًا يُفتَنون في كل عامٍ مرةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون.
إن جمعَ الدنيا وعتادِها ليس سبيلاً خالِصًا للعزِّ والكرامة، فقد يستطيعُ العربُ جمعَ الدنيا من أي مكانٍ، لكنَّهم لو أداروا ظهورَهم لتعاليم دينِهم، ثم جمَعوا سِلاحَ المشرق والمغرب فلن يُدرِكوا به إلا ذُلَّ الدهر وخذلانَ الأبَد.
فليس أمام المُسلمين إلا طريقٌ واحدٌ لعزِّهم، وهو العودةُ إلى الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وترسُّمُ خُطَا السَّلَف الأول في صِدقِ الإيمان وحُسن العمل، وطريقُ الشَّرف والكرامة أساسُه أن يعرِفَ المُسلمون بمَ كانوا أمة، وكيف صار لهم في التاريخ وجود. علينا مُراجعة أنفُسنا وحالِنا أولاً.
وإن الأمةَ لا تُصابُ من الخارج إلا بعد أن تُصابَ من الداخل، وليس لنا أن نُسيءَ وننتظر من الله الإحسان: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83]، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105].
إن الإنسانَ الصالحَ لعمارة الأرض ووراثتِها ليس هو الذكيَّ فحسب؛ بل أن يكون ذا قلبٍ سليمٍ، وضميرٍ حيٍّ، وتقوَى تكبحُ جماحَ الهوى والنَّزَوات، يُغذِّي ذلك نورُ التوحيد والعبادات، والعالَمُ كلُّه بحاجةٍ إلى هذه القيادة الروحيَّة الفاضِلة.
لقد وجدَ العالَمُ نفسَه وهو في القرن الحادي والعشرين في جوٍّ من الرَّهَق والاضطِراب، والقلق والانهِيار، فحجبَ الليلُ النهارَ، وهجَمَت جنودُ الهوَى من كلِّ جانبٍ، وهُزِمَت الفضيلةُ والأخلاقُ، وأصبحَ الإنسانُ ينحرُ أخاه الإنسانَ في سبيل الجشَع أو الخُيلاء، والتهَبَت نارُ الشهوات، وانطفَأَ نورُ القلب، وغلا الجمادُ والمعادن، ورخُصَ الإنسانُ في سوق العالَم.
فصارَت المدنُ العامِرة تُسوَّى بها الأرض، وألوفٌ من البشر يُقتَلون في دقائق وثوانٍ، وتغلَّبَت أممٌ على العالَم، وجعلَتْه بيتَ المُقامِرين، أو سوقَ الجزَّارين، وعبَثَت بالإنسانية عبَثَ الوليد بالقِرطاس، وتلاعَبَت بالأُمم كالكُرة، واستصرخَ الكونُ يرجُو النجاءَ من هذا الرَّهَق، ويتلمَّسُ نورَ الإسلام كالصُّبح الصادق في ظلام الليلِ الحالِك. فهل تسمَعون النداء؟!
أيها المسلمون: بأيديكم أصحُّ تراثٍ سماويٍّ، وفي أيمانِكم رِيُّ العالَم، وإن الأمةَ الإسلاميَّةَ مُزوَّدةٌ بدينٍ عصِيٍّ على الفناء له قدرةٌ على تحريك الروح الهامِدة، وتجديد الأسمان البالِية، وهي ما زالَت تستشفِي من سقامِها، وتُحاولُ أن تستعيدَ قُواها، وتستأنِف أداء رسالتِها الأولى، ولعلَّها بتأييد الله بالغةً ما تحبُّ.
وإن أمَّتَنا الكبيرة تنتشِرُ فوقَ بِساطٍ من الأرض التقَت فوقَه مقاليدُ الدنيا، ومفاتيحُ العِمران، وفي قبضَةِ يدها رخاءُ العالَم وشرفُه، ولو أحسنَت استِغلالَ ما تملِك فإن سائرَ الأُمم تحتاجُ إليها، ولا تحتاجُ هي إلى أحدٍ: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
ألا فتيمَّموا شطرَ الفلاح، وتسربَلوا بطُهر الصلاح، وخُذوا من مِشكاة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) [الشمس: 9]، ثم أتبِعوا سببًا، واسترِدُّوا كرامتَكم، وقولوا: لا للشهوات والنَّزَوات، والرَّغَبات والرَّهَبات، لا للنَّعَرات والخِلافات.
شُدُّوا عزائِمَكم، واجتازُوا المسالِك، وتخطُّوا المهالِك، وإن السُّمُوقَ إلى القِمَم والذُّرَى لا يكونُ بوثبةٍ واحدةٍ؛ بل لا بُدَّ من تدرُّجٍ على سُنن الله في الحياة.
إن عالِيَ الهِمَّة يحمِلُ همَّ أمتِه ويجودُ بالنفسِ والنَّفيسِ في سبيل تحصيلِ غايتِها، وتحقيق رِفعَتها، ويعلم أن المكارِمَ منوطةٌ بالمكارِه، وأن المصالِحَ والخيرات واللَّذَّات والكمالات لا تُنالُ إلا بحظٍّ من المشقَّة، ولا يُعبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التَّعَب، ومن أراد العلوَّ لأمته لم يلتفِت إلى لومِ لائِمٍ، ولا عذلِ عاذِل، ومضَى يكدَحُ ساعِيًا: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 19].
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزِلَ، ألا إن سِلعةَ الله غالية، ألا إن سِلعةَ الله الجنة".
كبيرُ الهمَّة لا ينقُضُ عزمَه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران: 159].
إن طريقَ النجاح ليس مفروشًا بالورد والرَّياحين، ويحتاجُ إلى تعبٍ وإلى بذلٍ لإدراكِه، وإذا ذاقَ الإنسانُ طعمَ النجاح هانَت عليه كلُّ لحظةِ تعبٍ أمضاهَا في طريقِه، حتى يكون ذلك التعبُ أشهَى من النفس، وألذَّ من طعم الدَّعَة والسُّكون. وهذه سُنَّةُ الله في الحياة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
وتربيةُ الأمة على ذلك مسؤوليةُ الأولياء والمُربِّين، ووسائلِ الإعلام والمسؤولين، أما التخديرُ وزرعُ الوهْنِ بالمُلهِيات فلا يُنتِجُ إلا أمَّةً داجِنةً، لا تبنِي في الرَّخاءِ، ولا تصمُدُ في البلاء.
إن على أمة الإسلام -وهي تمرُّ بأحلَك ظروفِها، وأخطَر مُنعطفَاتِ تاريخها- أن تعلُو همَّتُها عن اللَّهْوِ والعبَثِ، والفُرقة والخِلاف، والغفلةِ والشُّرود، وأن تُربِّيَ جيلَها على الجِدِّ والطُّموح والهِمَم العالِية، وقد قال الله لنبيِّه: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) [مريم: 12]، وقال لموسى عن الألواح: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) [الأعراف: 145].
وإن سُنن الله في الانتِصار والانكِسار ليست حظوظًا عمياء، لكنَّ الأمورَ تتدافَعُ إلى نهايتِها وفقَ سُنن كونيَّة دقيقة، ومُقدِّماتٍ مُنتظمةٍ كانتِظام النتائِج بعد الأسباب: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بسُنَّة سيِّد المُرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الحمد لله الذي يسوقُ المواعِظ الزَّاجِرات، ويُوالِي العِبَر التي تستمطِرُ العَبَرات، ويُرِي خلقَه هوانَهم إذ هانوا، ومكانَهم بعد أن كانوا فبَانُوا، وله -سبحانه- الحِكَمُ الباهِرات، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
وبعد:
فبين أيدي العربِ وفي أرض المُسلمين، وفي ثَرَى سوريا، وعلى مسامِع العالَم وتحت بصرِه تتلُو المجزرةُ المجزرةَ، ويسيرُ الدمُ على إثر الدماء، ويُطفِئُ النظامُ المُجرِمُ شموعَ الحياة في أجساد عشرات الألوف من السُّوريِّين، ويُشرِّدُ الملايين، ويُرهِبُ الشعبَ، ويقصِفُ تُراثَ الحضارات السَّالِفات، ويتعمَّدُ حرقَ المكتبات التي تستبطِنُ كنوزَ المعارِف والمخطوطات، ما يعنِي انقِطاعَ ذلك النظامِ الآثِم عن أي خيطٍ يربِطُه بالإنسانيَّة والبشر، فلا الدينُ يَعنيهِ، ولا الحضارةُ تستهوِيه، ولا تُراثُ الإنسانيَّة أو صُراخ الأطفال يُحرِّكُ ساكِنًا فيه.
لم يزَلْ النظامُ الجاثِمُ على أرض سُوريا، الدَّخيلُ والمُتسرطِنُ في جسدِها يرتكِبُ المذابِحَ والقبائِحَ، ويتفنَّنُ في ارتِكاب المذابِح ونشر الإرهاب، يُعاوِنُه في ذلك إخوةُ المُعتقَد، ورِفاقُ العِداء للعرب والمُسلمين، قلَّةٌ يُبيدون كثرةً، وشِرذِمةٌ مُتسلِّطون على أمَّةٍ: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج: 18].
يُذبَحُ خمسمائةٌ أكثرُهم من الأطفال في عرطوز الفضل برِيف دمشق، والعالَمُ لم يرَ بعدُ ما يستدعِي التدخُّلَ أو الإمدادَ بالسِّلاح لأسبابٍ واهِيةٍ وأعذارٍ مُصطنَعَة، في حينِ أن دافِعَه الحقيقيَّ هو خشيةُ كَدَر العدوِّ المُجاوِرِ من وجود السِّلاح بأيدٍ مُتوضِّئة، فأُهدِرَت دماءُ السوريِّين، وأزهِقَت نفوسُهم بين عدوَّيْن: مُعتدٍ داخليٍّ ومُحتلٍّ خارجيٍّ.
وتتساقَطُ قِيمُ المُنظَّمات والأمم التي تُقدِّمُ نفسَها بأنها حامِية للإنسان، أو ناصِرة للضعيف، وهي ترى هذه المشاهِد المُروِّعة، والأخبارَ المُفزِعة تَتْرَى من أرض سُوريا ثم لا تُحرِّكُ ساكِنًا.
تجبُ نُصرةُ المظلوم وإيقافُ هذا الظلم، وكلُّ من استطاعَ النُّصرةَ بالمالِ والسِّلاحِ والمواقِف السياسيَّة ثم لم يفعَل فهو آثِمٌ، ويُخشَى عليه من العُقوبة العاجِلة والآجِلة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الناسَ إذا رأوا الظالِمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ من عندِه".
اللهم الطُف بإخواننا في سُوريا، اللهم الطُف بإخواننا في سُوريا، اللهم ارفَع عنهم البلاءَ، وعجِّل لهم بالفرَج، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وتولَّ أمرَهم، اللهم ارحم موتاهم، وعافِ جرحاهم، يا راحِمَ المُستضعَفين، ويا ناصِرَ المظلومين.
ثم اعلموا أن الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدةَ والمُفسِدين، اللهم انصُر دينكَ وكتابَك وسنةَ نبيك وعبادكَ المُؤمنين.
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي