إن ما نسمعه ونشاهده من تتابع آيات الله الكونية في هذه الأيام، حيث الفيضانات المدمرة، والأعاصير المهلكة، والخسوفات المتتابعة، والزلازل المدمرة، وكثرة الحرائق وانتشارها؛ لَنُذُرُ تخويفٍ من الله لعباده، ورسل إنذار من الله لخلقه؛ إنها -والله!- آيات باهرات على عظيم قدرة الخالق -عز وجل-، ففي أقل من دقيقة تهتز الأرض، وترجف بمن عليها، وتخلف وراءها القتلى والجرحى. ألا ما أعظم قدرة الله وأشد بأسه ونكاله!.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله -عز وجل- وراقبوه، واعلموا -رحمكم الله- أن الله مطلع على أحوالكم لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه -سبحانه- مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، إن أناب العباد إليه فرح بتوبتهم وإنابتهم، وإن عصوه وأعرضوا عنه لم يأخذهم -سبحانه- بغتة أو فجأة؛ بل يمهلهم ويستدرجهم، فإذا أصروا على عماهم وضلالهم جاءهم عذاب الله بغتة، جاءهم عذاب الله فجأة؛ وهل يهلك إلا القوم المجرمون؟!.
أيها الإخوة المسلمون، أيها الإخوة المؤمنون: إن من ظواهر قدرة الله -عز وجل- العظيمة ما يحدثه الله -سبحانه وتعالى- في الكون من حوادث باهرة، وآيات عظيمة، تكون -والله!- عبرة ولكن للمعتبرين، وسببا لتوبة الغافلين والمعرضين، ونكالا بالظالمين والمستكبرين.
وقد قص الله -عز وجل- علينا في كتابه الكريم صورا من آيات قدرته العظيمة التي حلت بالأمم والشعوب نتيجة تكذيبهم وإعراضهم، فلم تنفعهم قوتهم ولا جبروتهم ولا سلطانهم ولا مدنيتهم ولا حضارتهم.
سلط الله على قوم نوح الطوفان العظيم فأهلكم جميعا إلا نوحا -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين، ثم أمر الله السماء أن تكف عن المطر، والأرض أن تبلع الماء: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود:44].
وأما عاد فسلط الله عليهم الريح العقيم؛ لتكذيبهم رسول الله هودا -عليه السلام-، واستكبارهم على الحق، (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقة:6] أي: ريح باردة شديدة الهبوب، (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ)، أي: سلطها عليهم، (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا)، أي: متتابعات، (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) [الحاقة:7]، أي: خرت باليةً، فكانت الريح تحمل الرجل العظيم منهم فترفعه في الهواء ثم تضرب به الأرض فيخر ميتاً على أم رأسه، ويصبح مثل قائمة النخل إذا خرت بلا أغصان، (فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ) [الحاقة:8]؟ أي: قد بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خلفا.
ولما عصت ثمود نبي الله صالحاً -عليه السلام- وخالفت أمره وعقروا الناقة فقتلوها وفصيلها بكى نبي الله صالح وقال: (تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود:65]، وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فأمسى أولئك النفر الذين قتلوها وهم عازمون على قتل نبي الله صالح -عليه السلام-، وقالوا: إن كان صادقا عجلناه قبلنا، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته، فلما عزموا على ذلك وتواطؤا عليه وجاءوا بالليل ليفتكوا بنبي الله صالح -عليه السلام- أرسل الله -سبحانه- عليهم حجارة فردختهم تعجيلا قبل قومهم.
وأصبح قوم ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من المهلة ووجوههم مصفرة، ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام المهلة وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة، ثم أصبحوا في اليوم الثالث ووجوههم مسودة مظلمة.
فلما أصبحوا من يوم الأحد بعد أن انتهت مهلة الأيام الثلاثة التي أخبرهم بها وعنها نبي الله صالح -عليه السلام- قعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، وهم لا يدرون ماذا يفعل الله بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب، حتى إذا أشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء، صيحة جند من جند الله -عز وجل-.
جاءتهم صيحة من السماء شديدة رجفت بها الأرض، ففاضت الأرواح، وزهقت النفوس في لحظة واحدة، فأهلكهم الله بغير جيش ولا سلاح، وإنما هي صيحة ورجفة، فإذا الجميع صرعى لا حراك لهم.
وقوم لوط لما فشت فيهم الفاحشة أرسل الله لهم ملائكة وصاروا ضيوفا عند لوط -عليه السلام-، فهمّ قومه بفعل الفاحشة بهم، فنهاهم لوط عن ذلك بشتى الوسائل؛ لكن، لم يُجْدِ معهم شيء، فقال لوط حينئذ متحيرا: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود:80]، فقالت له ضيوفه ملائكة الرحمن: (قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ)، وأمروه أن يسير بأهله ليلا لينجو من عذاب الله -عز وجل- الذي ينتظر قومه صباحا، وألا يصحب امرأته الكافرة فإنها هالكة.
وكان قوم لوط وقوفا على باب بيته، فخرج عليهم جبريل -عليه السلام- في صورته التي خلقه الله عليها، وضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق.
ولما خرج لوط بأهله ليلا وغادر قرى قومه وأقبل الصباح نشر جبريل -عليه السلام- جناحه فانتزع به أرض القوم بما فيها من بيوت وناس وحيوان ونبات، وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب والدجاج، ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة، فجعل عاليها سافلها.
فلما سقطوا أذلاء وأصابهم من الرعب ما أصابهم أمطرهم الله بحجارة من طين سقطت عليهم متتابعة، وقد كتب على كل حجر اسم من قدر الله -سبحانه- أن يصيبه الحجر فيهلكه، ولم يسلم من هذه الحجارة أحد من قوم لوط، حتى من كان عند قوم آخرين يتحدث إليهم فلم يحمله جبريل فيمن حمل فقد تبعه حجره الذي يحمل اسمه فأصابه وأهلكه من دون الناس، فكان عذاب الله قدرا نافذا ما له من دافع، عذابا غير مردود، فسبحان الله العظيم الفعال لما يريد!.
وأما قوم شعيب -وهم أهل مدين- فقد أهلكهم الله بعدة مهلكات، فقد أصابهم حر شديد مدة سبعة أيام لا يظلهم منه شيء، ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر، فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله -تعالى- عليهم منها شررا من نار ولهب ووهج عظيم، وهو ما سماه الله -تعالى- في كتابه عذاب يوم الظلة، إذ يقول -سبحانه- في سورة الشعراء: (قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء:185-187].
يقولون ذلك سخرية واستهتارا بني الله وبما قاله -عليه السلام-، عندها قال لهم نبي الله: (قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء:188-189].
ثم دوت في آذانهم صيحة عظيمة، كما قال -تعالى- في سورة هود: (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود:91-94].
وأصابتهم كذلك رجفة عظيمة أزهقت أرواحهم، كما أشار -عز وجل- في سورة الأعراف: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف:78].
كل ذلك قص الله -سبحانه وتعالى- علينا خبره في كتابه الكريم، كل ذلك -يا عباد الله- فعل بالأمم المكذبة الأمم المعرضة عن الله وعن شرعه وعن دعوة أنبيائه، فعل الله ذلك بالأمم جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
وفيما حصل بالأمم المكذبة ويحصل بالمجتمعات المعرضة عبرة وعظة: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء:8-9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله القوي القاهر العزيز الغالب الفعال لما يريد، أحاط -سبحانه- بكل شيء علما ووسع كل شيء رحمة وحلما، وقهر كل مخلوق عزة وحكما.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله -عز وجل-، ولنأخذ -رحمكم الله- عبرة وعظة بما يحدثه الله -عز وجل- في الكون من آيات عظيمة يبتلي خلقه بها.
ألا وإن من آيات الله العظيمة التي تهز قلوب المؤمنين، وتوجل منها أفئدة المتقين، آية الزلزلة التي يحدثها الله في الأرض ما بين فترة وأخرى، وهي -وإن كان لها أسباب مادية يعرفها علماء الأرض- إلا أن لها حكما عظيمة، وأسرارا ً ربانية، كغيرها من آيات الله -عز وجل-، كالخسوف والكسوف والبراكين والفيضانات والأعاصير.
ولا منافاة البتة بين الأمرين؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- هو مدبر الكون، هو خالق الكون، هو مسبب الأسباب -سبحانه وتعالى-.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات والحوادث, لها أسباب وحكم, فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمه في ذلك.
وأما أسبابه؛ فمن أسبابه انضغاط البخار في جوف الأرض كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق، فإذا انضغط طلب مخرجا؛ فيَشُقُ ويُزلزل ما قرب منه من الأرض. اهـ.
غير أن ما ينبغي أن يعلم -أيها الإخوان- أن الزلازل ونحوها إنما توجد وتكثر عند فشو المنكرات والموبقات، وانتشار الشرك وصوره، والزنا والربا، وتحكيم القوانين الوضعية، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم، والتحلل من أحكام الشرع المطهر، والتساهل في تطبيق الحدود وتنفيذ الشريعة وأحكامها، وانتشار السفور والتبرج.
روي عن عائشة -رضي الله عنها- وقد دخل عليها رجل وقال: يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة، فقالت -رضي الله عنها-: "إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله من حجاب، وإذا تطيبت لغير زوجها كان عليها نار وشنار، وإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور وضربوا المعازف غار الله في سمائه فقال تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمها الله عليهم".
فقال أنس راوي الحديث: "عقوبة لهم؟" فقالت عائشة -رضي الله عنها-: "رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين، ونكالا وسخطا وعذابا على الكافرين".
فانظروا -رحمكم الله- كيف تكون المعاصي سببا لعقوبة الله، وكيف يكون العري والتفسخ والتبرج والانحلال الخلقي سببا للهلاك والدمار، كما أشارت إلى ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في الحديث السابق.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتُعُلّم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعصى أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقُهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شرّه، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا، وآيات تتتابع كنظام قطع سلكه فتتابع".
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء، قال: "إذا كان خمس كان خمساً: إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة..." الأثر.
فانظروا -أيها الإخوة المسلمون- إلى عظم شأن الربا وشدة خطره على العباد والبلاد، وتأملوا حال المجتمعات المنتسبة للإسلام وكيف فشا الربا فيها، بل إنه أصبح الأصل في المعاملات العامة، حيث تقوم البنوك والمؤسسات عليه؛ بل وتحارب أحيانا المشاريع الإسلامية التي تقوم على المعاملات الشرعية، ويسخر من أهلها ويستهزأ بهم ويتندر بهم.
أخرج ابن أبي الدنيا عن أشعث بن سوار قال: "حدثني رجل من أهل المسجد، مسجد الكوفة، وكان أبوه ممن شهد بدرًا، قال: مررت على قرية تتزلزل، فوقفت قريبًا أنظر، فخرج علي رجل فقلت: ما وراءك؟ فقال: تركتها تتزلزل، وإن الحائطان ليصطكان ويرمى بعضهما ببعض، فقلت: وما كانوا يعملون؟ قال: كانوا يأكلون الربا".
بل إن من أسباب الزلازل وغيرها من النكبات الاقتصادية والسياسية والأمنية ونحوها مضايقة الصالحين أو تعذيبهم أو سجنهم أو قتلهم أو إلصاق التهم بهم، فقد ذكر المزي -رحمه الله- في تهذيب الكمال، والسيوطي في كشف الصلة، عن وصف الزلزلة: أن الدنيا أظلمت وزلزلت الأرض لما ضرب إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله.
وكتب بعضهم عن زلزلة حدثت يصفها وأسبابها، فكان مما قال: "فكان ما حدث منها عبرة للبيب العاقل، وحسرة على المصر الغافل، وإزعاجا للمتباطئ عن الطاعة والمتثاقل، وما ظلم الله عباده بإهلاك النسل والناسل، ولكنهم تعاموا عن الحق وتمادوا في الباطل، وأضاعوا الصلوات وعكفوا على الشهوات والشواغل، وأهدروا دم المقتول وبذلوا الرشوة في ترك القاتل، وارتكبوا الفجور وشربوا الخمور وانتشر فسقهم في القبائل، وأكلوا الربا والرشا وأموال اليتامى وهي شر المآكل، وزهدوا فيما رغبوا فيه وطمعوا في الحاصل، ومن بقي منهم إنما يستدرج في أيام قلائل، وما جرى على العباد فعبرة وموعظة للخارج والداخل، والله يمن على الإسلام وأهله بفرج عاجل...".
أيها الإخوة في الله: لقد كان السلف الصالح عند حدوث الزلازل والآيات يخافون خوفا عظيما، يخافون أن يكون ذلك بسبب ذنب أحدثوه، فيرجعون إلى أنفسهم بالمحاسبة والتوبة والإنابة والاستغفار للرحيم الغفار.
أخرج بن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في سننه، عن صفية بنت أبي عبيد قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السُّرُر، فخطب عمر الناس، فقال: "أحدثتم؟ لقد عجلتم! لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم".
وقال مقاتل بن محمد نصر أبادي: "كانت زلزلة بالري، فبكى أبو عمران الصوفي وأنا على السطح، فرآني فتلا هذه الآية: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا) [الإسراء:60].
وقال ابن جرير في تفسيره بسنده عن قتادة في قوله -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء:59]، قال: "إن الله يخوف الناس بما يشاء من آياته، لعلهم يعتبون ويذكرون ويرجعون".
ذكر لنا أن الكوفة قد رجفت على عهد ابن مسعود فقال: "أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فاستعتبوه". يطلب منكم الرجعة والتوبة والإنابة والرجوع إليه -سبحانه وتعالى-، فخذوا عبرة من هذه الآية فإنها نذارة وتخويف.
أيها الإخوة في الله: إن ما نسمعه ونشاهده من تتابع آيات الله الكونية في هذه الأيام، حيث الفيضانات المدمرة، والأعاصير المهلكة، والخسوفات المتتابعة، والزلازل المدمرة، وكثرة الحرائق وانتشارها؛ لَنُذُرُ تخويفٍ من الله لعباده، ورسل إنذار من الله لخلقه؛ إنها -والله!- آيات باهرات على عظيم قدرة الخالق -عز وجل-، ففي أقل من دقيقة تهتز الأرض، وترجف بمن عليها، وتخلف وراءها القتلى والجرحى. ألا ما أعظم قدرة الله وأشد بأسه ونكاله!.
فهل نتعظ أيها الإخوة في الله؟! هل نتعظ بما حل ويحل في هذا الكون؟! هل ننتهي عن معاصينا وننزجر عن تقصيرنا وتفريطنا في حق خالقنا -سبحانه-؟ هل نجدد التوبة النصوح التي نعلن معها بداية عهد جديد مع الله فنقلع عن معاصيه، ونعرض عن معارضته ومبارزته بالعصيان؟.
وعياذا بالله -أيها الإخوة المسلمون- أن تكون هذه الآيات والنذر نسمع بها ونراها ونشاهدها ونحس بها فلا تكون -والعياذ بالله- إلا استدراجا لنا، لا نستفيد منها توبة من ذنوبنا، ولا نستفيد منها إقلاعا عن معاصينا، ولا محاسبة لنفوسنا. نعوذ بالله من حياة الغافلين والخاسرين.
ألا فلنتب إلى الله -عز وجل-؛ فإن ربنا كريم يحب توبة عبده إذا تاب وأقبل إليه، يفرح بتوبة عبده فرحا عظيما، ويبدل سيئات العبد -مهما عظمت السيئات ومهما كثرت الذنوب والخطيئات يبدلها الرب لعبده التائب توبة نصوحا- يبدلها حسنات...
ألا فلنتب -أيها الإخوان- قبل حلول المنية بنا، ألا فلنتب إلى الله توبة نصوحا، لنتب من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، لنتب من الذنوب الظاهرة والذنوب الباطلة، لنتب من المعاصي كلها، ولنقبل على الله -عز وجل-، ففي الإقبال على الله -عز وجل- حياة السعادة، حياة الطمأنينة، حياة العز والشرف في الدنيا والآخرة.
أسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه أن يمن علينا جميعا بالتوبة النصوح، والإقبال عليه -سبحانه- إنه على كل شيء قدير.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
وقال -عليه الصلاة والسلام- "من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صل وسلم وبارك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي