دعونا نتذاكرُ عَظَمَةَ العظيمِ، ونحن نرى ونعايشُ هذا الغيثَ العَمِيْمِ. دعونا نسمتع لرسائل الغيث حين تحدِّثُنا بلسانِ الحالِ عن عظمةِ منْ.. ويَعْظُمُ الفرحُ بهذه النعمةِ على العبادِ حينَ يَحُلُّ بدارِهم القَحْطُ، فتغبرُّ أجواؤُهم، وتَيْبَسُ أشجارُهم، وتغورُ آبارُهم، فيموتُ الزَّرعُ، ويَجِفُّ الضَّرعُ، فتهلكُ المواشي، ويَنْزِلُ الضُّرُّ على أهلِ البوادي، فتنتظرُ الأرواحُ الفرجَ من السماءِ، ويَتحيَّنُ...
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:
لَا حَدِيثَ أَرْوَعُ مِنَ الْحَدِيثِ عَنِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَلَا وَعْظَ أَبْلَغُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِعَظَمَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
فَمَا عُولِجَتِ الْقُلُوبُ بِمِثْلِ اسْتِصْلَاحِهَا بِإِجْلَالِ اللَّهِ وَتَوْقِيرِهِ وَإِعْظَامِهِ، فَصَلَاحُنَا وَنَجَاحُنَا، وَنَجَاتُنَا وَفَلَاحُنَا بِقَدْرِ تَحْقِيقِنَا لِهَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ الْعَالِيَةِ.
وَحِينَ تَقْصُرُ النُّفُوسُ عَنْ تَحْقِيقِ خَشْيَةِ اللَّهِ بَيْنَ جَوَانِحِهَا، فَلَا تَسَلْ عَنِ الْفُتُورِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْجُرْأَةِ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالْخَطِيئَاتِ، وَالْوُقُوعِ فِي الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعَدَاوَاتِ.
يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: عَظَمَةُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ وَكَوْنِهِ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ تُحَدَّ، وَأَوْسَعُ مِنْ أَنْ تُعَدَّ، فَمَا فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا هُوَ شَاهِدٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَنَاطِقٌ بِبَدِيعِ صُنْعِ مَنْ خَلَقَهُ.
دَعُونَا نَتَذَاكَرْ عَظَمَةَ الْعَظِيمِ، وَنَحْنُ نَرَى وَنُعَايِشُ هَذَا الْغَيْثَ الْعَمِيمَ.
دَعُونَا نَسْتَمِعْ لِرَسَائِلِ الْغَيْثِ حِينَ تُحَدِّثُنَا بِلِسَانِ الْحَالِ عَنْ عَظَمَةِ مَنْ خَلَقَهُ وَخَلَقَنَا:
أُولَى تِلْكَ الرَّسَائِلِ تَقُولُ: مَا أَعْظَمَ جُودَ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ! وَمَا أَكْرَمَ وَأَهْنَأَ عَطَاءَ الْكَرِيمِ الْمَجِيدِ! (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28].
تَكُونُ النِّعْمَةُ عَزِيزَةٌ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهَلْ آلَاءٌ أَغْلَى مِنْ نِعْمَةٍ لَا يَقُومُ الْعَيْشُ إِلَّا بِهَا؟!
وَيَعْظُمُ الْفَرَحُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ عَلَى الْعِبَادِ حِينَ يَحُلُّ بِدَارِهِمُ الْقَحْطُ، فَتَغْبَرُّ أَجْوَاؤُهُمْ، وَتَيْبَسُ أَشْجَارُهُمْ، وَتَغُورُ آبَارُهُمْ، فَيَمُوتُ الزَّرْعُ، وَيَجِفُّ الضَّرْعُ، فَتَهْلِكُ الْمَوَاشِي، وَيَنْزِلُ الضُّرُّ عَلَى أَهْلِ الْبَوَادِي، فَتَنْتَظِرُ الْأَرْوَاحُ الْفَرَجَ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَتَحَيَّنُ كُلُّ مُحْتَاجٍ وَمَلْهُوفٍ الْغَيْثَ وَالْمَاءَ.
فَإِذَا السَّحَابُ الثِّقَالُ يَجْتَمِعُ وَيَتَلَاحَمُ، فَيَهْتَزُّ وَيُمْطِرُ، وَيَجُودُ بِوَابِلٍ صَيِّبٍ، وَمَاءٍ طَيِّبٍ، هَنِيئًا مَرِيئًا، عَذْبًا فُرَاتًا، فَيَعُمُّ الْفَرَحُ، وَيَظْهَرُ الْبِشْرُ (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم: 48].
كَيْفَ لَا يَسْتَبْشِرُونَ وَأَرْضُهُمْ بَعْدَ سُكُونِهَا قَدِ اهْتَزَّتْ؟! وَأَجْوَاؤُهُمْ بِزَخَّاتِ الْمَطَرِ قَدِ ازْدَانَتْ؟! مُؤْذِنَةً بِمَفَاوِزَ مُخْضَرَّةٍ، وَأَشْجَارٍ مُثْمِرَةٍ، وَنَبَاتَاتٍ مُزْهِرَةٍ.
إِنَّهَا نِعَمٌ لِلْبِلَادِ وَالْعِبَادِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ، قَدْ عَمَّ خَيْرُهَا، وَدَنَا نَفْعُهَا: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة: 27].
وَمِنْ رَسَائِلِ الْغَيْثِ أَنَّ [دَفَقَاتِ] الْمَطَرِ تَدْعُونَا إِلَى التَّفَكُّرِ فِي عَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ فِي مُلْكِهِ، فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ لِأَنْ نَرَى بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ بَعْدَ عَيْنِ الْبَصَرِ آلَاءَ اللَّهِ تَعَالَى! فَكَثِيرًا مَا دَعَتْنَا آيَاتُ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِلَى التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، بَعْدَ ذِكْرِ الْغَيْثِ وَالْأَمْطَارِ (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 10 - 11].
لَقَدْ سَبَقَ الْقُرْآنُ جَمِيعَ التَّفْسِيرَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالنَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَنِ الْمَطَرِ وَأَسْرَارِهِ وَآثَارِهِ، وَالْمُؤْمِنُ تَزِيدُهُ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمُعْجِزَةُ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَتَعَلُّقًا بِرَبِّهِ، وَإِعْظَامًا لِمَقَامِهِ.
وَمِنْ رَسَائِلِ الْغَيْثِ الْمُؤْذِنَةِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- تَفَرُّدُهُ -سُبْحَانَهُ- بِإِنْزَالِ الْغَيْثِ، فَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ مُبَشِّرَاتٍ، حَتَّى أَضْحَى هَذَا التَّفَرُّدُ وَتِلْكَ الْقُدْرَةُ مُسْتَقِرًّا فِي الْفِطَرِ: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [العنكبوت: 63].
هَلْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُ اللهِ يُقَلِّبُ السَّحَابَ كَيْفَ يَشَاءُ؟! هَلْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُ اللَّهِ يَأْمُرُ الْمُزْنَ فَتَتَرَاكَمُ وَتَتَلَبَّدُ، ثُمَّ تَسُوقُهَا الرِّيَاحُ إِلَى بَلَدٍ مُحَدَّدٍ، فَيَنْزِلُ حِينَهَا الْغَيْثُ بِقَدَرٍ مَقْسُومٍ، وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ؟! ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يُنَزِّلُ الْمَاءَ، وَيُقَسِّمُ النَّعْمَاءَ، فَيُمْطِرُ أَرْضًا، وَيَمْنَعُ أُخْرَى، رُبَّمَا أَنْزَلَ غَيْثَهُ فِي الْقِفَارِ، وَرُبَّمَا أَوْدَعَهُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ (وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27].
إِنَّ هَذَا السَّحَابَ يَوْمَ يَجْتَمِعُ بَعْدَ تَفَرُّقٍ، وَيَتَلَاحَمُ بَعْدَ تَشَتُّتٍ، كَأَنَّمَا يُخْبِرُنَا بِعَجْزِ الْإِنْسَانِ، مَهْمَا بَلَغَ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالتَّحَضُّرِ، فَلَمْ وَلَنْ يَسْتَطِيعَ هَذَا الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةً وَاحِدَةً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الواقعة: 68 - 70].
وَمِنْ رَسَائِلِ الْغَيْثِ فِي تَعْظِيمِ اللَّهِ: أَنَّ خَزَائِنَ السَّحَابِ الثِّقَالِ مَحْصِيَّةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ -تَعَالَى- تَأَمَّلْ يَا عَبْدَ اللَّهِ فِي قَطَرَاتِ الْأَمْطَارِ، وَتَمَعَّنْ فِي اشْتِدَادِ صَبِّهَا، ثُمَّ اسْتَشْعِرْ حِينَهَا وَمَعَهَا أَنَّ كُلَّ قَطْرَةٍ -وَإِنْ دَقَّتْ- قَدْ عَلِمَ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ- حَرَكَتَهَا وَنُزُولَهَا وَمُسْتَقَرَّهَا (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) [سبأ: 2 - الحديد: 4].
أَمَا وَاللَّهِ لَوِ اسْتَشْعَرْنَا عِلْمَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ - لَصَلُحَتْ وَتَغَيَّرَتْ أَحْوَالُنَا وَقُلُوبُنَا وَنُفُوسُنَا.
أَمَا وَاللَّهِ لَوِ اسْتَشْعَرْنَا حَقًّا وَصِدْقًا قَوْلَ الْحَقِّ: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرعد: 10] لَاسْتَحْيَيْنَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ يَفْقِدَنَا حَيْثُ أَمَرَنَا، أَوْ أَنْ يَرَانَا حَيْثُ نَهَانَا.
وَمِنْ رَسَائِلِ الْغَيْثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْطَارَ جَعَلَهَا آيَاتٍ فِي إِثْرِهَا آيَاتٌ، فَهِيَ آيَةٌ لِلْحَيَاةِ، وَبُرْهَانٌ عَلَى الْمَمَاتِ، وَعَلَامَةٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ.
فَحَيَاةُ الْبَشَرِ وَقُوَّتُهُمْ وَقُوتُهُمْ قَائِمٌ عَلَى الْمَاءِ: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ) [يس: 33 - 35].
وَجَعَلَ -سُبْحَانَهُ- نُزُولَ الْمَطَرِ وَأَثَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ آيَةً عَلَى الْمَمَاتِ وَالزَّوَالِ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [الزمر: 21].
وَاسْتَدَلَّ -سُبْحَانَهُ- عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ بَعْدَ جَفَافِهَا: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39].
وَمِنْ رَسَائِلِ الْغَيْثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْطَارَ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا النِّعَمَ، وَرُبَّمَا يَكُونُ مَعَهَا النِّقَمُ، قَدْ تَأْتِي بِالْمِنَحِ، وَرُبَّمَا تَحِلُّ فِي إِثْرِهَا الْمِحَنُ، فَوُجُودُ نِعْمَةِ الْمَطَرِ أَوْ حِرْمَانُهَا لَيْسَ عَلَامَةً عَلَى رِضًا أَوْ غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ.
لَقَدِ امْتُحِنَ خَيْرُ الْقُرُونِ بِالْجَفَافِ وَالْمَجَاعَاتِ، وَأَغْدَقَ -سُبْحَانَهُ- عَلَى أُمَمٍ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ أَزْمَانًا بِالنِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].
نَعَمْ، هَذِهِ الْأَمْطَارُ فِي أَصْلِهَا رَحْمَةٌ وَنِعْمَةٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَدْ يَجْعَلُهَا نِقْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، فَيَكُونُ هَلَاكُهُمْ وَخَرَابُهُمْ بِجُنْدِ الْمَطَرِ، وَفِي قَصَصِ الْقُرْآنِ دَعَا الْعَبْدُ الشَّكُورُ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر:10] فَكَانَ الْجَوَابُ: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر: 11 - 12].
وَهَا نَحْنُ نَرَى الْيَوْمَ فَيَضَانَاتٍ مُدَمِّرَةً، وَأَعَاصِيرَ مُرَوِّعَةً، تَقْتَلِعُ وَتَنْسِفُ، وَتَهْدِمُ وَتُتْلِفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ نِقَمٌ تُوجِبُ يَقَظَةَ الْقُلُوبِ، وَعَوْدَتَهَا إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ.
وَمِنْ رَسَائِلِ الْغَيْثِ: هَذَا الْمَخْلُوقُ بِرُعُودِهِ وَبُرُوقِهِ يُقَلِّبُ الْعِبَادَ مَا بَيْنَ طَمَعٍ وَخَوْفٍ، فَإِذَا رَأَوْا بَوَادِرَ الْغَيْثِ وَوَضَحَتْ، فَرِحُوا وَطَمِعُوا، وَإِذَا بَرَقَتِ الْمُزْنُ وَرَعَدَتْ، خَافُوا وَذُعِرُوا، وَهَذِهِ آيَةٌ وَعِبْرَةٌ، جَعَلَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) [الروم: 24].
إِنَّ هَذِهِ السُّحُبَ حِينَ تَرْعُدُ رَعْدَتَهَا كَأَنَّمَا هِيَ رِسَالَةٌ مِنَ السَّمَاءِ لِتَعْظِيمِ الْمَلِكِ، وَقَدْرِهِ حَقَّ قَدْرِهِ.
فَهَذَا الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ فَوْقِنَا مَا هُوَ إِلَّا صَوْتٌ مُؤْذِنٌ بِرَحْمَةٍ مِنَ الْخَالِقِ لِلْخَلْقِ.
فَكَيْفَ بِنَا -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- مِنْ يَوْمٍ يَغْضَبُ فِيهِ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ؟! كَيْفَ هِيَ قُلُوبُنَا يَوْمَئِذٍ مِنْ أَصْوَاتٍ مُؤْذِنَةٍ بِغَضَبِ اللَّهِ؟! كَيْفَ بِنَا مِنْ يَوْمٍ تَقُولُ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ: "إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ"؟!
إِنَّهُ لَيْسَ صَوْتَ سَحَابٍ، بَلْ صَوْتُ كُلِّ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) [الطور: 9].
يَوْمٌ تُكَوَّرُ فِيهِ الشَّمْسُ، وَيَذْهَبُ ضِيَاؤُهَا، وَتَتَنَاثَرُ فِيهِ الْكَوَاكِبُ وَيَنْفَرِطُ عِقْدُهَا، وَتُسَجَّرُ فِيهِ الْبِحَارُ وَيَتَعَالَى سَعِيرُهَا.
يَوْمَ يُنْقَرُ فِي النَّاقُورِ، يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ.
فَاسْتَشْعِرُوا أَهْوَالَ يَوْمِ الدِّينِ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُ حَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى آلَائِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَنَعْمَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، مَا صُلِّيَ عَلَيْهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ، ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ هَذِهِ الْأَمْطَارِ سُنَنٌ قَوْلِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ، إِحْيَاؤُهَا وَالتَّمَسُّكُ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ مَأْجُورٌ، وَمُؤَشِّرٌ عَلَى صِدْقِ الْمَحَبَّةِ وَالِاتِّبَاعِ.
فَقَدْ كَانَ حَبِيبُكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا رَأَى الْغَيْثَ دَعَا: "اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا".
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ: "مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ".
وَكَانَ إِذَا اشْتَدَّ الْمَطَرُ، وَخَشِيَ مِنْهُ الضَّرَرَ، دَعَا رَبَّهُ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ".
وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَكْشِفُ بَعْضَ بَدَنِهِ لِيُصِيبَهُ الْمَطَرُ، وَيَقُولُ: "إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ".
وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَحُثُّ عَلَى اسْتِغْلَالِ وَقْتِ نُزُولِ الْمَطَرِ بِالدُّعَاءِ، فَالْمَطَرُ رَحْمَةٌ، وَتَحَيُّنُ الدُّعَاءِ وَقْتَ الرَّحَمَاتِ أَرْجَى لِلْقَبُولِ، قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ" - أَوْ: قَلَّمَا تُرَدَّانِ-: "الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ؛ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا"، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: "وَوَقْتَ الْمَطَرِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَأَخِيرًا يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ ... اشْكُرُوا رَبَّكُمْ عَلَى هَذَا الْغَيْثِ الْمُبَارَكِ، وَسَلُوهُ أَنْ يَجْعَلَهُ رَحْمَةً لَكُمْ، وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ.
قَيِّدُوا هَذِهِ النِّعَمَ بِشُكْرِهَا بِأَعْمَالِكُمْ، وَأَقْوَالِكُمْ، وَقُلُوبِكُمْ.
حَافِظُوا عَلى صَلَوَاتِكُمْ، لَا تَفْتُرُوا، أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، لَا تَبْخَلُوا.
بَرُّوا آبَاءَكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ؛ فَعُقُوقُهُمْ إِحْدَى الْكُبَرِ، صِلُوا أَرْحَامَكُمْ؛ فَقَطِيعَتُهُمْ عُقُوبَةٌ مُعَجَّلَةٌ، وَالْقَاطِعُ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
تَعَفَّفُوا عَنِ الْمَآثِمِ، وَاحْذَرُوا التَّلَصُّصَ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْمَحَارِمِ.
أَدُّوا الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَأْتُوهُ، وَانْهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ وَاقْلُوهُ، وَارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء: 147].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي