الإتقان في نظر الإسلام هو: أن تبذل الجهد، وتتبع أحسن الطرق، وتأخذ بأفضل الوسائل لإنجاز الأعمال المكلف بها، ترجو بذلك ثواب ورضوانه ومغفرته؛ فما من عمل يقوم به المسلم إلا ويجب عليه أن يتقن ذلك العمل، سواء ..
الحمدُ لله خَلَق المخلوقاتِ فأحكمَها خَلقًا، وقسَم العبادَ إلى فريقين فأسعدَ برحمته السُّعداءَ وأشقى بعدلِه مَن أشقى، أستغفِره سبحانه وأستهديه فهو أهلُ المغفرةِ والتّقوى، وأشكره وأُثني عليه لم يزَل للشُّكر مستحِقًّا، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له حقًّا حقًّا، تعبُّدًا ورِقًّا، وأشهد أن سيّدَنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أكملُ الخَلق خُلقًا وأحسنُهم خَلقًا، صلّى الله وسلّم وبارك عليه هو الأخشى لربِّه والأتقَى، وعلى آله وأصحابه حازوا المكارمَ والفضائل تقدُّما وسَبْقًا، والتّابعين ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: كم هي الآيات في القرآن الكريم التي اقترن فيها الإيمان بالعمل، فما تكاد تجد آية فيها نداء للمؤمنين أو فيها توجيه العباد، ولفت أنظارهم إلى الإيمان وأهميته، إلا ويأتي بعد ذلك ذكر العمل الصالح وأهميته وثمرته، وهذه دلالة واضحة على أثر الإيمان في توجيه الأعمال نحو الصلاح والخيرية والنفع والإتقان، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:277].
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف:30].
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96].
ذلك أن الإيمان يربي الضمائر، ويهذب الأفعال، وينفث في روع المسلم وقلبه عقيدة الخوف من الله ومراقبته، فيعتقد أنه ما من عمل يقوم به إلا وهو محاسب عليه، أو مجزيٌّ به عند الله الذي لا يعزب عن علمه وقدرته وسلطانه ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل مهما قل أو كثر، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الانبياء:47].
لقد كانت شريعة الإسلام تهدف بهذه العقيدة، وهي تربي أبناءها؛ توجيههم إلى إتقان الأعمال، والبعد عن الغش والخداع، والخيانة والرياء، والتقصير والإهمال؛ فيكون التميز والنجاح صفة لهذه الأمة في جميع ميادين الحياة.
وإن من ينظر في هذا الكون الفسيح، والمترامي الأطراف يجد قدرة الله وإتقانه في الخلق والتدبير، قال -تعالى-: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88].
وأمر -سبحانه وتعالى- عباده بالإتقان في جميع الأعمال، قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة:105].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" (صححه الألباني).
أيها المؤمنون عباد الله: لقد تميز الإسلام -عقيدة وشريعة، وأخلاقاً وتصوراً للكون والإنسان- بالجودة والإتقان؛ فقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) [المائدة: 3].
والإتقان في نظر الإسلام هو أن تبذل الجهد، وتتبع أحسن الطرق، وتأخذ بأفضل الوسائل لإنجاز الأعمال المكلف بها، ترجو بذلك ثواب ورضوانه ومغفرته؛ فما من عمل يقوم به المسلم إلا ويجب عليه أن يتقن ذلك العمل، سواء كان ذلك في العبادات والطاعات؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وسائر العبادات؛ فالصلاة تحتاج إلى إتقان الوضوء، وحسن الخشوع، والقيام بالأركان والواجبات؛ كما أمر المسلم في كتاب ربه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(رواه البخاري).
ولقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا يصلي، فلا يحسن صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها، فقال له ثلاث مرات: "ارجع فصلِّ فأنك لم تصلِ" (رواه مسلم).
وهكذا في الصيام والزكاة والحج، قال -عليه الصلاة والسلام-: "والحج المبرور ليس له جزاءً إلاّ الجنة" (رواه البخاري).
فالنفقة الحلال، ورد المظالم، والتوبة من الذنوب والمعاصي، وأداء أركان الحج كما يجب، يعتبر ذلك كله حجاً مبرورا؛ لأن السمة البارزة فيه كانت الإتقان.
ومن ذلك إتقان القول؛ وهو ثمرة من ثمار الإيمان في كل حال، ومع كل إنسان؛ ففي مخاطبة الناس بعضهم مع بعض يجعل المسلم الكلمة الطيبة شعاره وسلوكه؛ وهو نوع من الإتقان، قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء:53].
وقال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83].
وحتى في التحية أُمر المسلم بالإتقان، قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) [النساء:86].
إن الإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى الرقي والتطور، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون، وتثرى الحياة.
فالموظف والتاجر والمعلم والطبيب والعامل والمدير والقاضي ورجل الأمن والمسؤول والسائق والنجار وعامل النظافة والمهندس؛ يجب أن يتقنوا أعمالهم؛ فلا غش ولا خداع، ولا إهمال ولا تقصير؛ لأن العمل في الإسلام عبادة، وهو إذاً أمانة، وقد حذر المولى -سبحانه وتعالى- من ذلك، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [لأنفال:27].
كتب وهب بن منبه -وكان على بيت مال المسلمين في اليمن- إلى عمر بن العزيز -رضي الله عنه-، يقول له: "إني فقدت من بيت مال المسلمين ديناراً" فكتب إليه عمر: "إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولِأدناهم عليك أن تحلف، والسلام".
لما كان الإتقان والحرص في الأعمال؛ حفظت الأموال، وتطورت البلاد، وازدهرت حضارة المسلمين، وانتشر العلم، وعم الرخاء.
هذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان الإتقان في عمله وإدارة شؤون الناس صفة ملازمة له طوال حياته.
تقول زوجته عاتكة بنت زيد: "قلت: يا أمير المؤمنين! لو نمت فإنك لا تنام في الليل ولا في النهار، قال: لو نمت في الليل ضاعت نفسي، ولو نمت في النهار ضاعت رعيتي" فمرّ هو وأسلم مولى له إلى خيمة، فوجد امرأة تسهر صبيانها من الجوع -الشعب جائع، والأمة في برد ومرض، ولكن الخليفة يقف على الأبواب- وإذا بقدرٍ فيه حصى، وتلهيهم به حتى ينامون، ثم قالت: "أواه يا عمر كم قتلت من أطفال المسلمين".
وهذا في عام الرمادة، ومن أين ينفق عمر؟ وقد انتهت الميزانية ولم يبق في بيت مال المسلمين درهم واحد، فماذا يفعل؟
أنفق دموعه ووقته، وراسل الولاة، وحث التجار والأغنياء، وأنفق كل ما يملك، حتى أصبح بطنه على المنبر يقرقر جوعاً، فيقول لبطنه: "قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين".
إن الإتقان في العمل ينبغي أن يكون مبدأ شاملاً لجميع نواحي الحياة، ومطلوبا من جميع أفراد المجتمع، إلا أن التركيز على أصحاب الولايات والمسئولين والحكام يأتي من باب المسؤولية الشاملة التي تقع على كواهلهم؛ فالحاكم والمسئول حين يخطئ أو يقصر لا يضر نفسه، ومن كان قريباً منه فحسب إنما يقع العبء الأكبر على غالبية الناس في المجتمع.
ومن صور الإتقان: وضع الموظف والعامل المناسب في المكان المناسب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: "إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" (رواه البخاري).
عباد الله: إنه ينبغي أن يظهر الإتقان في جميع أعمالنا، وأن يصبح سلوكاً من سلوكياتنا؛ فيظهر إتقان الطبيب في تشخيص الأمراض، ووصف العلاج؛ فكم نسمع ونرى ونقرأ عن أخطاء وإهمال وتقصير أودى بحياة العشرات من الأنفس البريئة؟
ونريد إتقان المهندس والمقاول في بناء العمارات وتعبيد الطرقات. ونريد أن تظهر جودة الصناعات والمنتجات في أسواقنا، لا أن يضرب بها المثل لرداءتها.
إن المجتمع يتطلع -أيضاً- إلى إتقان أبنائه في جميع مجالات الحياة؛ حكاماً ومحكومين، عمالاً وموظفين، أفراداً وجماعات؛ وذلك طريق النجاح، وسبب التطور والتقدم.
اللهم إنا نسألك من العمل أخلصه وأصوبه ،ومن الأجر أتمه وأكمله.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.
عباد الله: يروى أن مقاولا معماريا يعمل في مؤسسة عقارية كبيرة، كان متميزا بجودة بنائه وإتقانه في عمله، فلما كبرت به السن رغب في التقاعد، والعيش بقية حياته بالقرب من عائلته، فتقدم بطلب التقاعد من العمل، وحاول رئيسه أن يثنيه عن هذا القرار، فقدم له زيادة في الراتب، وكثيرا من المغريات، إلا أن المقاول كان قد قرر قراره بالتقاعد دون تراجع، فوافق رئيسه على طلبه شرط أن يقوم هذا المقاول ببناء منزل أخير، فيختم به سجل عمله الحافل، فوافق المقاول على هذا الشرط ولكن على مضض.
ولأن المقاول كان يعلم بأن هذا البيت هو آخر بيت يبنيه؛ ولأنه لا يعتبر هذا البيت إلا رقما صغيرا في عدد البيوت التي بناها، فقد تساهل في العمل ولم يخلص فيه، بل إنه لم يحرص على إتقان صنعته، فجلب له المواد الرديئة، والمعدات الرخيصة، ولم يحرص على إجادة العمل، وأسرع في إنجاز مهمته على حساب الجودة، وكأنه نسي أنه بهذا العمل قد أفسد ما بناه طوال عمره؛ من تميز وإتقان عرف به.
وعندما انتهى المقاول من البناء أسرع إلى رئيسه بمفتاح البيت الجديد ليخبره بأنه أنجز ما عليه من مهمة، ولكن رئيسه فاجأه بابتسامة، وقال له: اسمح لي أن أقدم لك هذا البيت هدية مني مقابل إخلاصك وتفانيك في السنوات الماضية.
لقد ندم المقاول كثيرا على تفريطه؛ لأنه لو علم أنه يبني منزلا لنفسه لما تردد أن يضع فيه كامل عصارة خبرته، وأفضل الأدوات والمعدات، ولأعطاه ما يستحقه من وقت.
عباد الله: إن هذا مثال لمن فرط وقصر، وأهمل في عمله، ثم باغته الموت، ونزلت به سكراته؛ فكيف سيكون موقفه بين يدي الله وهو على هذه الحال؟ وما هي ثمرة عمله؟ وكيف سيكون جزاءه عند ربه؟
فلنتقن الأعمال ولنقم بالواجبات، ولنحذر من التفريط والتقصير في الأعمال، فالمطلع علينا هو رب الأرض والسموات.
هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي