إن للفرد منا مسئولية أمام الله - سبحانه وتعالى - وتجاه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه وأمته، ومجتمعه ووطنه، يجب أن يؤديها، وعليه مسئولية تجاه بيته وأسرته وأولاده، وعليه مسئولية سيسأل عنها يوم القيامة تجاه أخلاقه وسلوكه، وعليه مسئولية تجاه عمله ودراسته، ووظيفته و....
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، وسببا للمزيد من فضله، جعل لكل شيء قدرا، ولكل قدر أجلا، ولكل أجل كتابا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تزيد في اليقين، وتثقل الموازين، وتفتح لها أبواب جنةُ رب العالمين.
يا من تُحل بذكره *** عُقد النوائب والشدائد
يا من إليه المشتكي ** وإليه أمر الخلق عائد
أنت العليم لما بليت *** به وأنت عليه شاهد.
أنت المعز لمن أطاعك *** والمذلُ لكل جاحد
أنت المنزّه يا بديع *** الخلق عن ولد ووالد
يسّر لنا فرجاً قريباً *** يا إلهي لا تباعد
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أمين وحيه، وخاتم رسله، وبشير رحمته صلى الله عليه، وعلى آله مصابيح الدجى، وأصحابه ينابيع الهدى، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: إن من القيم العظيمة التي أرساها الإسلام، ودعا إليها، وربى عليها أتباعه: تحمل المسئولية.
خاطب بذلك الأفراد والمجتمع والأمة، وجعل القيام بهذه المسئولية سبب للحياة السعيدة الطيبة، والنجاة في الآخرة.
فتزكية النفس والمحافظة عليها مسئولية، والقيام بالحقوق الأسرية مسئولية، وإتقان الأعمال والقيام بالواجبات الوظيفية مسئولية، وتقلد المناصب والمراكز الهامة مسئولية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمساهمة الجادة في تقوية روابط المجتمع ونشر الخير، والتعاون على البر مسئولية.
وهكذا المسئولية في حياتنا تظهر في جميع سلوكياتنا وتصرفاتنا، رجالاً ونساءاً، شباباً وشيوخاً، حكاماً ومحكومين.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته"[البخاري (8/104)].
وقال -تعالى-: (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون) [الحجر: 92 -93].
وقال - تعالى -: (وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [الصافات 24)].
فكل عمل مكلفٌ به شرعاً، أو التزمت بالقيام به، وكان فيه مصلحة لك أو لغيرك؛ فهو مسئولية ينبغي عليك القيام بها على أحسن حال، فالمسؤولية فردية؛ لأن التكليف فردي والحساب كذلك يوم القيامة، قال - تعالى -: (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) [مريم: 93-95].
إن للفرد منا مسئولية أمام الله - سبحانه وتعالى - وتجاه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودينه وأمته، ومجتمعه ووطنه، يجب أن يؤديها، وعليه مسئولية تجاه بيته وأسرته وأولاده، وعليه مسئولية سيسأل عنها يوم القيامة تجاه أخلاقه وسلوكه، وعليه مسئولية تجاه عمله ودراسته، ووظيفته ومنصبه، يجب أن يقوم بها.
عباد الله: لقد ضرب الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم الكثير من المواقف والأحداث على تحمل المسئولية، قال - تعالى -: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [يس: 20-21].
إنه رجل من أقصى المدينة يسعى لماذا يأتي؟
لإنقاذ الموقف، لإعلان كلمة الحق: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينََ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[يس: 20-21].
ليس له غرض، ولم يكن سعيه خوفاً من فوات صفقة تجارية -مثلاً- ولا خوفاً على نفسه أو روحه، بل بالعكس كان يسعى إلى حتفه وهو يعلم ذلك؛ لأنه قتل بسبب جهره بكلمة الحق، وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين، فقتل فقيل له: ادخل الجنة، فدخل الجنة: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)[يس: 26-27].
إذاً: هذا رجل واحد، جاء يسعى بكل قوته؛ لأنه يشعر أنه مسئول، وكأنه يرى أن هذا الأمر لابد أن يبلِّغه قبل أن يموت، أو يهلك دونه.
وفي معركة أحد وهزيمة المسلمين لم يكن التبرير وإلقاء المسئولية على قوة العدو، وكثرة عدده، ودقة خططه، بل جاء القرآن ليصدع بالحق، ويبين أن المسلمين الذين خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم من تقع عليهم مسئولية الهزيمة، فقال - تعالى -: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
هكذا يجب أن يتربى العظماء، وهكذا يجب أن تكون أخلاقهم، وهكذا يجب يتحملوا مسئولياتهم؛ فهم لا يعرفون ثقافة التبرير، واختلاق الأعذار، والتنصل عن المسئوليات، مهما كان حجمها.
قدم الأحنف بن قيس على عمر - رضي الله عنه - في وفد من العراق في يومٍ صائفٍ، شديد الحر، وهو محتجز بعباءة، يحاول إدراك بعيرًا من إبل الصدقة، شرد، فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة يكفيك هذا، قال عمر: ثكلتك أمك، وأُيُ عبدٍ هو أعبد مني ومن الأحنف.
إن أمة الإسلام بهذه القيم سادت الأمم، وحكمت العالم، وأسست حضارة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، فكل فرد عرف دوره ومسئوليته، فقام بواجبه، لم ينتظر أن يكون على هامش الحياة ليس له دور، أو واجب يجب أن يؤديه، أو أن يلقي بمسئولياته على الآخرين مهما كانت ظروفه.
وانظروا إلى ذلك الصحابي عبد الله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - وقد عذره الله، فهو رجل كبير السن، وهو أعمى، ومع ذلك لم يعذر نفسه، ولم يخلد إلى الراحة والدعة، ولم يتنصل عن مسئوليته تجاه قضايا الأمة، فلم يرَ أنه يسعه أن يدع فرصة يخدم فيها الدين تفلت منه، حتى ولو كانت هناك في مواقع القتال، وقعقعة السيوف، وطعن الرماح، وإراقة الدماء، ليكن له موقع، فقرر أن يخرج مع كتائب المسلمين لملاقاة الفرس، قالوا: قد عذرك الله، قال: أكثرُ سوادكم، وعندما خرج طلب أن توكل إليه المهمة التي تناسبه وتليق به، فقال: "إني رجل أعمى لا أفر، فادفعوا إلى الراية أمسك بها".
يأبى إلا أن يشارك بنفسه على أي صورة كانت، هذه المشاركة ممكنة حتى إذا كان يوم القادسية، كان هو حامل الراية للمسلمين، الممسك بها أعمى ضرير، يرى أن في عماه مؤهل لحمل الراية: "إني رجل أعمى لا أفر".
تحمل كتب التاريخ أنباء عبد الله أبن أم مكتوم، وأنه كان أحد شهداء القاسية، فلم تصادف رجلاً فرارا ولا موليا، بل ظل ممسكاً براية المسلمين في أرض المعركة غشيته الرماح، ومات تحت قدمه - رضي الله عنه وأرضاه-.
وفي عصرنا الحاضر كان الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله - مثالاً للقيام بالمسئولية، رغم ما به أمراض، فهو رجل مقعد مشلول، لم يكن يتحرك من جسده إلا رأسه، ومع ذلك هل عذر نفسه؟ هل أخلد إلى الراحة والدعة؟
كلا، فقد عاش حياته مجاهداً في سبيل الله، متنقلاً من سجن إلى سجن، ومن معتقل إلى معتقل، حتى مات شهيداً بصواريخ الغدر الصهيونية، بعد أن أدى صلاة الفجر جماعة مع المسلمين.
ولما وقف نور الدين زنكي يدعو المسلمين للاستعداد لتطهير بيت المقدس من دنس الصليبيين، ذهب كل فرد من أفراد المسلمين يبحث عما يستطيع أن يشارك به في سبيل الله، وكان بين الحاضرين امرأة دخلت بيتها وهي تبكي، فهي تريد المشاركة، لكنها لا تملك من متاع الدنيا شيئا، فماذا فعلت حتى تشعر أنها ساهمت وقدمت ما تستطيع؟
لقد قطعت ظفيرتها –شعرها- وهو أحب ما تملكه المرأة، وقالت لنور الدين زنكي: والله لا أملك غير هذا، اجعله لجاماً لفرسك في سبيل الله.
إنه شعور كل فرد من أفراد المجتمع بأن عليه مسئولية يجب أن يقوم بها.
عباد الله: إن ثقافة التبرير، واختلاق الأعذار، وإلقاء المسئولية على الآخرين دمر حياتنا ومجتمعاتنا.
فالأب المقصر في تربية أولاده يرجع الأسباب إلى تقصير الأم، وانشغاله بأعماله، ودور الإعلام والقنوات الفضائية، وغير ذلك.
والموظف المهمل لعمله يرجع الأسباب إلى زملائه، والمدراء ورؤساء الأقسام، أو يرجع السبب إلى ضعف الراتب، ومشاكله العائلية.
والمعلم الذي لم يدرك مسئوليته تجاه أبناء المسلمين، فلا هو رباهم ولا علمهم ولا بذل من أجلهم أقل الجهد لرعايتهم والارتقاء بهم، ويرجع سبب تقصره إلى وضع المجتمع، وتقصير الآباء في المتابعة لأبنائهم.
وهناك مسئولية الالتزام باللوائح والقوانين المنظمة للحياة، فإشارات المرور مثلاً، وتعمد مخالفة قوانين السير، قد يترتب عليه مسئولية جزائية، وربما جنائية، فتسيل دماء، وتزهق أرواح، وتهدر ممتلكات، بسبب عدم تحمل المسئولية.
وهكذا يظهر الضعف في تحمل المسئولية في أغلب شرائح المجتمع وفئاته.
فمدير المؤسسة يبرر الفشل الذي أصاب مؤسسته، ويلقي بالمسئولية على غيره.
وشيخ القبيلة يختلق الأعذار للتهرب من مسئولياته، والعالم إن لم يصدع بالحق وبما يحمل من أمانة تراه يستخدم الكثير من المعاريض والحجج للتنصل من واجباته، فأين نحن من لقاء الله، والوقوف بين يديه، القائل: (واخشوا يوما لا يجزى والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جاز عن والده شيئا) [لقمان: 33].
وهو القائل - سبحانه وتعالى -: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)[الإسراء: 13-14].
إن الشعور بالمسئولية، والقيام بها وأدائها على أكمل وجه، يجب أن يصبح في حياتنا خلقاً وسلوكاً، وضرورةً تمارس في واقع الحياة، حتى لا يحدث التساهل في الواجبات، وحتى لا تضيع الحقوق، وحتى تنجز الأعمال، وتنجح المشروعات، وتسود الأخلاق، وقيم الخير في المجتمعات.
وإن الأمم والدول والمجتمعات لا تتطور، ولا يحدث في حياتها تغيير، إلا عندما تحمل مثل هذه القيم.
اللهم وفقنا لعبادتك، واستعملنا في طاعتك، وأهدنا سبل السلام.
قلت ما سمعتم، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
عباد الله: إلا وان إن أوسع دوائر المسئولية، هي الدائرة التي يحتلها الحاكم، ومن يلي شيئاً من أمور المسلمين؛ لأن مسئوليته تمتد إلى كل ما فيه صلاح الأمة، فعليه حفظ الشريعة، بإقامة الحدود، والعدل في الحكم، ورسم السياسات العامة، ومتابعة تنفيذها، وبالجملة هو ربان السفينة، والمسئول الأول عن قيادتها وتوجيهها إلى الطريق الآمنة، التي تحفظ سلامتها وأمنها.
عن ابن عمر قال: "قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ فبات يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبي، فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاء، فعاد إلى أمه، فقال لها ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان عن آخر الليل سمع بكاء، فقال: ويحك؟!! إني أراك أم سوء! مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة! قالت: يا عبد الله؛ أني أربعته عن الفطام فيأبى علي، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهراً، قال لها: ويحك لا تعجليه، فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم، قال: يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر منادياً فنادى: أن لا تعجلوا وليداً لكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام".
ثم اعلموا: أن من أعظم مسئولياتنا الجماعية التي أمرنا بها الإسلام، هي: الحفاظ روابط الأخوة والألفة والتراحم، والأمن والسكينة في المجتمع الذي يعتبر سفينة يعيش عليها الجميع، وهذا الأمر يتحقق بأداء الحقوق والواجبات، وبمعرفة المصالح والمفاسد، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران:110].
اللهم ألف على الحق قلوبنا، وأصلح فساد أحوالنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي