التعاون أصل في ديننا

محمد راتب النابلسي
عناصر الخطبة
  1. التعاون أمر إلهي .
  2. الأعمال الكبرى لا تتحقق إلا عن طريق العمل الجماعي .
  3. العمل الفردي لا يثمر إلا أعمالاً محدودة .
  4. عدم التعاون أحد أكبر أسباب ضعف المسلمين .
  5. البِّر صلاح الدنيا والتقوى صلاح الآخرة .
  6. أكبر مصيبة تصيب الأمة أن يكون بأسها بينها .
  7. المؤمنون حقّ الإيمان يتعاونون لا يتنافسون .
  8. المؤمنون كالجسد الواحد .
  9. تعاون الكفار على الباطل واحتلال الثروات واستغلال الشعوب .
  10. التعاون فرض إسلامي وجماعي .
  11. المعاصي والآثام والشيطان يوقع بيننا العداوة و البغضاء .
  12. الغنى غنى العمل الصالح والفقر فقر العمل الصالح .

اقتباس

أيها الأخوة الكرام: هذا الغرب القوي الذي سيطر على معظم بلاد العالم، لو سأل سائل ما أسباب قوته؟ أحد أسباب قوته التعاون، أحد أسباب قوته نظام فريق العمل، أحد أسباب قوته العمل المؤسساتي، أحد أسباب قوته ترشيد الاستهلاك، أحد أسباب قوته إدارة الوقت، أحد أسباب قوته إدارة الذات، ولا أبالغ أن كل هذه القيم الحضارية أصل في ديننا، هم أخذوها من أجل دنياهم، لكننا...

الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حقّ الجهاد، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، أخرجنا من وحول الشهوات إلى جنات القربات.

أيها الأخوة الكرام: هذا الغرب القوي الذي سيطر على معظم بلاد العالم، لو سأل سائل ما أسباب قوته؟ أحد أسباب قوته التعاون، أحد أسباب قوته نظام فريق العمل، أحد أسباب قوته العمل المؤسساتي، أحد أسباب قوته ترشيد الاستهلاك، أحد أسباب قوته إدارة الوقت، أحد أسباب قوته إدارة الذات، ولا أبالغ أن كل هذه القيم الحضارية أصل في ديننا، هم أخذوها من أجل دنياهم، لكننا ينبغي أن نأخذها من أجل دنيانا وآخرتنا، أكتفي في هذا اللقاء وفي هذه الخطبة بقيمة واحدة تراها عندهم صارخة، ألا وهي التعاون، وتراها عندنا مفقودة ويحل محلها التنافس، فالتعاون أمر إلهي في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة، وكل أمر في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة يقتضيان الوجوب، بل إن الدين هو الحياة، حياتنا، مجتمعاتنا، أسرنا، أعمالنا، اقتصادنا، علاقاتنا، شبابنا، شاباتنا، زواجنا، فرص العمل لشبابنا، الدين هو الحياة، لذلك لا بدّ من صلاح ديننا، وصلاح دنيانا، وصلاح آخرتنا، وفي الدعاء النبوي الشريف: " اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ".

أيها الأخوة: أبدأ هذا الموضوع بموضوع نفسي، في الإنسان نزعة فردية تنطلق من حبّه لوجوده، ومن حبّه لسلامة وجوده، ومن حبّه لكمال وجوده، ومن حبّه لاستمرار وجوده، وفيه أيضاً نزعة اجتماعية تنطلق من نزعته الفردية، لأن كثيراً من مطالب حياة الإنسان، وحاجاته الجسدية، والنفسية، والفكرية، لا تتم إلى عن طريق الجماعة، فعنده نزعة فردية في أصل بنيته التحتية، وعنده نزعة جماعية، هذه النزعة الجماعية تتبدى بالأنس بالجماعة، والشعور بالأمن والطمأنينة معها، والتماس نصرة الجماعة له، والتقوي بها، وتحقيق حاجاته ومصالحه من خلالها.

لكن النزعة الاجتماعية التي تنطلق من طاعة الإنسان لله عز وجل هذا نوع آخر، أي في المؤمن نزعة اجتماعية تنطلق من طاعته لله، وغير المؤمن عنده نزعة اجتماعية تنطلق من نزعته الفردية، يتقوى بالجماعة، يأنس بالجماعة، يستعين بالجماعة على تحقيق حاجاته الفردية، لذلك النوع الآخر الذي يعنينا أن تكون الروح الجماعية تقرباً إلى الله، وعملاً للآخرة، بل إن هذه النزعة الجماعية الدينية التي تهدف إلى التقرب إلى الله والفوز بالجنة وراؤها كل فضائل الإنسان، ما من فضيلة يصل نفعها وخيرها إلى الآخرين إلا وفيها عنصر التخلي عن الذات، التخلي عن الأنا، وهذا نوع من التضحية في سبيل المجموع كوسيلة لنيل رضوان الله تعالى.

والرذائل الخلقية تنبع من فردية الإنسان، وتفلته من منهج الواحد الديان، والفضائل الخلقية تنبع من انصياعه لمنهج ربه، والتقرب إليه بخدمة عباده.

والأنبياء جميعاً صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين أعطوا كل شيء، ولم يأخذوا من الجماعة شيئاً، والذين على نقيضهم الأقوياء، أخذوا كل شيء، ولم يعطوا الجماعة شيئاً، والذين هم بينَ بين، أخذوا وأعطوا، الأنبياء ملكوا القلوب بكمالاتهم، والأقوياء ملكوا الرقاب بقوتهم.

أيها الأخوة الكرام: إن جلائل الأعمال الكبرى لا تتحقق إلا عن طريق العمل الجماعي المتعاون، التعاون دين، التعاون حضارة، التعاون قوة، والتنافس معصية، والتنافس تخلف، والتنافس ضعف.

أيها الأخوة، العمل الفردي لا يثمر إلا أعمالاً محدودة، لكن النتائج العملاقة تحتاج إلى عمل جماعي، أرأيت إلى صدر الإسلام كيف انتشرت رايات هذا الدين إلى مشارق الأرض ومغاربها بفضل العمل الجماعي، بفضل الصحابة الكرام الذين رباهم سيد الأنام، أما التفرق، والتنافس، والتناحر، وتراشق التهم، هذا وراء ضعف المجتمع الإسلامي، قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].

عدد من الدول كبير قوميات مختلفة، لغات مختلفة، آمال مختلفة، آلام مختلفة، حروب قديمة، نزاعات مديدة، ومع ذلك حكّموا عقولهم فجعلوا أنفسهم دولة واحدة، أي دولة بأوربا تنتقل إلى دولة أخرى من دون حدود إطلاقاً، ولا لافتة، قد تتمنى أن تجد لافتة أن هنا ألمانيا، وهنا فرنسا، أبداً، أوربا كلها دولة واحدة، عملة واحدة، مجتمع واحد، وبينهم حروب، ونزاعات، ولغات، وتاريخ مختلف، والأمة الإسلامية إلهنا واحد، ونبينا واحد، وكتابنا واحد، وآلامنا وآمالنا واحدة، ونحن نعد ثلاثاً وسبعين دولة، والانتقال من دولة إلى دولة يحتاج ثلاث ساعات أو أربع ساعات مع الوثائق، مع التأشيرات، مع التحقيقات، الغرب أرادنا أن نكون متفرقين، بل إن الطغاة في الأرض تعد ورقة التفرقة هي الورقة الوحيدة الرابحة الأولى التي بأيديهم، والدليل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِف طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 4].

أيها الأخوة: إن القوة الانفرادية مع القوة الانفرادية مجتمعتان تساويان أكثر منهما متفرقتين، لأن عوامل الوهم والخوف والتخاذل تتسرب إلى الأفراد، وتمتنع منها الجماعة.

"الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ"[أحمد والطبراني عن النعمان بن بشير].

وكل الإنجازات الإسلامية الرائعة إنجازات فردية، وليست جماعية، تذهب إلى أعلى بناء في شيكاغو من تصميم مسلم، رئيس الطاقة الذرية مسلم، أكبر عالم فضاء مسلم، شيء عجيب، المسلمون كأفراد متفوقون جداً، اطلعت على إحصائية الألف أمريكي فيهم ثمانية أشخاص يحملون دكتوراه، والألف يهودي ثمانية عشر إنساناً منهم يحمل دكتوراه، والألف مسلم ثلاثة وثلاثون إنساناً يحمل دكتوراه، هناك تفوق فردي كبير لكن لا يوجد تفوق جماعي، لأنه لا يوجد تعاون، هذه مشكلة أنا أضع يدي الآن على أحد أكبر أسباب ضعف المسلمين عدم التعاون: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].

أيها الأخوة: الأصل في هذا الموضوع قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة: 2].

قال علماء التفسير: "البر صلاح الدنيا والتقوى صلاح الآخرة"، وينبغي أن نصلح دنيانا وديننا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).

لكن أهل الفسوق والعصيان يتعاونون على الإثم والعدوان.

أيها الأخوة، آية ثانية، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً)[آل عمران:103].

لا بدّ من شيء نعتصم به إن لم يكن هناك حبل لله ليس هناك جماعة، نجتمع على ماذا؟ الدنيا تفرق والمصالح تفرق، والمكاسب المادية محدودة والنزاع عليها قائم، وهذه حقيقة مطبقة في كل بلاد الأرض، المكاسب المادية محدودة فإذا جعلنا الدنيا هدفنا نتنازع، ونتخاصم، ونتلاسن، ونتماسك، ونتقاتل، أما إذا جعلنا الآخرة همنا نتعاون، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ أخوانا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران:103].

ما الذي يضعفنا؟ تفرقنا، ما الذي يضعف الأسرة؟ تفرقها، ما الذي يضعف المدرسة؟ اختلاف المدرسين، ما الذي يضعف المؤسسة؟ الجامعة؟ التفرق مخرب، والتفرق مضعف، والتفرق مبدد للطاقات، لذلك أكبر مصيبة تصيب الأمة أن يكون بأسها بينها.

أيها الأخوة الكرام: هناك آية ثالثة يقول الله عز وجل: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 63].

تأليف القلوب من شأن الله وحده، فإذا اجتمعنا عليه ألّف بين قلوبنا، وإذا تفرقنا عنه باعد ما بين قلوبنا، لذلك إذا التف الأولاد حول أبيهم تحاببوا، وتعاونوا، وتناصروا، فإذا انفضوا من حول أبيهم، تخاصموا، وتلاسنوا، وتماسكوا، وتقاتلوا، هذه حقيقة، احرص أيها الأخ الكريم أن يكون التعاون في بيتك، وفي عملك، ومع جيرانك، ومع أقربائك، ومع أصدقائك، التعاون دين، والتعاون أمر إلهي، والتعاون يقتضي الوجوب، والتعاون قوة، والتعاون رفعة، والتعاون راحة، والأصل في هذا الموضوع آية قطعية الدلالة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة: 2].

دقق مرة ثانية: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 63].

أيها الأخوة: المؤمنون الصادقون، المؤمنون الحقيقيون، المؤمنون الذين آمنوا بالله حق الإيمان يتعاونون والدليل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 71 ].

لا تقف مع أخيك على خصومة، لا تتنافس معه، تعاون معه، إذا عزّ أخوك فهن أنت، تطاوعا أيها الصديقان، أيها الأخوان، تطاوعا ولا تنافسا، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ"[أخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد عن عمرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ].

متعاونون، رأيتم ماذا حدث بين دولتين إسلاميتين، جاء الغرب فأخذ كل المكاسب، استعانت دولة بالغرب فجاءت ونهبت كل شيء، وأخذت كل شيء، واستولت على كل شيء، وقعدت إلى أبد الآبدين، الآية الكريمة: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة: 2].

"الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ" [أخرجه أبو داود وابن ماجة وأحمد عن عمرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ].

لذلك وصف الله المؤمنين فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير)[الأنفال: 72].

آمن لكن لم يتعاون: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال: 74].

لن تكون مؤمناً حقاً إلا إذا تعاونت، وتناصرت، وبذلت الغالي والرخيص والنفس والنفيس، لذلك المؤمنون كالجسد الواحد: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"[متفق عليه عن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ].

وقال أيضاً: "المُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِهِمْ نَصَحَةٌ مُتَوَادُّونَ، وَإِنِ افْتَرَقَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ، وَالْفَجَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاذِلُونَ، وَإِنِ اجْتَمَعَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ"[الترغيب والترهيب للمنذري عن أنس].

أيها الأخوة: آية في الأنفال خطيرة جداً، هي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)[الأنفال: 72-73].

الذين كفروا يتعاونون، يتناصرون، أي هدف ثلاثون دولة تنساق مع الدولة الكبرى، هذا التعاون على باطل، على احتلال، على نهب ثروات، على إذلال شعوب، ثلاثون دولة مع الدولة العظمى في أي مكان، في أفغانستان، في العراق، في لبنان، في الصومال، يتعاونون:

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).

دقق الآن:

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ).

بضمير المفرد، على من يعود هذا الضمير؟

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ).

كحالنا اليوم فتنة، فرضوا علينا ثقافتهم، هذه الصحون ماذا تستقبل؟ ثقافتهم، إباحيتهم، انحرافهم، انحلالهم، فرض الغرب على المسلمين ثقافتهم، احتلال الغرب لبلاد المسلمين يقاومون يجاهدون وفي النهاية يتحررون، لذلك قال بعضهم: كانوا يجبروننا بالقوة المسلحة على أن نفعل ما يريدون، لكنهم الآن يجبروننا بهذه الصحون، بالقوة الناعمة المرأة على أن نريد ما يريدون.

تعاون الطرف الآخر على إذلال و إبادة المسلمين:

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ)

قال علما ء التفسير هذه الهاء تعود على الآية السابقة بأكملها:

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).

أي إن لم تؤمنوا، وإن لم تهاجروا، وإن لم تجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، وإن لم تؤووا، وإن لم تنصروا، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، وهذا الواقع، مثلاً بلد كنت فيه منذ أسبوعين، الأرض الصالحة للزراعة اثنان ونصف مليون كيلو متر، والماء متوافر بأعلى درجة، وهذا البلد قادر أن يمد العالم الإسلامي بالغذاء الكامل، لكنه يحتاج إلى بنية تحتية تكلف ثمانية مليارات، وثلاثة آلاف مليار للمسلمين في مصارف الغرب، أين التعاون؟

نحن في سوريا ـ والفضل لله ـ عندنا مئة وخمسة وثمانون ألف كيلو متر مربع، ربع هذه المساحة صالحة للزراعة، المزروع منها ربع الربع، واحد على ستة عشر، من فضل الله عندنا ستة ملايين طن من القمح لكل سنة، استهلاكنا مليونا طن، في الحمضيات سبعمئة ألف طن، في الزيتون ثاني دولة في العالم، في القطن اثنان ونصف مليون كيلو متر، والماء متوافر، وتحتاج إلى بنية تحتية، وثلاثة آلاف مليار للمسلمين في العالم الغربي ولا يتعاونون.

لذلك أيها الأخوة: التعاون فرض إسلامي، فرض جماعي: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).

فعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ"[أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ].

قال تعالى: (آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)[الحديد: 7].

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ"[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ].

أي إذا أزحت حجراً كبيراً عن الطريق لعل هذا الحجر يودي بأسرة، قائد المركبة مسرع لم ينتبه إليه، فقلب السيارة، حينما نتعاون يحبنا الله جميعاً، ومن هذا التعاون وصف الله الأنصار: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].

أيها الأخوة: بالمقابل الكفار قد تحسبهم جميعاً لكن قلوبهم شتى، قال تعالى: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ)[الحشر: 14].

ماذا يقابل التعاون؟ التباغض والعداوة والخصومات، ما قانونها؟ قال تعالى: (فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)[المائدة: 14].

سبب آخر، المعصية سبب العداوة، سبب آخر الشيطان: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)[المائدة: 91].

ما الذي يوقع بيننا العداوة والبغضاء؟ المعاصي والآثام والشيطان.

وأخيراً: أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

أيها الأخوة: قدم رجل من الأعراب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعه صبية له، وأهله ـ أي زوجته ـ فقال يخاطبه:

يا عمر الخير جزيت الجنة اكسُ بنياتي وأمـــهنه

أقسم بالله لتفعلنه

فقال عمر: "فإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لأذهبن، فقال عمر: فإذا ذهبت يكون ماذا ؟ قال: يكون عن حالي لتُسألنّ، قال عمر: متى؟ قال: يوم تكون الأعطيات جُنة، والواقف المسؤول بينهن إما إلى نار، وإما إلى جنة، فقال: يا غلام، أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره".

أيها الأخوة: العمل الصالح يرفع الإنسان، العمل الصالح علة وجودنا في الدنيا، بدليل أن الله عز وجل يقول حينما يشارف الإنسان على الموت: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا)[المؤمنون: 100 ].

العمل الصالح هو الغنى الحقيقي، واستدل المفسرون من قوله تعالى حينما سقى سيدنا موسى للفتاتين ابنتي سيدنا شعيب، قال تعالى: (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص: 24 ].

استنبط أن الغنى غنى العمل الصالح، وأن الفقر الحقيقي فقر العمل الصالح، فالعمل الصالح يرفع الإنسان، الاستقامة تسلمه من العطب، من إتلاف المال، من الشقاء الزوجي، من عقوق الوالدين، لكن العمل الصالح يسعده: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110].

دعاء الختام:

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.

اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.

اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين.

اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.

والحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي