إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري... كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون، وأن يفلت زمام الأعصاب والإرادة، فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي...
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70 و71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن من كريم صفات المؤمنين المخبتين لرب العالمين العفة عن محارم الله: "وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه"، وإن الله ليغار أن يقع العبد في محارمه.
قال ابن منظور: العفة الكف عمّا لا يحل ويجمل، وهي النزاهة، وقال الكَفَويُّ: "العفة هي الكفُّ عما لا يحل"، وقال بعضهم: "العفة ضبط النفس عن الشهوات"، وتحدث الشيخ الماوردي عن العفة، ومما قاله: "فأما العفة عن المحارم فنوعان: أحدهما ضبط الفرج عن الحرام، والثاني كف اللسان عن الأعراض، فأما ضبط الفرج عن الحرام فلأن عدمه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معَرّةٌ فاضحة وهتكة واضحة"، وقد أثنى الله تعالى على من حفظ فرجه فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ) [المؤمنون:1-7].
وبعد هذه التقدمة في فضل العفة أقول -يا عباد الله-: إن الإسلام نظام متكامل، فهو لا يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء. فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدًا غير مضطر.
فقد أمر الله سبحانه بأوامر وسن سننًا وشرائع؛ من تمسك بها عفّ ونجا، ومن أعرض عنها فهو الذي ساق نفسه إلى سبيل الغواية والفاحشة.
ومن ذلك أنه تعالى أمر بغض البصر فقال: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) [النور:29، 30]، فغض البصر عن النظر في الحرام هو أول طريق للعفة، ومن أطلق عينه في النظر إلى ما حرم الله سواء مباشرة أو من خلال التلفاز أو أية وسيلة أخرى فقد خدش عفته، وبعضهم يستطيل في النظر فيما حرم الله عليه حتى ينحر عفته، ويبتغي غير سبيل المؤمنين.
والإسلام يعتمد قبل كل شيء على الوقاية، وهو لا يحارب الدوافع الفطرية، ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة.
وطلب العفاف أمر مشروع طلبه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى". رواه مسلم.
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، والجسم العاري... كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون، وأن يفلت زمام الأعصاب والإرادة، فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب.
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين سليمًا، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
عباد الله: إن إطلاق البصر في النظر إلى ما حرم الله سواء من الرجال أو النساء ينتهي إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع.
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد أناط به امتداد الحياة على هذه الأرض وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها، فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود، وإثارته في كل حين تزيد من عرامته وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة، فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة! والنظرة تثير، والحركة تثير، والضحكة تثير، والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير، والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية، ثم يلبى تلبية طبيعية.. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام، مع تهذيب الطبع، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد.
عباد الله: غض البصر من جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، كما أن فيه إغلاقًا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم.
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، ويقظة الرقابة، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى، ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة بوصفهما سببًا ونتيجة أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع، كلتاهما قريب من قريب، وقد وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غض بصره بأجر عظيم فقال: "ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت عن محارم الله". حسنه الألباني.
ومن أسباب العفاف -يا عباد الله- الزواج؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب: من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء"، وهنا دلّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الشباب على العلاج الناجع، فمن قدر على الزواج فليبادر إليه، ومن لم يقدر فعليه بالصوم فإنه يضيّق مسالك الشيطان، ولكن لا ينفع الصيام من بات على المسلسلات وكلمات الهوى والغرام عبر الأغاني بأصوات أشباه الرجال والإناث، إن الزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة.
ومن لم يستطع الزواج فالعفة هي طريقه في الدنيا حتى يدخل جنة ربه؛ قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور:33].
وقد وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من تزوج يريد العفاف بالعون من الله تعالى فقال: "ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف". حسنه الألباني.
وقد حث الله تعالى حتى كبيرات السن على العفة فقال: (وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور:60]، فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية، على أن لا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة، وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة، وسمى هذا استعفافًا، أي طلبًا للعفة وإيثارًا لها، لما بين التبرج والفتنة من صلة وبين التحجب والعفة من صلة، وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية، والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس.
عباد الله: إنه صراع بين الشهوة وبين الإيمان، وقد قيل: الشهوة مغتالةٌ مخادعةٌ، وقيل أيضًا: عبد الشهوة أذل من عبد الرق.
وهذا سفيان الثوري يربي أصحابه فيقول لهم: "إن أول ما نبدأ به في يومنا ِعفَّةُ أبصارنا".
عباد الله: العفة من أسباب دخول الجنة والفوز بمرضاة الله تعالى؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ ومنهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله"، وينقل لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزول رحمة الله على من عفّ عن محارم الله فقال: "بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها، لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال من النساء، وطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها، قالت يا عبد الله: اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم". رواه مسلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه، دخل الجنة". صححه الألباني.
وتغنى بعض شعراء الجاهلية بغض البصر فقال أحدهم:
أغض طرفي إذ ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدرُ
وقال عنترة بن شداد:
أغض طرفي ما بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
فهؤلاء الكرام وإن كانوا كفارًا فقد علموا أن غض البصر والعفاف معنى جميل فأثنوا على أنفسهم به، ونحن -معاشر المسلمين- أحق به منهم.
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، وصل الله وسلم على إمام المتقين وآله الطيبين.
وبعد:
أحكي لكم -يا عباد الله- ثلاث قصص في العفاف، أولها قصة قرآنية نبوية يوسفية؛ قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) [يوسف:23ـ25].
إن الصورة التي أمامنا هي صورة شاب مكتمل الشباب والنضارة قد دعته سيدة، وهذه الدعوة السافرة الوقحة لا تكون إلا بعد دعوات كثيرة، وإن المتأمل لنفسية الأنثى ليعلم أن هذه المرأة قد حاولت إغواء يوسف مرة بعد مرة، وكان هو يتجاهل مثل هذه الدعوات ويفر منها بدينه وعفته، ولكن بلغ الهوى منها مبلغًا جعلها تعرض نفسها وهي السيدة بكل وقاحة وبشكل فج غلظ، ففر يوسف بدينه ونجا لأنه التجأ إلى رب رحيم، رب لا يتخلى عمن يمرغ وجهه بين يديه في حال الرخاء.
ولكن المصيبة تكبر وتأخذ حيزًا أضخم، فبعد أن سمع نساء القصر أن زوج كبير الوزراء هامت عشقًا ورمت نفسها بين أحضان أحد العمال، أردن أن يرين هذا الشاب، فقلن عبارات وحرصن على أن تصل لهذه المرأة لعلها أن تريهن هذا الشاب: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِين)، فهنا محنة أخرى واستعفاف آخر، فنساء الوزراء والكبراء كلهن يردن يوسف أن يقع عليهن، فلم تعد امرأة العزيز فقط: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) [يوسف:30ـ33].
ومثال العفة الثاني: ذلك الشاب الذي اشتهر لقبه بين الناس بالمسكي؛ فقد دعته سيدة من سيدات القصور إلى الدخول إلى دارها ليريها ما يبيعه من مراوح، فلما دخل وهو شاب غِر مسكين فقير جعلت تقول له: هذه أحسن بل هذه، وهو يمني نفسه ببعض الهللات، ولكنها غلّقت الأبواب، فلما شعرت أنها تمكنت منه قالت: تعال، وإن لم تفعل سأصرخ وأجمع الناس عليك! فهنا طلب منها أن يدخل الحمام ليستحم ويتجمل لها، فلما دخل تبرز وأخذ من برازه ولطخ فيه وجهه ثم خرج عليها، فلما رأته سبته ولعنته وطردته من بيتها، فلما خرج ورآه الناس نعتوه بالمجنون وضحكوا من فعله، فأبدله الله بريح المسك طوال حياته حتى مات في دمشق الشام.
وأختم بهذه القصة وهي لشاب معنا في هذا المسجد دعته امرأة بل نسوة، وهو شابٌ غريبٌ، فاختار الطريقة اليوسفية الطاهرة العفيفة، على الطريقة الإبليسية الخسيسة الرذيلة.
وبعد:
فيا عبد الله: أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فانك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت إبراهيم وعلى على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي