مطر ونصر

عاصم محمد الخضيري
عناصر الخطبة
  1. تجلياتُ عظمة ديننا في تعليمنا كل شيء .
  2. الهديُ النبوي قبل وأثناء وبعد نزول الغيث .
  3. تذكير المطر بالبعث وأهواله .
  4. تحوُّل منحة المطر لمحنة وعقوبة .
  5. شكر رب المطر: لماذا؟ وكيف؟ .
  6. الغوثَ الغوثَ! استنزالاً لأمطار النصر .

اقتباس

إن هذا الدين عظيم، ولن يشادّ الدين إحدى هذه الحضاراتِ والأديانِ إلا غلبها؛ إن هذا الدين عظيم، لم يترك فراغاتٍ روحيةً إلا ملأها، ولم يترك فراغات تشريعية إلا استوفاها. عظمة هذا الدين تتجلى في حبات البَرَد! أخبروني عن دينٍ يحفظ أتباعُه عن نبيهم أنه كان يعبد الله قبل...

الحمد لله يضع ويرفع، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع.

الحمد لله يضع ويرفع، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع.الحمدُ لَهْ؛

هذي الخرادل ليس يخفى كُنهُها *** عمَّن لصوْتِ النمل ليلاً يسمَعُ

سَكَنَاتُ هذا الكونِ ساجِدَةٌ وخا *** ضـــعة له وبكـــل ذُلٍّ تركع

ســبـحانــهُ! في ذرَّةٍ أو رمــلــةٍ *** ملكوتُه فيــها يهيـــم ويخضـع

عِلْمٌ أحاط بكل شيء كائنٍ *** لا يعزبنْ عن علم ربي موضعُ!

أشهد ألا إله إلا هو، له أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون، وأشهد أن محمدَ بنَ عبدِ الله عبدُ الله ورسوله،

... خَيْر مَن وطئ الحصى *** من كُلِّ إِنْس ناطق أو جانِ

هو أحمد البَرَكَاتِ ليس كَمِثْلِهِ *** في الأنبياء وفي الخليقة ثانِي

صَلَّى السُّهَى صَلَّى الضُّحَى صَلَّى العُلا *** لك يا نبيَّ الله والثقلان

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:21-22].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر:15-17].

أما بعد: أعَلَّمَكُم دينُكم كل شيء؟ أجل! كل شيء؛ أعلمكم آدابَ ما كان وما يكون؟ أجل! حتى آداب ما كان وما يكون؛ أعلمكم دينُكم فقهَ ما يتنزل من رب العباد؟ أجل! آتانا منه علما، وأورثنا منه حُكما، وإن من شيء إلا تقديرٌ من حكيم خبير.

أعلَّمَكم دينكم كيف تفرحون؟ وكيف تشكرون؟ ثم كيف تعبدون؟ أجل! علمنا وأنذرنا: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].

أعلَّمَكم كيف تسألون الله من فضله؟ وإذا سألتموه فَرَزَقَكُم؛ أعلمكم كيف تشكرونه بأقوالكم وما تفعلون؟ أجل! علمنا وآتانا من لدنه رحمة وعلماً.

شكرناك يا رحمن شُكْرَ مُقَصِّرٍ *** بنعماك قد أسبغت أقوالنا شكراً

إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً *** عليَّ له في مثلها يجب الشكرُ

فكيف بلوغُ الشكر إلا بفضلهِ *** وإن طالتِ الأيامُ واتَّصَلَ العُمْر؟

إذا سَرّ بالسراء عَمَّ سرورها *** وإنْ مسَّ بالضراء أعقبها الأجر

وما منهما إلا لَهُ فيهِ نِعْمَةٌ *** تضيقُ بها الأوهام والبر والبحر

إن هذا الدين عظيم، ولن يشادّ الدين إحدى هذه الحضاراتِ والأديانِ إلا غلبها؛ إن هذا الدين عظيم، لم يترك فراغاتٍ روحيةً إلا ملأها، ولم يترك فراغات تشريعية إلا استوفاها.
عظمة هذا الدين تتجلى في حبات البَرَد! أخبروني عن دينٍ يحفظ أتباعُه عن نبيهم أنه كان يعبد الله قبل نزول الغيث، وحين نزوله، وبعد نزوله؟!.

أعلمكم دينكم كيف تعبدون الله قبل تنزل الغيث؟ أجل! فإن نبي هذا الدينِ كان إذا تأخر الغيث من الله، دعا الله واستسقى حتى ينزل.

أعلمكم دينكم كيف تعبدون الله حين نزول الغيث؟ أجل فإن نبي الهدى -عليه الصلاة والسلام- كان إذا رأى المطر قال: "اللهم صيِّبا نافعا"، وكان إذا رآه يقول: "رحمة!".
أعلمكم دينكم كيف تحسرون رؤوسكم حين تنزّل الغيث؛ ثم تتعبدون الله بما تفعلون؟ أجل! فإن أنَسَاً -رضي الله عنه- قال: أصابنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطر، فحسر رسول الله ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لم صنعت هذا؟ قال: "لأنه حديث عهد بربه تعالى".

وكان صاحبه عليٌّ -رضي الله عنه- إذا مطرت السماء خرج، فإذا أصاب رأسه الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: "بركةٌ نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء".

أعلمكم دينكم كيف تعبدون الله كلما نزل المطر؟ أجل، فقد علمنا أن ندعوَه كلما سح أو همى، " ثِنْتَانِ ما تُردّان : الدعاء عند النداء، وتحت المطر".

أعلمكم دينكم كيف تعبدون الله بعد نزول المطر؟ أجل؛ فقد رُوي لنا بسند صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال حين توقف المطر: "مُطِرْنَا بفضل الله وبرحمته".

أعلَّمَكُم دينكم كيف تقضون أيامَ هذه النعمة المباركة؟ أجل! فقد سُئلت عائشة -رضي الله عنها- عن ذلك، فقالت: "كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يبدو إلى هذه التلاع"، والتلاع: ما ارتفع من الأرض، وهي مسيل الوادي وما اتسع منه.

أيّ دينٍ دينُنَا هذا الّذِي *** قد عَبَدْنَا رَبَّهُ حين المطر؟

لنْ نُوَفّي ربه أيَّ جزا *** ءٍ ساقه، شكراً أيا ربّ المطر!

نحمد الله على أنْ لم نكن *** حين يجفو الغيث نستسقي البقر!

أيّ فخرٍ يرضي كبرياءنا، ونحن ننتسب لهذا الدين الذي ربه هو رب المطر، وهو مجري سحابه، ومصرفُه حيث يشاء؟.

أيّ فخرٍ يرضي كبرياءنا، ونحن من أمة علمها نبيها كل شيء! في الوقت الذي يفسر أرباب الماديات سبب نزول المطر، نكون نحن متقلبين في عبادة شكره، ولئن سألت أرباب الماديات: من نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها؟ لتقولَّن قلوبهم إنه الله، قل الحمد لله! بل أكثرهم لا يعقلون!.

محال أن تكون هناك فراغاتٌ دستورية تعتري هذه الملةَ والنحلة الربانية، حتى حين نفرح، وحين نحزن، وحين نقنط، كيف بالله نقنط، ولنا رب يقول: (وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28]، (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم:48].

كيف لا نستبشر؛ وقد

لبس الماءُ والهواءُ سناءَ *** واكتسى الروضُ بهجة وبهاءَ

وكأن الهواءَ صار رحيقاً *** وكأن الرحيقَ صار هواء

وتخالُ السماءَ بالليل أرضاً *** وترى الأرضَ بالنَّهَارِ سَمَاء

جلَّلَتْها الأنواءُ ورداً وزهراً *** يوم ظلَّتْ تُنادِمُ الأنواء

وترى الرَّوْضَ كالمنابر تزهو *** وترى الطيرَ فوقها خُطَبَاء

كيف لا؟: ورياض تخايل الأرض فيها *** خيلاءَ الفتاة في الأبرادِ

ذات وشْيٍ تناسجته سَوَارٍ *** لبقاتٌ بِحَوْكِهِ وغَوَاد

شكرت نعمةَ الوليِّ على الوســ *** ــميِّ ثم العِهاد بعد العِهاد

فهي تُثْنِي على السماء ثناءً *** طيّبَ النشر شائعا في البلاد

ثم بثت لربها كُلَّ شُكْرٍ *** وهزيمُ الرعودِ أجمل حادي

نداءات المطر: أول نداء يبعثه المطر: لكل كافر بالورود على الله، كافر بالبعث يوم البعث: يقول لك الله: (وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس:33-35].

ينادي المطر بلسان حاله قائلا لكل كافر، مقررا له أكبر المسائل العقدية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) [الزمر:21].

أيها الكافر بالبعث يوم النشور: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39]!.

ثاني نداءات المطر: هي لكل من استبشر برؤية البرق والسحاب المسخرِ قبل قدومه، يقول لك المطر : أجِّل فرحك! فلا تدري أن يصيبك ما أصاب الهالكين الأولين حين قالوا: هذا عارض ممطرنا! لتكون ريحا فيها عذابٌ أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها!.

إذا رأيت الغيم في وسط الفضاء، ورأيت البرق يلمع في السماء، والرعدُ يهزم في الدنا خوَّارا، فلا تفرح فرحك المجرد من كل خوفٍ؛ فإن الله يريك البرق لتخويفك وإطماعك، فهو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا.

ادعُ الله بخوف، فإن نبي الهدى -وهو نبي الهدى- تحدِّث عنه عائشةُ -رضي الله عنها- أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤْمِّنني أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟! عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا".

يرسل المطر نداءه الكبير لكل أهل الأرض قائلا: إذا كان الرعدُ الذي تسمعونه قبلي يخيفكم، ويخيفكم صوت الفضاء مزمجرا صوب السماء، أفلا يخيفكم صوت السماء يوم تمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا؟ أولا يخيفكم يومٌ لا تظنون به أن السماء قد غضبت؛ بل كل شيء غاضب يومئذ؟! أو ما يخيفكم نداءُ الأنبياء يومها، وجميعهم يقولون: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله، ولن يغضب مثله أبدا!.

في يوم تسجر فيه مجامع الأمطار، يرسل المطر نداءه الكبيرَ لكل أهل الأرض قائلا: إنكم كما فرحتم بمقدمي، فإنني أنا من تتذكرون، لعلكم تتذكرون أنني من كنت سببا في هلاك أقوام سبقوكم، حين كفروا نعمة الله بي.

يرسل المطر نداءه الكبير قائلا: أهلكت البشرية الأولى يوم نوح -عليه السلام- حين أنزلني الله لأبلع الخلائق كلَّهم، ولم أستثن أحدا منهم حتى ابنِ نبيه، وحينها لم أجعل على الأرض بقدرة الله من الكافرين ديّارا.

يرسل المطر نداءه الكبير لكل أهل الأرض قائلا: ما أهونكم عليّ إذا هنتم على الله، هان قوم لوط على الله فأرسلني الله عليهم معاتبا حتى أمطرت عليهم حجارة من سِجِّيلٍ منضود، فانظروا -إن شئتم- كيف كان عاقبة المجرمين!.

يا أهل الأرض: إنه النذير، فاعتبروا قبل أن يقال لكم: أَلَا ساء مطر المنذَرين!
أنى لبني البشر كلُّ هذا الجبروتِ والكبرياءِ وهم الذين عجزوا أن يقولوا لغزاة السماء كفى!  إن لطف الله الذي يتمثل في هذه القطرات، يرسل الله بها رسالته الخالدة: الذي صنع أضعف مخلوق قادرٌ أن يصنع منه أعنفَ مخلوق، يبلع الدول، ويميت الحيل، ويُهلك الحرث والنسل العظيم، وما في الأرض من عدة فيها ومن عَدَد.

اللهم، كما صنعت من هذا اللطف غضبا، ومن هذا الضعف قوة، ابعث من جندك من يري الذين حادّوك وحادوا أولياءك ضعفهم، وهوانهم عليك!.

اللهم كما أغرقت بمائك فراعنةً كفروا بك, اللهم سلط به فراعنة نازعوك ألوهيتك، اللهم يوما عليهم كيوم طوفان نوح، وغرقِ فرعون، وهلاك الملأ الجبارين، اللهم إن تشأ تغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم يُنقَذون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: إلهي! لك الحمد الذي أنْتَ أهْلُهُ *** على نِعَمٍ ما كُنتُ قَطُّ لها أهلا

إن ازددتُّ تقصيرا تزدنا تفضُّلاً *** كأنّا على التقصير نستوجب الفضلا!

الشكر ليس كلمات تردد، بل مواقف تتجدد، بشكر المنعم المتفضل، ولئن شكرتم لأزيدنّكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد!.

ما شيء أقسى على الأمة من نعمة يهبها الله لعباده، ثم تُقابل من بعض المنتسبين لها بالكفران المبين! ما أقساها وما أنكاها! وإنما الكفر ألّا تُشْكَر النِّعَم!.

الشكر ليس عبارةً مسموعة *** وقَفَتْ بثغرك ثم مَاتَتْ فِيهِ

الشُّكْرُ منك عبارةٌ وعبادةٌ *** فِعْلِيَّةٌ، ما الشكر بالتمويهِ

تشكرون ربَّ المطر حين تقولون: شكرا أيا رب المطر، ثم تُتبعونها ببرهان إن كنتم صادقين، فالشُّكْرُ بالفعل ليس الشكْرُ بالكَلِمِ!.

تشكرون رب المطر حين يدفعكم نزولُه إلى طاعة ربه، كذلك يصرف الله آياته لقوم يشكرون، تشكرون رب المطر، حين تستحيون من الله أن تعصوه من حيث أنعم عليكم به.

تشكرون رب المطر حين تتذكرون أن نعمة كهذه حرمها الله أسلافاً سبقوكم، شربوا أبوالهم ظَمَأً ألّا يجدوا ما يشربون! ثم آتاكم إياها!.

تشكرون رب المطر حين تتذكرون أن هذه النعمةَ أغرق الله بها أقواما كنا نظن أنهم قد امتنعوا عن السماء والأرض، فإذا القطر يصبح كالقطران، وتتكور السماء عن سحب كالجبال، ليكورها الله في وجوه الذي ظلموا، وبئس ما يزرون!.

ما أحقرك أيها المخلوق! وأحقِرْ بِكَ! يهبك الله فتغرق، ويسقيك فتشرق، ويمنعك القطر فتتملقُ، وتسأل الله الغياث.

تشكرون رب المطر حين تدفعون زكاة ما آتاكم، وزكاتُه البر والتقوى، ومن العمل ما يرضى به الله.

تشكرون رب المطر حين تنسبون له هذا الإمداد، لا لهيئة إرصاد، أو توقعات أفراد، أو نظرات نقاد، أو نوء كذا وكذا.

تشكرون رب المطر، حين لا يكون نزوله وسيلة لفعل منكر، أو عبثٍ من الفعل وزوره، أو تضييق على عباد الله.

تشكرون رب المطر حين لا يكون نزوله وسيلة إلى لهوٍ حرام، أو مغامرات جاهلية، أو تحديات عنترية.

تشكرون رب المطر، حين لا يُعصى اللهُ بأرض توشحت بخيراته، وتدثرت ببركاته، فلا مزمارَ يضرب، ولا اختلاط يُجلب، ولا أذى أو ذنباً في أرض الله.

تشكرون رب المطر، حين تكون زكاةُ شكره هي الدفاع عن حرمات الله في كل مكان، والشعورُ بالذي يحل بأقوام ما أخذنا الضمانة أن نكون أكرم على الله منهم. يقول الطنطاوي -رحمه الله-: هل عرفتم الصواعق المنقضّة، والسيول الجارفة، والبركان الهائج، وكل ما في الكون من قوة؟ إنها لن تصد غضبة المسلم إذا كانت لله ولمحارمه ولدينه!.

تشكرون رب المطر إن لم تلهكم خيرات الله عن فعل ما افترضه عليكم.

تشكرون رب المطر حين يكون نزول المطر مشاريع تعبديةٍ، أثناء نزوله وبعد نزوله.

تشكرون رب المطر حين يكون نزوله مشروع تفكر في بديع ما صنع الباري وما خلقا!

تأمَّلْ في غِيَاثِ اللهِ وانْظُرْ *** إلى آثار ما صنع المليكُ

عُيونٌ من لُجَيْنٍ شاخصاتٌ *** بأحداقٍ كما الذهب السبيك

على كثب الرمال وشاهدات *** بأنّ اللهَ ليس له شريك

يا أمة النعمى بأرض الله: لن تُستجلب خيراتُ الله إلا بالإيمان والتقوى، اقرؤوا إن شئتم: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].

يا أمة النعمى بأرض الله: لن تستجلب خيرات الله إلا بزكاتها، روى مسلم عن أبي هِرٍّ -رضي الله عنه- عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قَالَ: "بَينَمَا رَجُلٌ يَمشِي بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرضِ، فَسَمِعَ صَوتًا في سَحَابَةٍ: اِسقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأفرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ، فإِذَا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّرَاجِ قَدِ استَوعَبَت ذَلِكَ المَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذَا رَجُلٌ قَائمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بِمسحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبدَ اللهِ، ما اسمُكَ؟ قال: فُلانٌ، لِلاسمِ الَّذِي سَمِعَ في السَّحابةِ، فَقَالَ لَهُ: يا عبدَ الله، لِمَ تَسألُني عَنِ اسمِي؟ فَقَالَ: إنِّي سَمِعتُ صَوتًا في السَّحابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسمِكَ، فَمَا تَصنَعُ فِيهَا؟ فَقَالَ: أمَّا إِذْ قُلتَ هَذَا، فَإنِّي أنظُرُ إِلى مَا يَخرُجُ مِنهَا، فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أنَا وَعِيَالي ثُلُثًا، وَأردُّ فِيهَا ثُلُثَهُ".

يا أمة النعمى بأرض الله: "لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء".


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي