فمن الناس من يفهم أن كلمة متدين تعني عدم اللباقة، وعدم النظافة، وعدم اللياقة، وعدم الابتسام؛ وهذا ظن قاصر.
إن الذي لا يدرك أن الذوق جزء أساسي من أخلاق المسلم لم يفهم الإسلام، ولم يتشرب معانيه، ولم يدرك حقيقته.
ولنبدأ بالذوق مع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الصالحين: الإسلام دين الجمال والكمال، دين الرقي والتحضر والجلال؛ فمن أي الجهات نظرت إليه أخذك جماله، وسحَرَك نظمه وبيانه.
فمَن غاص فيه وقف على العجائب من نَظمِه الرائق البديع، وخَاله المُزْري بزهر الربيع، مُوشَّحاً بغُرَرِ ألفاظه، التي لو أعِيرت حِلْيَتُها لعطَّلَت قلائد النحور، وأبكارِ معانيه التي لو قُسمت حَلاوتها لأعْذَبَتْ مَوَارِدَ البحور.
ومن سرّح طرفه في رياضه أذهلته سحائبُ العلوم والْحِكم، وهبَّ عليها نسيمُ الفضل والكرَم، وابتسمَتْ عنها ثغورُ المعالي والهِمَم.
وإجمالا؛ فإن أخلاق الإسلام قد حوت رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع؛ فما من جَارِحةٍ إلا وهي تودُ لو كانت أذناً فتلتَقط دررَه وجواهره، أو عيناً تَجْتَلي مطالَعه ومناظره، أو لساناً يَدْرُس محاسنَه ومفاخره.
نعم؛ إنه ديننا الذي نعتز به ونفخر، ولكن الإشكال في تعاطينا نحن مع هذا الدين، وفي تشربنا لمعانيه، وتمثلنا لأخلاقه.
ولذلك؛ لما حصل الجفاء بيننا وبين ديننا، أو بعبارة أخرى: يوم أريد لنا أن ننفصل عن حقيقة ديننا وقعنا في مستنقعات التناقض والتباين والانفصام، وهذا هو الجفاء المعبر عنه في قرآننا بالميل في قوله -تعالى-: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء:27].
إذاً؛ فلا بد لنا إذا ما أردنا أن يظهر علينا جمال الإسلام ورقيه من عودة سريعة رشيدة إلى رياض الأخلاق الكريمة الفاضلة التي ما فتئ الإسلام يدعو إليها، ويرغب المنتسبين إليه في تمثلها.
وتكلمنا في الخطب الماضية عن بعض الأخلاق الحميدة التي تكسب صاحبها القبول، وتحقق له الوصول.
وسنتكلم اليوم -إن شاء الله تعالى- عن جانب آخَر من جوانب الأخلاق الفاضلة، إنه خُلُقٌ مطلوب في كل جوانب حياتنا، خلق يعطي صاحبه جمالا وجلالا وقبولا، إنه "الذوق"، أو قل إن شئت: "جمال التعامل"، بأشكاله المتعددة: الحس الراقي، النفس المرهفة، الموقف الجميل، التناسق والانسجام، الفهم السريع من نظرة العين، واقتناص اللمحة الحائرة، والنظرة العابرة، وفهم الإشارة والإيماء، دون نطق ودون إنشاء.
فمن الناس -مع الأسف- من يفهم أن كلمة متدين تعني عدم اللباقة، وعدم النظافة، وعدم اللياقة، وعدم الابتسام؛ وهذا ظن قاصر.
إن الذي لا يدرك أن الذوق جزء أساسي من أخلاق المسلم لم يفهم الإسلام، ولم يتشرب معانيه، ولم يدرك حقيقته.
ولنبدأ بالذوق مع الوالدين، وسنكتفي في كل لون من ألوان الذوق بإشارتين فقط.
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ) [النور:58]. آية في القرآن ترسخ قاعدة من قواعد الذوق.
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نعم"، قال الرجل: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ قال: "نعم"، قال للمرة الثالثة: يا رسول الله، أستأذن على أمي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتحب أن تراها عارية؟"، قال: لا يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم- "فاستأذن على أمك" رواه البيهقي.
صورة راقية من صور الذوق في التعامل مع الأم؛ فلا يجمل بالمسلم أن يفتح باب غرفة أمه أو أخته دون استئذان ودون إعلان؛ لما قد يقع لأمه من الحرج والإيلام.
من الذوقيات المفقودة في شوارعنا مثلا تلك الأصوات المزعجة لأبواق السيارات بدون سبب وبدون ضرورة، تجد صاحب السيارة يقف أسفل البيت وينادي ببوق سيارته مَن في الطابق العلوي بدلا من أن يصعد إليه أو أن يتصل عليه، دون مراعاة لحق الناس؛ فمنهم النائم، ومنهم الطالب الذي يدرس، ومنهم المريض، ومنهم الذي يصلي، ومنهم... ومنهم...، فليس الشارع ملكك وحدك.
ويأتي الإسلام ويرد للشارع ذوقياته المفقودة، يقول الله -تعالى-، وينبغي أن نفهم هذه الآية على نحو موسع: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:4-5].
نعم؛ إن الآية تتحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنها -في الوقت نفسه- تنظم وتهذب سلوكيات الناس.
من التصرفات الغريبة المنافية للذوق أنك تجد سائق السيارة في الطريق لا يسمح للسيارة التي خلفه أن تتجاوزه بدون سبب؛ فقط بسبب العناد ليس إلا، فيأتي الإسلام ويعلمنا الذوق في مثل هذه المواقف، يقول ربنا -وينبغي كذلك أن نفهم هذه الآية على نحو موسع-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) [المجادلة:11].
افسحوا، ليس في المجالس فقط، ولكن حتى في الطرقات؛ فمن قلة الذوق أن تضيق الطريق على إخوانك، يقول سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ثلاث يصفين لك ود أخيك"، ومنها: "أن تفسح له في المجلس".
وإليكم هذا الموقف الجميل: بينما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا في المسجد؛ إذ جاء رجل من الأعراب فتزحزح له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرغم من أن المسجد لم يكن ممتلئا، وقال هذا الأعرابي -وقد لفت نظره هذا التصرف-: يا رسول الله، لما تزحزحت وإن في المسجد سعة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حَق على كل مسلم إذا جاء أخوه أن يتزحزح له"؛ فمن يقول بعد هذا خذوا الذوق وتعلموه من الغرب؟!.
من المظاهر الغريبة المجافية للذوق أنك ترى صاحب السيارة يبحث عن مكان ما فيقف في وسط الطريق ليسأل ويطيل السؤال دون مراعاة لشعور الناس من خلفه، أو ترى صاحب سيارة أجرة يقف لبعض الركاب في وسط الطريق، وفي إمكانه أن يقف جانبا ولا يؤذي إخوانه ولا يقطع طريقهم، ولكنها أمور لا تجد لها تفسيرا في الغالب، والمظاهر في شوارعنا أكثر من أن تحصر.
من المظاهر المجافية للذوق كذلك -وهي في جانب المسؤولين-: "كثرة الحفر وسوء الطريق"، فبغض النظر عن كونها مسؤولية أو مسألة تتعلق بالأمانة والمسؤولية؛ فإنها في جانبها الإنساني الجمالي تتعلق بالذوق.
وأنتم ترون -أيها الأحباب- مثلا هذه الحفر التي تنتشر في كل مكان ولا يسلم منها لا السائق ولا سيارته؛ فالمسؤولون الذين يملكون المقدرة على رفع هذه المعاناة ولا يفعلون يتحملون وزرا عظيما أمام الله، إضافة إلى قلة ذوقهم؛ لأن الذوق في أرقى معانيه هو الإحساس بالآخر، أما الاهتمام بالنفس والجيب والرصيد فقط فأمارة سوء ودليل غباء.
وأما من يكابد هذه الحفر من أمثالنا فما عليه إلا أن يذكر الله عند كل حفرة ليكون من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، مع الدعاء بأن يحسن الله الحال، يقول سيدنا عمر: "لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله: لِمَ لَمْ تُسَوِّ الطريق لها يا عمر؟".
من المظاهر الغريبة -كذلك- أنك ترى السيارة في الطريق وأصحابها يرمون القمامة من النوافذ في الطريق، وهذا أمر مشاهد ومعلوم؛ فهل من الأدب والذوق إلقاء القمامة في الشارع؟! يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إماطة الأذى عن الطريق صدقة". فما بالنا بمَن يُلقي الأذى في الطريق؟!.
من المظاهر المؤلمة المنافية للذوق "مسألة التدخين"، تجلس في مكان عام أو تركب سيارة أجرة، فيخرج الذي بجانبك سيجارته ويدخن بجنبك دون مراعاة لشعورك ولا لتحملك، في صورة من صور قلة الذوق.
هذا إلى جانب كونه حراما بدليل قوله -تعالى-: (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) [الأعراف:157]، اللهم إلا إذا وجد من يعتبره من الطيبات! فهذه مصيبة أخرى.
فالتدخين أمام الناس فيه مجاهرة بالمعصية، وفيه إيذاء للمسلم؛ فالمكان العمومي ليس ملكك وحدك، والهواء ليس ملكك وحدك، وإذا ابتليت فاستتر وانفرد بنفسك، ولا تؤذِ معك الآخرين.
وحتى إن انفردت لوحدك فاعلم أنك تؤذي ملائكة الرحمن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم".
من مظاهر الذوق في شرعنا المطهر "مسألة الاستئذان"، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور:27].
ومعنى (تَسْتَأْنِسُوا): تتأكدوا أنهم مستعدون لاستقبالكم، و(تَسْتَأْنِسُوا) في عصرنا أن تتصل هاتفيا بأخيك وتعلمه بمجيئك إن كان مستعدا لذلك.
أما المباغتة والمفاجأة فمنافية للذوق، فلربما كان هذا الأخ في وضع لا يسمح له باستقبالك؛ من مرض أو غضب أو خصام أو غير ذلك، ومن الذوق كذلك ألا تغضب إن اعتذر أخوك عن استقبالك، قال الله -عز وجل-: (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) [النور:28].
من السلوكيات المنافية للأدب والذوق أن تجد مثلا من يدق الباب ثم يقف في وجه الباب، وانظر إلى أدب الإسلام في هذه المسألة: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقفوا أمام الباب، ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا" أخرجه الإمام أحمد.
إنها أدبيات رفيعة، وأخلاق راقية، تعطينا لمحة عن جمالية الإسلام ورقيه في بناء الجانب الذوقي في الإنسان، أخلاق تجعلنا مصادر للجمال أينما حللنا وارتحلنا؛ لنكون كالنسمة الباردة اللطيفة في اليوم الصائف الحار.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي رفع شأن الأخلاق وأعلى مكانها، وأخبر عنه نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وتبعهم إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: من مظاهر قلة الذوق كذلك "التطفل في الدعوة"، قد يدعوك أحد أحبابك لطعام في يوم كذا فتذهب وتأخذ أحداً ليس من المدعوين، قد يصاب صاحب البيت بالذهول لهذا التصرف، وقد يكون هذا الشخص الذي أخذته معك ليس مرغوباً فيه من لدن صاحب المأدبة، أو يتحرج منه، أو غير ذلك.
دعي النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وخمسة من الصحابة عند رجل من الأنصار، وفي أثناء ذهاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الخمسة إذ بصحابي آخر يتبعهم ويمشي معهم حتى وصلوا إلى البيت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لصاحب البيت: "إن هذا قد تبعنا؛ فأْذَنْ لهُ، وإن شئت فلْيرجِعْ"، قال الأنصاري: بل آذن له يا رسول الله. أين هي هذه الذوقية بيننا؟!.
من صور قلة الذوق -أيها الأحباب- أنك تجد بعض الناس حينما يدخل بيت أخيه تجد عينيه تتحركان بسرعة، فإذا رأى أي شيء أخذه وفتحه وقلبه، وإذا رأي الهاتف حمل السماعة وبعدها يستأذن من صديقه في الاتصال، وهو يعلم أن صديقه لن يرفض!.
وقد يرى عند أخيه شيئاً جميلا؛ من لباس أو ساعة أو قلم أو غير ذلك فيمدحه ويبالغ وكأنه يشعره بأنه يريده أن يعطيه إياه، حتى يحرجه ويقول له: خذ! إلى هؤلاء نوجه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أُخِذَ بِسَيْفِ الحياءِ فهُو حرامٌ".
من الذوقيات الإسلامية الرفيعة ما حث عليه الإسلام في زيارة المريض، فمن الذوق أن تكون زيارة خفيفة إلا أن يكون المريض مستأنسا ورغب في بقائك، وهناك قصة طريفة للإمام أبي حنيفة، كان مريضا وعاده أربعة رجال فكانت زيارتهم ثقيلة وأطالوا الجلوس والإمام مريض، فضاق بهم وتعب تعبا شديدا، ومع ذلك ما زالوا على حالهم، فماذا فعل أبو حنيفة؟ قال لهم: "قوموا، فقد شفاني الله". فمن الذوق مراعاة ظروف المريض وحالته الصحية والنفسية.
من الأمور المنافية للذوق وهي في باب المجالسة والطعام "التجشؤ"، ذلك الصوت الصادر من الصدر؛ فمن الناس من لا يراعي وجود أحد معه فيتجشأ ويتجشأ وكأن الأمر عادي! وأنت ترى وتسمع ويكاد قلبك ينفطر، وهو لا يبالي ولا يشعر بشيء.
جلس شخص مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه فأكثر التجشؤ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم وانظروا إلى هذه الصيغة فيها لون من الغضب-: "يا هذا، كُفَّ عنا جُشَاءك". إنه عادة قبيحة يمجها الذوق السليم، ويرفضها الطبع القويم.
من الأمور كذلك المنافية للذوق: ذلكم الصوت الصادر عن مضغ الطعام، تجلس بجانب بعضهم فيمضغ الطعام مُصْدِرَاً أصوات غريبة تشمئز منها الأسماع، وهو لا يبالي بمن حوله.
من الذوقيات -كذلك- في التعامل مع الإخوان تجنب إيقاعهم في الذنب، مثال ذلك: أن ترى أخا لك في الطريق فتتصل عليه وتسأله: أين أنت الآن؟! قد تضطره إلى الكذب فيقول لك: أنا في مكان كذا وكذا، فتقول له: قف! إني وراءك أو أراك أو ما شابه ذلك؛ فكل هذا من قلة الذوق، ولا ينبغي أن يصدر من مسلم؛ حفاظا على أخوة الدين، ودرءا لكل خلاف وشقاق.
من الذوقيات والآداب التي علمها لنا الإسلام في المسجد ألا نتخطى الرقاب؛ فقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا يتخطى الرقاب فقال له: "اجلس؛ فقد آذيت وآنيت"، آنيت: يعني تأخرت.
ومن الذوق أن تجلس حيث انتهى بك المجلس؛ اللهم إلا إن كان في المسجد فراغات فيمكن المشي خلالها بلطف وأدب وحسن تصرف.
من الذوق -كذلك- الحرص على أخذ الزينة عند الذهاب إلى المسجد، قال -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف:31]؛ فالثياب المتسخة التي فيها روائح العرق والعمل كل هذا منافٍ للذوق، أضف إلى ذلك ما يلبسه بعض الشباب من ملابس فيها بعض الصور؛ كصور اللاعبين أو أسمائهم أو ما شابه ذلك، كل هذا منافٍ للذوق؛ خصوصا في بيوت الله التي رفعت من أجل ذكر الله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور:36].
من الأمور المنافية للذوق في المساجد -وهي شائعة- مسألة "الهاتف"؛ فمن الذوق أن تغلق الهاتف المحمول وأنت ذاهب إلى بيت الله، وهذا أمر مُهِمٌّ في غاية الأهمية، فأحيانا تكون في المسجد في الصلاة وبعد مجاهدة في صلاتك وبحث عن الخشوع تسمع صوت الهاتف يشوش عليك ويصرفك عن الخشوع ويقطع خط الوصل بينك وبين ربك، لا سيما إذا كانت الرنة موسيقية، فإنك ساعتها تلحظ اختلالا بين ما أنت فيه وبين ما تسمع.
وحتى إذا ابتليت ورن هاتفك وأنت تصلي فأطفئه، ولا تتركه يشوش على المصلين؛ لأن الحركة للضرورة لا تبطل الصلاة عند جمهور الفقهاء، أما التشويش فإنه حرام بالإجماع.
من الأمور المنافية للذوق -كذلك فضلا عما ورد من النهي- مسألة "المرور بين يدي المصلي"، وهي مسألة من الأمور الشائعة التي عمت بها البلوى، ومع الأسف! أنا ألحظها كثيرا في مسجدنا هذا؛ فالواجب مراعاة هذا الأمر، فأخوك الذي يصلي بين يدي ربه لا تمر أمامه تشوش عليه.
عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيْراً لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ". قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لا أَدْرِي قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْماً، أَوْ شَهْراً، أوْ سَنَةً.
قال الإمام النووي، "معناه: لو يعلم ما عليه من الإثم لاختار الوقوف أربعين على ارتكاب ذلك الإثم"، ومعنى الحديث: النهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.
وحرصا على هذا الأمر شرع للمصلي اتخاذ السترة حتى لا يمر أحد بين يديه فيشتغل به وينقص ثواب صلاته؛ قال -صلى الله عليه وسلم- "إذا صلى أحدكم فليصلِّ إلى سترة، ولْيَدْنُ منها" أي يقترب منها (أخرجه أبو داود).
والمسافة المنهي عن المرور منها هي ما بين يدي المصلي ونهايتها موضع سجوده فما فات عن ذلك فلا يعتبر بين يديه.
من الأمور المنافية للذوق "المبالغة في الجدية في أوقات السمر وعند مجالسة الإخوان؛ فقد خرج الإمام الشافعي يوما لنزهة مع أصحابه، وكان بينهم رجل عابس، فدفعه الشافعي وقال: "يا هذا، ما من الورع العبوس في البستان".
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يضحك مما يضحك منه أصحابه، ويتعجب مما يتعجبون، ويشاركهم حديثهم، ويسمع أخبارهم وحكاياتهم، وأخبارهم في ذلك معروفة موصوفة -صلى الله عليه وسلم-.
فبعضهم، إذا كنت في مجلس وحكيت طرفة أدبية أو قصة طريفة قطب وجهه وعبس وقال عبارات يشعرك من خلالها كأنك ارتكبت جرما! كأن يقول مقطبا: "الله المستعان!"، أو "لا حول ولا قوة إلا بالله!"، فمثل هذا قد يُحْوِجك إلى التكلُّف له، يقول الإمام الشافعي: "أثقل إخواني على قلبي من يتكلف لي وأتكلف له، وأحب إخواني إلى قلبي من أكون معه كما أكون وحدي".
من مظاهر الذوق الرفيعة في ديننا "التأدب مع أصحاب الفضل"، كل من كان له فضل عليك، وكان له حق عليك يجب أن تتأدب معه، وانظر إلى أدب العباس -رضي الله عنه- عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فمن المعروف أن العباس أكبر سنا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحينما سئل العباس: أأنت أكبر أم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال كلمات رقيقة تنم عن ذوق رفيع: "هو أكبر مني، وأنا وُلِدْتُ قبله".
وكذلك أبو بكر -رضي الله عنه- حينما هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- انتظرهما الأنصار على مشارف المدينة، ولم يكن الأنصار يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم-، فرأوا راحلتين قادمتين، وكان سيدنا أبو بكر هو المتقدم في الأمام؛ لأنه كان خائفا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فظن الأنصار أن الرسول هو أبو بكر، فأسرعوا نحو ناقة أبي بكر وأخذوا خطامها.
فماذا فعل أبو بكر؟ هل قال لهم: لست أنا رسول الله؟ ماذا فعل؟ لقد خلع رداءه وظلّل به رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت لمحة طيبة، وذوقاً رفيعاً، فعرف الأنصار أنه ليس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسرعوا إلى نبي الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومظاهر الذوق في ديننا أكثر من أن تحصى..
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (1)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (2)
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (3)
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي