فالمقبرة -معشر الأحبّةِ- إنّما وُجدت لدفن الموتى، والإحسان إليهم بمواراتهم التُّراب، ولذلك؛ هي ليست مكانًا يُقصدُ لشيءٍ من العبادات، بل للدّفن والزيارة الشرعيّة فحسب، وأشدُّ من قصد المقبرة للذكر والتعبُّد قصدُها لسؤالِ الميّتِ، وطلبِ البركةِ، والاعتكاف، والطواف، واستلامِ القبر، وتقبيله، والتمسُّح بحيطانِه، وربط الخِرَقِ فيه، وطلب قضاءِ الحاجات منه، فهذا...
ثم أما بعد: معشر المؤمنين: حديثنا اليوم عن العقيدة الصافيةِ الصحيحة التي تجب على كلّ مسلمٍ في حقّ القُبور، وما يتعلّقُ بها من أحكام.
فالمقبرةُ -معشر المؤمنين- هي المكان الذي يُدفنُ فيهِ موتى المسلمين، وقد شرع ربنا سبحانهُ من الأحكام في المقابر ما يحفظُ عقيدة التوحيد ويجعلها صافيةً ناصعة، وما يُحقق نفع النفس ونفع الموتى دون إخلالٍ بالتوحيدِ والإيمان.
فأوّلُ ما حرص عليه الإسلامُ في هذا بيانُ الغايةِ من وجود المقبرة؛ فالمقبرة -معشر الأحبّةِ- إنّما وُجدت لدفن الموتى، والإحسان إليهم بمواراتهم التُّراب، ولذلك؛ هي ليست مكانًا يُقصدُ لشيءٍ من العبادات، بل للدّفن والزيارة الشرعيّة فحسب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تتخذوا بيوتكم قبورا، صَلُّوا فيها" صحيح الجامع.
ومعناه: لا تجعلوا بيوتكم خاليةً من العبادات كالمقابر. وهذا دليلٌ على عدم مشروعيّة قصدِ المقبرةِ للتعبّد.
وأشدُّ من قصد المقبرة للذكر والتعبُّد قصدُها لسؤالِ الميّتِ، وطلبِ البركةِ، والاعتكاف، والطواف، واستلامِ القبر، وتقبيله، والتمسُّح بحيطانِه، وربط الخِرَقِ فيه، وطلب قضاءِ الحاجات منه، فهذا من الشّركِ الأكبرِ الذي لا يغفرُهُ اللهُ تعالى؛ وهو دليلٌ أيضًا على الحُمقِ وذهابِ العقل؛ إذ كيفَ ينتفعُ حيٌّ لا يزالُ يسعى ويعملُ ويكتسب بميْتٍ انقطعَ عن الحياةِ والعمل والسعي؟! هذا من أكبر الضلالِ، وأعجبِ المُحال!.
وقد استثنى الشرعُ زيارةَ الأحياءِ للأموات بقصدِ الدُّعاء لهم، ونفع النفسِ برؤيةِ المصير، وتذكُّر الموت والآخرة والاستغفار للميت، فهذه عبادةٌ يحبُّها الله ويرضاها لما يترتّبُ عنها من نفع النفس، ونفع الميت، وزيادة الإيمان.
عن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة"، وفي رواية: "تُرقُّ القلب، وتُدمع العين، ولتزدكم زيارتُها خيرًا" أخرجه مسلم.
ويلقي الزائر على الموتى السلام في بداية الزيارة، مثلما ثبت في الحديث: عن بريدة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية" رواه مسلم.
قال الإمام ابن القيّم – رحمه الله-: "كان إذا زارَ قبور أصحابه يزورُها للدُّعاءِ لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارةُ التي سنَّها لأمته، وشرعها لهم.
وكان هديُهُ أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقولُهُ عند الصلاة على الميت، من الدُّعاء والترحُّم والاستغفار، فأبَى المشركونَ إلاّ دعاء الميت والإشراك به والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجّه إليه، بعكس هديه -صلى الله عليه وسلم-، فإنه هديُ توحيدٍ وإحسانٍ إلى الميت، وهدي هؤلاءِ شركٌ وإساءةٌ إلى نفوسِهم وإلى الميت" اهـ.
وهذه الزيارة الشرعيّة لا يُشرعُ لها شدُّ الرّحال، بل مَن مرّ بالمقبرة شُرع له ذلك، أو من كان قريبًا منها، أمّا قصدُها بشدّ الرّحلِ وإنشاء الأسفار فمخالفةٌ لا ينبغي الوقوعُ فيها، فإنّما تُشدُّ الرّحال إلى غير هذا.
ففي المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى ومسجدي هذا".
وهذا -معشر المؤمنين- هو المقصدُ الوحيدُ من زيارة القبور: نفعُ النفسِ بالاتّعاظ، ونفعُ الميّت بالدُّعاء والاستغفار له؛ أما وضع الزهور على القبور، أو صب الماء عليها، أو غرس الشجر ووضعُ الأشياء على القبر، فلا ينفع النفسَ ولا الميت في شيء.
معشر المؤمنين: ومن الأحكام المتعلّقة بالقبور في الإسلام: منعُ البناءِ عليها، لحِكَمٍ كبيرةٍ كثيرة؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبنى على القبر أو يزاد عليه" صحيح: سنن النسائي.
وقد بعث النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عليًّا -رضي الله عنه- إلى اليمن، وأمره أن لا يدع تمثالاً إلا طمسَهُ، ولا قبرًا مُشرِفًا إلاّ سوّاه، كما في صحيح مسلم.
فالقبور في الإسلام تُتركُ على حالتها، وأقصى ما يُمكنُ فعلُهُ مع القبر التحويز عليه بصخورٍ، ووضعُ البطحاءِ عليه؛ حفاظًا عليه من الاندراسِ ونسفِ الرّيحِ، ومنعًا للسيولِ عنه.
أمَّا البناءُ عليه فهو سببٌ من أكبر أسبابِ حصول الجلوس على القبور، والتباهي بها، والتبذير لمال الحي والميّت، وذهاب العبرة من القبور.
وأشدُّها تشييدُ الأضرحة وبناءُ القِبابِ على القبور، وهذا -مع المفاسد السابقة- سببٌ كبيرٌ في إفسادِ العقيدةِ وإيقاع النّاس في الشرك بالله جلَّ جلالُه، قال الإمام ابن القيّم – رحمه الله-: "ولم يكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- تعليةُ القبور، ولا بناؤُها بآجُر، ولا بحجرٍ ولَبِن، ولا تشييدُها، ولا تطيينُها، ولا بناءُ القِبابِ عليها، فكُلُّ هذا بدعةٌ مكروهةٌ، مخالفةٌ لهديِهِ -صلى الله عليه وسلم-".
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق إلى ما يحب يرضَى، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ إنه غفور رحيم.
أيها الإخوة في الله: ومن أجلّ الأحكام المتعلّقة بالقبور - معشر المؤمنين-: تحريمُ الجمعِ بين المقبرةِ والمسجد، فالمسجد والمقبرةُ في الإسلام لا يجتمعان أبدًا، المقبرةُ للدّفن، والمسجد للعبادة، ولا يصحُّ إدخالُ هذا على هذا؛ صيانةً للتوحيدِ، وحمايةً للقلوبِ من الشّركِ ومقدّماته، وسواءٌ في هذا قبور الصالحين وغيرُهم، الجميعُ يُدفنُ في المقبرة العامّة للمسلمين، ولا يجوزُ الجمعُ بين القبر والمسجد.
ولهذا؛ لعن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- اليهودَ والنّصارى لأنَّهم جمعوا بين القبر والمسجد: فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى! اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" متفق عليه، "وإني أنهاكم عن ذلك، اللهم هل بلغت؟! -ثلاث مرات، ثم قال:- اللهم اشهد. -ثلاث مرات-". صحيح الترغيب والترهيب.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخر مُنِعَ منه، وكان الحكم للسابق، فلو وُضِعَا معًا لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تصحُّ الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجدًا أو أوقد عليه سراجًا، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى".
هذه -معشر المؤمنين- أهم أحكامِ القبور في الإسلام، قصدنا بها التعليم والتذكير والتحذير، ولم نقصِد التفصيل والاستقصاء.
هذا؛ ونسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكَرِّهْ إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي