إن المرتكزات التي تقوم عليها الحرية في الإسلام هي من أقوى الأسس والقواعد التي تقوم عليها فكرة أو مفهوم ما في أي نظام آخر. فالإسلام لا ينظر إلى الحرية كشيء كمالي ولا يعتبرها أمرا مزاجياً خاضعاً للذوق والرغبة، بل أقامها على أصوله واعتبرها جزءاً لا يتجزأ من مبادئه. بل إن الباحث المتتبع ليشم رائحة الحرية من كل التشريعات الإسلامية والمناهج التي وضعها في شتى مجالات الحياة، والإسلام الذي أعطى...
الخطبة الأولى :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتابُ الله وأحسنَ الهدي هديُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن الله تعالى كرَّم بني آدم عن باقي المخلوقات فقال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) [الإسراء:70], فجنسُ البشر جنسٌ مكرَّمٌ عن باقي المخلوقات، وإن الله تعالى كفل لهذا الإنسان حقوقاً وأوجب عليه واجبات, وأمره بأوامر فمن فاستقام لأمر الله نجا ومن عصاه هلك.
وإن الإسلام سمى سموا عظيما في حفظ الحقوق لبني البشر، وضرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام أعظم الأمثلة في حفظ هذه الحقوق، ولكنها ضاعت بسبب بُعد الناس عن روح الشريعة الغراء العظيمة، وسنتحدث عن حقوق الإنسان المضيَّعة في هذه الأزمنة ثم نعودُ لذكر نماذج من حفظ الإسلام للحقوق فبضدِّها تتبيَّنُ الأشياء.
عباد الله: انقسم العالم في حفظ الحقوق على قسمين: الأول: العالَم الأول المتحضِّر، والثاني العالم الثالث الذي ليس وراءه رابع. أما العالم المتحضِّر والذي غرز أعلامَه على سطح القمر, فقد انحطَّ في حقوق الإنسان لأسفل سافلين, فالحقوق مكفولةٌ للحيوانات بل والحشراتِ وللعراة والسحاقيات واللوطيين والشواذ, أما بنو البشر فإنهم مقهورون فالتجسس بلغ مداه والسجن بمئات السنين بلا موجب ولا سبب.
وكانت هذه الأممُ تتغنى بحقوق الإنسان وتنعت غيرها بالظلم والاستبداد, ثم أظهرت وجهَها الكالحَ في سجون أبي غُريب وجوان تناموا، وقتل المئاتَ تحت وابل القنابل العنقودية، ومنعت المسلمات من ارتداء الحجاب مع أنه من الحقوق الشخصية، وما زالت مزابلُهم مليئةٌ بالسكان البسطاء الفقراء.
وهم الذين يحمون كل الحكومات الظالمة الفاجرة الدكتاتورية في العالم؛ لأنها تنفَّذُ خططَهم وتركع وتسجد لهم، فمن الذي باع لصدام حسين الكيماويات التي ضرب بها أهل حلبجة، ثم تحوَّل هذا الحِملُ الوديعُ إلى مجرم أثيم، و الرجل هو هو إلا أنه خرج عن الخط الذي رُسم له فكان لابدَّ من تأديبه.
ومن باب الإنصاف لابد أن نقول: إنَّ عند القوم نوعُ حقوقٍ للإنسان، ولكنها تخبُوا بل تكاد تزول في وقت المحن، وليس الحليمُ من ابتسم وقت الرضا، ولكنَّ الحليم من كتم غيظه وقت الغضب، وهذه الحقوق مكفولةٌ لمن كان على أرضهم أما من عدا ذلك فليس له حقوق أبدا.
وأكثر ما تشدقوا به هو الحريةُ الشخصية، والتي وصلت بهم إلى التخبط في الشهوات حتى نزلت بهم الأمراض النفسية والعضوية وقتلتهم الأوبئة، ولم يبقَ هناك أي شيء محترم, فهم يسبون الله علانية ويسخرون من دينهم حتى كُتبت القصص ومثِّلت الأفلام في السخرية من المخلص عيسى عليه السلام.
أما العالم الكئيب المسمى بالثالث حيث التخلف التقني والحضاري والإنساني, فلا قيمة للإنسان فلا يكاد يتمتع بحق من الحقوق، فهو مراقَبٌ في كل وقت وعلى كل حال وحتى أنفاسه معدودة عليه، وويل له ثم ويل له لو ارتكب ما قد يظن أنه خطأ فعند ذلك سيدعو ثبورا ويصلى سعيرا، فتُفتحُ أبوابُ الجحيم حيث قانون الطوارئ، فالقبض العشوائي، ومحاكم التفتيش، وسلخ الرجال وجلد النساء، وإهانة كل معنىً للإنسانية وخطف كل ابتسامة صادقة، وقد تناقل الناس رواياتٍ وأخبار وصور ومشاهدَ لبعض من رُمى بهم حضهم العاثر تحت يد الزبانية, حتى صارت خمسُ دقائقَ تحقيقٍ تسعَ سنين في الأقبية تحت الأرض، وفي صورة مفزعة تناقلها الناس عبر الشبكة العنكبوتية فيها عشرات السجناء ينام بعضهم فوق بعض وكأنهم أحقر الحشرات، وأحكام بالسجن تنتهي ولا يخرج السجين بل يُتحفظ عليه أياماً مديدة وسنين طويلة لعله أن يتوب أو يؤب ويعبد الرئيس حق العبادة.
أما حقوق التعبير فلا تسال عنها فليس لها مكان في هذا العالم، ولا تسأل عن حقوق العبادة فقد بلغ الأمر ببعض الدول أن جعلت المصلي مكانه السجن؛ بل لا صلاة إلا ببطاقة، ومن وضعت خِرقةً على رأسها فمكانها السجن وتهدد بالاغتصاب لعلها أن تتعقَّل، وإذا سُمح بالتعبير فلا يُسمح إلا لفئام يسبحون بحمد النظام الحاكم، ويسوغون له قهر الشعوب فوق قهرها،و لا مانع من سب الدين ولعن الصحابة والتابعين، فبات القهرُ والخوفُ هو السمة الغالبة لبني الإنسان.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين....
عباد الله: لم يمر على الإنسانية من حفظ للناس حقوقهم مثل الإسلام، وليس هذا مجال للتتبع ولكن أذكر شيئا منها على عجل، أولها حقُّ التعبير بلا وجلٍ ولا خوف، فهذا الصحابي الجليل يُظهر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قراره العسكري لم يكن صوابا فقال بكل أدب: أهو وحيٌ من الله فنسمعُ ونطيعُ أم المكيدةُ والحرب؟ فقال "بل المكيدة والحرب" فقال:فالخرج إلى بدر.. الخ القصة المشهورة.
ولم تكن هذه الحرية مكفولة في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط بل كُفلت للأمة من بعد ذلك, فقد روي أن عمر بن الخطاب جاءته بُرود من اليمن ففرقها على الناس بُرداً بُرداً؛ ثم صعد المنبر يخطب وعليه حُلَّةٌ منها - والحلة ثوبان - فقال: "اسمعوا رحمكم الله"! فقام إليه رجل من القوم فقال: "والله لا نسمع، والله لا نسمع"، فقال:" ولم يا عبد الله؟! قال" "لأنك يا عمر تفضلت علينا بالدنيا، فرقت علينا برداً براً وخرجت تخطب في حلة منها"، فقال. "أين عبد الله بن عمر؟" فقال:" ها أنا يا أمير المؤمنين"، فقال: لمن أحد هذين البردين اللذين عليّ؟ قال "لي"، فقال للرجل: "عجلت يا عبد الله، إني كنت غسلت ثوبي الخَلِق, فاستعرت ثوب عبد الله"، قال: "قل الآن نسمع ونطيع".
ولم تحترمْ حقوق الإنسان المسلم فقط بل شملت حتى الكافر، وقد أظهرها عمر بأحسن صورها يوم أن لطَم ابنُ أحد الأمراء مصرياً قبطياً, فقال عمر بن الخطاب قولته الخالدة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"
وبعد ذلك بمئات السنين يقف شيخ الإسلام أمام طاغية من الطواغيت وهو حاكم التتر ويزجره على اعتقال أعداد من المسلمين, فيقرر الإفراج عنهم فيقول: "وكذلك أهل الذمة لابد من إخراجهم".
عباد الله: الحرية غريزة فطرية ومفهوم رائع تلتقي عنده المشاعر وتتجاوب معه العواطف وتتطلع إليه النفوس، وهي ليست شيئاً ثانوياً في حياة الإنسان بل حاجةٌ ملحّة وضرورةٌ ماسّة من ضروراته، باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن إرادته وترجمة صادقة لأفكاره.
الحرية في الإسلام ليست حريةً متأرجحةً هشةً أو عشوائيةٍ غائمة، وإنما تنطلق من أسسٍ وقواعدَ ثابتةٍ ورئيسية لا ترتكز عليها الحرية فحسب؛ بل النظام الإسلامي بأسره, وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول: إن المرتكزات التي تقوم عليها الحرية في الإسلام هي من أقوى الأسس والقواعد التي تقوم عليها فكرة أو مفهوم ما في أي نظام آخر. فالإسلام لا ينظر إلى الحرية كشيء كمالي ولا يعتبرها أمرا مزاجياً خاضعاً للذوق والرغبة، بل أقامها على أصوله واعتبرها جزءاً لا يتجزأ من مبادئه. بل إن الباحث المتتبع ليشم رائحة الحرية من كل التشريعات الإسلامية والمناهج التي وضعها في شتى مجالات الحياة، والإسلام الذي أعطى الحرية للإنسان حماها في نفس الوقت من كل عبث, إذ ربطها بحقوق وضوابط وتشريعات تنظم هذه الحقوق, وتحفظُ لها حرمتَها بوعي وحرص، وهذه التشريعات هي الذي تجعل الحرية لا تنقلب إلى فوضى فتضرَّ صاحبها قبل أن تضر المجتمع .
ولعلنا أن نقف في خطبة قادمة عن حقوق المرأة في الإسلام فقد شوهت هذه الحقوق كثيرا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي