أخذ الله تعالى عليهم الميثاق للقيام بجملة من الشرائع من أجلها وأعظمها الصلاة، ووعدهم بتكفير سيئاتهم، وإدخالهم الجنة إن وفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه.
الحمد لله رب العالمين؛ هدى عباده إلى دينه القويم، ودلهم على صراطه المستقيم، فمنهم من قَبِلَ عن الله تعالى هداه فكان من المهتدين، ومنهم من زاغ عنه فحقت عليهم الضلالة (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) [الأنعام:161] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ فرض علينا من الفرائض ما يصلحنا في الدنيا، وينجينا في الآخرة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جعل الله تعالى قرة عينه في الصلاة، فيرتاح بها، وإذا حزبه أمر فزع إليها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه واعلموا أن أعماركم مستودع أعمالكم، وأن أعمالكم لا تنتهي إلا بموتكم، فلا تتركوا العمل بعد رمضان؛ فإن الله تعالى يعبد في كل زمان ومكان (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ) [الحجر:99].
أيها الناس: خلق الله تعالى الخلق لعبادته، وشرع لهم من الدين ما يقربهم إليه، وينجيهم من عذابه، وشرائع الله تعالى متنوعة متفاضلة: فمنها ما يجب في العمر مرة واحدة كالحج، ومنها ما يجب في الحول كالزكاة والصيام، ومنها ما يعود في الأسبوع كالجمعة، ومنها المتكرر في اليوم والليلة كالصلاة، وما شرع الله تعالى هذه الشرائع إلا لمصالح العباد في معاشهم ومعادهم.
والصلاة المفروضة أمرها عظيم، وشأنها كبير، وهي عمود الإسلام، وآخر ما يفقد الناس من دينهم.. هي الشعيرة الظاهرة المتكررة في اليوم والليلة، يتميز بها المسلم عن غيره.. هي برهان الإيمان، ودليل الإسلام، وما كان الصحابة رضي الله عنهم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، ولو علم الناس ما في الصلاة لحافظوا عليها، وما تهاونوا بها، ولا انشغلوا بغيرها عنها.
إن الصلاة أجلُّ عمل يُتَقرب به إلى الله تعالى، قد جمعت من الأقوال أجلها وأعلاها، ومن الأفعال أكثرها ذُلّاً وخضوعا لله تعالى، مع ما فيها من أعمال القلب، كالتدبر والخشوع والرجاء والخوف والمناجاة، ولا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتركها إلا كافر أو منافق، وهي أحب الأعمال إلى الله سبحانه..
وفي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى يصلون له فيقنتون ويركعون ويسجدون وفي حادثة الإسراء والمعراج قال النبي عليه الصلاة والسلام: " فَرُفِعَ لي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلْتُ جِبْرِيلَ، فقال: هذا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فيه كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إذا خَرَجُوا لم يَعُودُوا إليه آخِرَ ما عليهم " رواه الشيخان واللفظ للبخاري.
والصلاة أهم أعمال الأنبياء عليهم السلام، وأولى شيء دعوا الناس إليه بعد توحيد الله تعالى؛ ولذا جاءت في شرائعهم، وأثنى الله تعالى بها عليهم، ودعاهم إليها، وبشر بعضهم بمرادهم فيها.
وقد جاء في الحديث ما يدل على أن الأنبياء قبل النبي عليه الصلاة والسلام قد فرضت عليهم الصلاة، وأنهم كانوا يصلون في أوقات وقتها الله تعالى لهم؛ كما روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّنِي جِبْرِيلُ عليه السَّلاَمُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قال: يا محمد، هذا وَقْتُكَ وَوَقْتُ النَّبِيِّينَ قَبْلَكَ" رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة.
وفي القرآن الكريم ما يدل على أنهم عليهم السلام كانوا يسجدون لله تعالى، والسجود من أعظم أركان الصلاة وأخصها (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم:58] ثم لما أثنى سبحانه وتعالى عليهم ذم الخلوف التي تضيع الصلاة (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:59].
وشعيب عليه السلام كان مصليا، وأنكر قومه عليه ما يدعوهم إليه من الإيمان وقالوا: (يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) [هود:87].
وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما وضع هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام في مكة وهي مقفرة دعا الله عز وجل أن تُعْمَر ويئوب الناس إليها، وتجبى إليها الثمرات والأرزاق، وعلل دعوته بإقامة الصلاة فيها، فقال عليه السلام (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37] قال محمد بن نصر رحمه الله تعالى: "ولم يذكر عملا غير الصلاة، فدل ذلك على أنه لا عملَ أفضلُ من الصلاة ولا يوازيها" .اهـ
وهذا يدل على فخامة الصلاة، وعظيم شأنها، وعلو مكانتها، وأن من مقاصد بناء البيت الحرام إقامَ الصلاة فيه وإليه، واستجاب الله سبحانه دعوة الخليل عليه السلام؛ فمن يفدون إليه منذ دعوة إبراهيم عليه السلام إلى قيام الساعة لا يحصيهم إلا الله تعالى، ومن يؤمونه في هذا الزمن من شتى البقاع للصلاة فيه خلق كثير جدا، لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا سيما في المواسم الفاضلة كرمضان والحج، وعيسى عليه السلام حين ينزل في آخر الزمان سيقصد البيت الحرام حاجا أو معتمرا، ومصليا فيه.
بل إن الله تعالى ذكر أن إقام الصلاة مقصد من مقاصد بناء البيت الحرام، وتطهيره من عبادة غير الله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125] وفي الآية الأخرى (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26] والقائمون هم المصلون كما قال قتادة رحمه الله تعالى.
ومن عظيم أمر الصلاة أن الخليل إبراهيم عليه السلام دعا ربه لنفسه ولذريته من بعده بإقامتها؛ فمن أصابته دعوة الخليل وفق لها، فأقامها، وحافظ عليها، ومن لم تصبه لم يوفق لها، ولم يحافظ عليها. قال إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) [إبراهيم:40].
وخلف إبراهيمَ عليه السلام في البيت الحرام ابنُه الذبيحُ إسماعيلُ عليه السلام، وكان من المصلين، الآمرين بالصلاة، أثنى الله تعالى عليه بذلك فقال سبحانه: (وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم:54-55].
كما خلف إبراهيمَ عليه السلام في بيت المقدس ولدُه إسحاقُ وآلُه عليهم السلام، وقد كانوا أئمة مصلين، قال الله تعالى ممتنا عليهم (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73].
ومن نسل إسحاق عليه السلام بُعث الكليم موسى عليه السلام، فاصطفاه ربه عز وجل برسالاته، واختصه بكلامه؛ فساقه إلى الوادي المقدس، فأمره سبحانه بعبادته، ونص على الصلاة بخصوصها -وإن كانت داخلة في مسمى العبادة- وما ذاك إلا لعظيم شأنها عند الله تعالى (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه:11-14].
ولما اشتد أذى فرعون وجنده على بني إسرائيل لم يرخص الله تعالى لهم في ترك الصلاة اتقاء للعذاب، بل أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام أن يتخذا من بيوت بني إسرائيل مكانا للصلاة بدل البيع والكنائس، وأمرهم بها (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) [يونس:87].
وفي المناظرة الكبرى بين موسى والسحرة لم يُلْهَم السحرةُ بعد توبتهم طاعةً يرجعون بها إلى الله تعالى ويترضونه بها ظنا أن يغفر لهم عما كان منهم إلا السجود وهو أعظم هيئات الصلاة قال الله عز وجل (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الشعراء:46-48] فعفروا وجوههم في التراب خضوعا لله تعالى، فلم يجعل الله تعالى لهم مفزعا إلا إلى الصلاة مع الإيمان به، وهي مفزع كل منيب.
ومن أنبياء بني إسرائيل زكريا عليه السلام، سأل الله تعالى الولد، فبشر به وقد بلغ من الكبر عتيا، وجاءته البشارة به وهو يصلي (فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:39].
قال ثابت البُنَاني رحمه الله تعالى: " الصلاة خدمة الله تعالى في الأرض ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة ما قال: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب" .اهـ
ومريم عليها السلام لما بُشرت بتطهير الله تعالى لها، واصطفائه لها على نساء العالمين أُمرت بالصلاة؛ لأن الاصطفاء لا يناله إلا من يستحقه، وكانت مريم ممن يستحقه؛ طاعة لله تعالى، وكثرة ركوع وسجود (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران:43].
لقد كانت مريم عليها السلام كثيرة التعبد لله تعالى كثيرة الصلاة، قد اتخذت لها محرابا عرفت به، لا تكاد تبارحه من كثرة صلاتها وتعبدها، ورزقها يساق إليها في محرابها؛ كرامة من الله تعالى لها (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37].
أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا المحافظة على ما به يرضى عنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله ...
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وثقلوا موازين حسناتكم بالأعمال الصالحة، وخففوا موازين سيئاتكم باجتناب المعاصي (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف:8-9].
أيها المسلمون: تتابع رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام على العناية بالصلاة، والاهتمام بها، وجاءت بها شرائعهم، وأوحى الله تعالى إليهم بها؛ حتى كانت الصلاة مما أجمعت عليه الشرائع.
ومن أولي العزم من الرسل بُعِث عيسى بعد موسى عليهما السلام، وتكلم في المهد آية من الله تعالى؛ ليدرأ عن أمه عليها السلام أي تهمة، وأخبر أن الله تعالى قد اصطفاه بالنبوة، وآتاه الكتاب، وأوصاه بالصلاة، والوصية إنما تكون بما هو مهم، وهذا يدل على عظيم أمر الصلاة عند الله تعالى؛ إذ وصاه الله تعالى بها (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آَتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم:29-31].
ونبي الله تعالى داود عليه السلام لما جاءه الخصمان للحكم بينهما تسورا عليه محرابه، وهو مكان عبادته وصلاته، وهذا يدل على أنه كان كثير الصلاة (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) [ص:21-22].
ثم لما أخطأ عليه السلام فحكم بينهما وقد سمع حجة أحدهما دون الآخر، وعلم أن الله تعالى قد ابتلاه بهما، وأراد التوبة من ذلك؛ لم يجد لتوبته مفزعا إلا إلى الصلاة، قال الله تعالى واصفا إياه (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) [ص:24].
وورث الملك من بعده ابنُه سليمانُ عليه السلام، وكان محبا للخيل حبا شديدا، فعُرضت عليه فانشغل بها حتى فات وقت الصلاة، فتنبه وأَسِف لذلك، فأمر بإرجاعها وهي أحب ما تكون إليه، فعقرها وضرب أعناقها لأنها شغلته عن صلاته (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ) [ص:30-33].
وقد سخرت الجن لخدمته وطاعته، فلما قبضه الله تعالى إليه قبضه وهو قائم يصلي قد توكأ على عصاه، فما علمت الجن بذلك إلا لما أكلت الأرضة عصاه فخرَّ إلى الأرض (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ) [سبأ:14].
ويونس عليه السلام نجاه الله تعالى من بطن الحوت بكثرة تسبيحه وصلاته (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصَّفات:143-144] قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان من المصلين، وقال قتادة رحمه الله تعالى: كان كثير الصلاة في الرخاء فنجاه الله تعالى بذلك.
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى أمروا بالصلاة مع التوحيد؛ كما قال الله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) [البيِّنة:4-5].
وأخذ الله تعالى عليهم الميثاق للقيام بجملة من الشرائع من أجلها وأعظمها الصلاة، ووعدهم بتكفير سيئاتهم، وإدخالهم الجنة إن وفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [المائدة:12] .
ثم كانت الصلاةُ في الإسلام ثانيَ أركانه بعد الشهادتين، وأعظمَ عملٍ يَتقربُ به العبدُ لربه جل جلاله، وكلَّم اللهُ تعالى بها نبيَه محمدا عليه الصلاة والسلام لما عُرج به إلى السماء، ولم يكن بينه عز وجل وبين نبيه عليه الصلاة والسلام أيُّ واسطة في فرضها، وهذا يدل على عظيم شأنها في الإسلام، وعلو منزلتها.
وإذا كانت الصلاة كذلك في كل الشرائع الربانية، وقد توارد الرسل عليهم السلام كلهم على العناية بها، حتى كانت شريعة خاتمهم عليه الصلاة والسلام التي تكررت الصلاة فيها خمس مرات في اليوم والليلة.إذا كان الأمر كذلك فهل يليق بأتباع الرسل عليهم السلام أن يفرطوا فيها، أو يتهاونوا بها، أو يخلوا بما يجب لها؟! والله تعالى قد أمرنا بالاقتداء برسله عليهم السلام (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90].
وتعظيمُ أمر الصلاة، والعنايةُ بها، والمحافظة عليها، والإتيان بما يجب لها هو من الاقتداء برسل الله تعالى الذين دلَّت قصصهم في القرآن الكريم على تعظيمهم لقدر الصلاة، وعنايتهم بها.
إن المساجد في رمضان كانت تكتظ بالمصلين، وهكذا في كل عام، ولكن ما إن ينتهي رمضان حتى يتهاون كثير من المسلمين بالصلاة، فربما هجروا المساجد، أو أخروا الصلاة عن وقتها، وهذا من التهاون بها، وهو يدل على عدم تعظيمهم لشأنها. ومنهم من يضيع فروضا ويأتي بفروض، ومنهم من يتركها كلية إلى رمضان القابل، وكل هذا من الخذلان والحرمان، وإلّا فهل يفرط فيما هو صلة بينه وبين ربه أحد؟!
ألا فاتقوا الله ربكم في صلاتكم، حافظوا عليها، وأقيموها في أوقاتها مع جماعة المسلمين حيث ينادى بها في المساجد، ولا تلهينكم عنها الدنيا؛ فإنها متاع الغرور.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي