لقد كان من جملة ما جاء به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الإتقان الذي يتغنى به العالم المتحضر اليوم، ولا يمكن لأي حضارة أن تنهض، ولا لأي بلد أن يتقدم ما لم تأخذ بهذا المبدأ العظيم الذي جاء به ديننا، ألا وهو مبدأ الإتقان في كل شيء، فالكون والعالم خلقه الله تعالى بإتقان وإبداع، فوصف الله نفسه بقوله...
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، يا ربنا لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد في الأولى، ولك الحمد في الأخرى، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بمحمد -عليه الصلاة والسلام-.
لك الحمد يا مستوجب الحمد دائمًا *** على كل حال حمد فـان لدائـم
وسبحـانك اللهـم تسبيح شاكر *** لمعروفك المعروف يـا ذا المـراحم
فكم لك من ستر على كـل خاطئ *** وكم لك مـن بر على كل ظالم
وجودك موجود وفضـلك فائـض *** وأنت الذي ترجى لكشف المظالم
وبابـك مفتـوح لكـل مؤمـل *** وبـرك ممنـوح لكـل مصـارم
فيا فالـق الإصـباح والحب والنوى *** ويـا قـاسم الأرزاق بين العوالم
ويا محصي الأوراق والنـبت والحصى *** ورمل الفلا عدًا وقطـر الغمائم
إليك توسـلنا بـك اغفر ذنـوبنا *** وخفف عن العاصين ثقل المظـالم
وحبب إلينا الحـق واعصـم قلوبنا *** من الزيغ والأهواء يا خير عاصـم
ومن علينا يـوم ينكـشف الغطـا *** بستر خطايانـا ومحـو الجرائـم
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك البر الرحيم الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنه، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فكم من ذنب غفره، وكم من عيب ستره، وكم من مريض شفاه، وكم من صاحب عثرة أقال عثرته، سبحانه وبحمده هو البر الرحيم الغفور الودود سبحانه وجل شأنه.
مقيـل العاثـرين أقـل عثـاري *** وخذ لي من بني زمـني بثاري
وجـمـلـني بعـافـية وعفـو *** من الأمراض والعلل الطواري
فـأنـت بنيتـها سبـعًا شـدادًا *** تزين جوها شهـب سواري
ومهـدت الأراضـي من وجـود *** وإغوار في عـمار أو قفـار
وسخـرت البحـار السبـع تجري *** بها الأفلاك من غـادٍ وسارِ
وأنشـأت السحـاب ولا سحاب *** وأجريت الرياح ولا جواري
وسخرت الشمس خلف البدر تسعى *** كسعي الليل في طرف النهار
وتعـلـم كـل خائـنة وتـدري *** دبيب النمل في ظلم المجاري
كـريــم مـنعـم بـر رؤوف *** مقيل العاثـرين مـن العثارِ
إلهـي عافنـي وأصـح جسـمي *** وصل واقبل برحمتك اعتذاري
وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين من ربه، أرسله الله تعالى على حين فترة من الرسل، هذا النبي الكريم الذي جاء في فترة اختلط فيها الحق بالباطل، وأساء الناس العمل وصاروا هملاً لا يدرون أين يمشون ولا أي منهج يسلكون، هذا النبي الكريم ما عاداه من عاداه إلا لأنه جاء يخالف أهواءهم ويخالف شهواتهم، فما من فئة قامت بوجهه إلا لأنه خالفها، إلا لأنه أراد أن ينتشلها من أحوال الرذيلة والظلم والظلمات إلى بر الأمان إلى منهج الله –تعالى- إلى رحاب الله تعالى الطاهرة، فما عادته قريش إلا لأنه جاء يخالف نهجها، وما عاداه اليهود إلا لأنه أتى بما يخالف دينهم، حتى قال أحدهم: ما من شيء إلا وخالفنا فيه هذا الرجل، وما عاداه النصارى إلا بسبب أنه خالف أهواءهم وجاء بمنهج غير منهجهم؛ لأنهم حرفوا أديانهم واتبعوا ضلالهم ممن حرف كلام الله تعالى، وما عاداه من عاداه اليوم إلا لهذا السبب نفسه وذاته وعينه؛ لأنه يخالف أهواءهم ويخالف ما هم عليه من الخنا والعهر والربا والقمار والظلم والظلمات وما شاكل ذلك، فرفعوا عقيرتهم بعدائه، ولكن المؤمن يفتدي رسوله الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بنفسه يهتدي بهديه، يستن بسنته، يدافع عنه وعن عرضه وعن أزواجه وعن أصحابه، حتى يلقى الله تعالى.
إمام المرسلين فـداك روحـي *** وأرواح الأئمـة والدعــاة
رسول العالمين فداك عـرضي *** وأعـراض الأحبـة والتقـاة
ويا علم الهدى يفديـك عمري *** ومالي يـا نبي المكـرمات
ويا تاج التقى تفـديك نفسي *** ونفـس أولي الرئاسة والولاة
فداك الكـون يا عطر السجايا *** فمـا للناس دونك من زكاة
فأنت قداسة إمـا استحـلت *** فذاك الموت من قبل الممات
ولو جحد البريـة منـك قولاً *** لكبوا في الجحيم مع العصاة
وعرضك عرضـنا ورؤاك فينا *** بمنزلة الشـهادة والصـلاة
رفعت منازلًا وشرحت صدرًا *** ودينك ظاهر رغـم العـداة
وذكـرك يـا رسول الله زاد *** تضاء به أسـاريـر الحيـاة
وغرسك مثمر في كـل صقع *** وهديك مشرق في كل ذات
وما لجنان عـدن من طـريق *** بغـير هداك يـا علم الهداة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن هذا النبي الكريم جاء بالقرآن العظيم الذي هو منهاج لحياة المسلمين في دينهم ودنياهم، وجاءت سنته -صلى الله عليه وآله وسلم- مكملة وشارحة ومبينة لما استُبْهِم من القرآن وإلى ما يحتاج إلى تفسير وإلى بيان فزادته إيضاحًا إلى وضوحه، وزادته نورًا إلى نوره: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3- 4].
لقد كان من جملة ما جاء به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الإتقان الذي يتغنى به العالم المتحضر اليوم، ولا يمكن لأي حضارة أن تنهض، ولا لأي بلد أن يتقدم ما لم تأخذ بهذا المبدأ العظيم الذي جاء به ديننا، ألا وهو مبدأ الإتقان في كل شيء، فالكون والعالم خلقه الله تعالى بإتقان وإبداع، فوصف الله نفسه بقوله" (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ...) [البقرة: 117]، أي مبدعهما على غير مثال سبق، صنع الله الذي أتقن كل شيء، فما من شيء إلا وهو في غاية من الإتقان، وأما الفساد والإفساد فإنما هو من صنع أيدينا نحن، من صنع المخلوقات التي تفسد هذا الكون، وما استخلف الله -جل وعلا- الإنسان في هذه الأرض إلا لما أفسدت الجن، جاء بآدم وذريته خليفة حتى إن الملائكة قالت: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 30]، فالله -جل وعلا- كان حكيمًا في أن جعل هذا الإنسان على ظهر الكون لأنه خلقه وجعل له عقلاً وبصرًا، وأنزل له الكتب وأرسل إليه الرسل من أجل أن يسير على هذا المنهاج الذي رسمه الله تعالى.
الله تعالى في محكم كتابه ذكر الإتقان وأمر به، وما خلق الله تعالى هذا الكون بإتقان وإبداع إلا من أجل أن يسير الناس على هذا النهج؛ فالإتقان ليس شعارًا يرفع، وليس في مجال دون مجال، ولكن في جميع المجالات، والتطبيق العملي هو الذي يشهد لهذا الإنسان بأنه متقن وبالآخر بأنه غير متقن؛ قال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195]، وقال سبحانه: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77]، فإحسان الله إليه بأن أعطاه الجاه والمال فصار مخربًا وصار مدمرًا وصار مفسدًا، هذا هو غاية الإفساد في الأرض، وإصلاحها لا يكون إلا بإتقان العمل، ولذلك ذكر الله تعالى أناسًا يعجب بعض الناس كلامهم ومنظرهم؛ قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205].
وقال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 11- 12].
هنالك اليوم فئام من الناس يفسدون في الأرض عبر سلوكيات وسن قوانين تفسد الحياة والسلوك والأخلاق والأبدان والأديان، وتفسد كل شيء، ومع هذا لو قيل له: اتّق الله ولا تفسد في الأرض، قال: إنما نحن مصلحون، إذا قلت لهم: أغلقوا بنوك الربا فهي حرب لله ولرسوله قالوا: إنما نحن مصلحون، إذا قلت لهم: اتركوا القروض الربوية التي تجعل البلدان مرتهنة لدول الغرب قالوا: إنما نحن مصلحون، إذا قيل: أصلحوا الإعلام قالوا: هذا هو عين الإصلاح، إذا قيل لهم: أفسدتم التعليم قالوا: هذا هو الإصلاح، فلا يعترفون بأنهم أفسدوا في الأرض أيما إفساد.
السنة النبوية -أيها الكرام- جاءت كذلك تأمر بإتقان العمل: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". ومن هذا الإتقان ما نجده حتى في أشياء جزئية قد لا يظن الظان أنها من باب الإتقان في العمل كما قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله...". إلا من باب الإتقان؛ فلا يصلح أن يتقدم إمام يصلي بالناس وهو لا يتقن القرآن، ولما شرع الله تعالى الأذان أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بلالاً أن يؤذن دون غيره من الناس، فما اختاره وما اصطفاه لأمر ما ولكنه قال: إنه أندى صوتًا -أي أرفع صوتًا-، وكان متقنًا، فكان هو مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكان هو أول مؤذن في الإسلام، بل حتى في تكفين الميت قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه...".
حتى في هذه اللحظة الأخيرة من حياة هذا الإنسان يجب أن يحسن كفنه؛ لأن حياة المسلم كلها إتقان فهو سمة وعلامة وأخلاق من خلق المؤمن، وما حدث الانتكاس في حياة بعض الناس فصاروا مفسدين إلا لخلل في الإيمان، إلا لخلل في المعتقد، فما تجد إنسانًا أخل بالإتقان إلا وعنده ضعف في دينه وضعف في عقيدته وضعف في إيمانه، أدى إلى أنه صار من جملة المفسدين؛ لأن الارتباط وثيق بين الإيمان وبين الأعمال، بين الإيمان وبين الأخلاق، بين الإيمان وبين إتقان هذه الأعمال، ارتباط وثيق، ولهذا فإن الكافر هو أكبر مفسد على ظهر الأرض للأسف الشديد أننا نسمع في إعلامنا ونرى ونقرأ ترغيبًا للناس في أن يتقنوا العمل، كما أتقن اليهود والنصارى أعمالهم، ونسينا أن نربط هذه القضية بإيماننا، فإتقاننا -معاشر المؤمنين- ذو شقين: إتقان دنيوي وإتقان مربوط بالآخرة يؤجر عليه الإنسان، أما أولئك فإتقانهم دنيوي محض لا يؤجرون عليه.
إن الإتقان لا يقل أهمية عن أهمية أي عبادة من العبادات، فالإتقان عبادة شريفة ينال عليها الإنسان أجرًا عظيمًا، ويرفع بها الدرجات العلا في الدنيا والأخرى، ولهذا قد يصدق أحيانًا قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو في هذه الآونة الأخيرة ظاهر للعيان؛ قال: "إنما الناس كالإبل المائة؛ لا تكاد تجد فيها راحلة".
اذهب إلى أي مؤسسة من المؤسسات ستجد أن المتقنين قلة، ولا نغالط أنفسنا، وهي أقل كما يقال من الشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، فغالبًا هذا المتقن تجده منبوذًا مبغضًا في إطار مؤسسته، مكروهًا لأنه لا يسير على منوالهم ولا على طريقتهم، وهذه سنة الله -سبحانه وتعالى-، فإذا كان عودي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لهذا السبب فإن من أتقن وتخلق بالأخلاق الفاضلة في مجتمع يعج بالمخالفات، فإنه لا يشك أنه يُنبَذ، ولماذا اليوم العلمانيون واللبراليون يرفعون عقيرتهم على من تمسك بدينه هنا وهناك؟! هذا لأن هؤلاء أخذوا بالإتقان وأخذوا بزمام المبادرة، وأرادوا أن يثبتوا للناس الخلق السويّ في هذا الجانب، وأن يعملوا ببلدانهم، فتجدهم يرمونهم عن قوس واحدة، وينبذونهم بأقبح الألقاب التي تنفر الناس عليهم، وهذا ليس لشيء، فهؤلاء الناس قد عاشوا في بيئات أفسد ما يكون، ومع هذا لم يسمع لهم صوت فيما مضى عاشوا دهرًا، وما سمع لهم قول، ولا مواجهة، ولكنهم اليوم يرفعون عقيرتهم، وسيخسؤون بإذن الله تعالى.
أيها الكرام: إن العمل ليس المطلوب منه أن يكون صحيحًا فحسب، بل يجب أن يكون متقنًا، ولذلك علمنا -صلى الله عليه وآله وسلم- أعمالاً بالقول وبالفعل حتى تتقن، ومنها الصلاة؛ حيث قال: "وصلوا كما رأيتموني أصلي"، وحج وأمر الناس أن يأتموا به وقال: "لتأخذوا مناسككم".
بل إن الله تعالى قد قال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
إذًا الإتقان ليس في جانب الأعمال الدنيوية فحسب، بل يجب أن تكون عامة في عباداتنا وطاعاتنا في سلوكنا، لابد من هذا الإتقان، فالإنسان المتقن في أخلاقه هو الذي يتخلق بالأخلاق العالية، أخلاق الكبار، والمفسد هو الذي يفسد نفسه بارتكاب الأخلاق الدنيئة، المتقن في صلاته هو الذي يصلي كصلاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، المتقن في عقيدته هو الذي يعتقد ما اعتقده رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهكذا قل في كل أمر وفي كل شيء، فالإتقان مطلوب في حياة المسلم، بل هي سمة أساسية في حياته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
أيها الإخوة الكرام: في وقت يبتعد كثيرًا من الناس، عن دينهم، ويضعف الإيمان، يظهر الفساد ويفشو، وتجد أكثر الناس يرى الفساد ويستمرئه، يتعاطى معه وكأن الأمر لا يعنيه، وأحسن واحد من هؤلاء من يسكت، وإن كان سكوته أمرًا مخالفًا لأمر الله تعالى، فالإفساد والفساد من المنكرات التي يجب أن ينهى عنها، وإن الله تعالى ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فإن كثيرًا من الناس ربما يقرأ القرآن والسنة، ويقرأ صفات الفاسدين والمفسدين وكأنه يقول: هذه لا تعنيني، هذه تعني أناسًا قد مضوا وانقضوا، أو تعني غيري، القرآن يخاطب الجميع، يخاطب الفرد كما يخاطب الجماعة، إذًا لابد من العودة إلى هذا النهج القويم والخلق المستقيم، ولابد من إشاعته وتحفيزه في النفس.
فنعود إلى الإتقان في العمل مرة أخرى إذا كنا نريد أن ننهض بأنفسنا، ومن لا ينهض بنفسه، فإنه لا يمكن أن يأتي شخص من أجل أن ينهض به إلا أن يشاء الله -سبحانه وتعالى-، فالتغيير أولاً لابد أن يكون من الداخل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53].
في حال ترهل قبضة الدولة وقبضة النظام في أي بلد من البلاد يظهر الفساد وينتشر الفساد، فبعض الناس اليوم على سبيل المثال يقول: الفساد اليوم صار أكثر من ذي قبل، صحيح هذا الكلام، السبب في هذا أن هذه الحالة طبيعية في مثل هذه المراحل أن يكثر الفساد لترهل قبضة الدولة والقانون، فتجد مثل هذا الفساد ينتشر ويظهر إقلاق الأمن، سمعتم ورأيتم بالأمس بواخر من الأسلحة تضخ إلى داخل البلد من أجل زعزعة الأمن والاستقرار، وآسف كل الأسف لأناس يدعون حب اليمن وعندهم غيرة على وطنهم أنه إذا ذكرت إيران غاضوا وغضبوا، غضبتكم يجب أن تكون لله تعالى ثم من أجل هذا البلد، إلى أين كانت ستذهب هذه الأسلحة؟! الإجابة عندكم، أيريدون إصلاحًا أم يريدون إفسادًا؟! على كل إنسان أن يكون حصيفًا وأن يعرف صديقه من عدوه، وأن يعرف من يريد الصلاح ومن يريد الفساد، كذلك -أيها الإخوة- مرافق الدولة لا تقوم بواجبها كما يلي، والسبب في هذا انتشار الفساد فيها، الرشوة صارت متضاعفة، إذا دخل أي إنسان إلى أي مؤسسة من المؤسسات ينهشونه منذ أن يطأ قدمه باب المؤسسة، كل إنسان يريد أن ينهشه من جهته، أهذا إتقان للعمل؟! أهذا إصلاح للعمل؟! لا تقوم كثير من المؤسسات بدورها، في بعض المستشفيات انتشرت بكتريا في أقسام الحرائق، فأدت إلى وفيات، مم هذا؟! أولئك الذين يتاجرون بحياة الناس وأرواح الناس، في الشوارع انقلب الجميع إلى أطباء يعالجون من الروماتيزم ومن آلام البطن ومن آلام كذا وكذا، أناس عوام ليس عندهم سوى أكياسٍ اللهُ أعلم ماذا عبؤوا فيها، أين دور السلطة المحلية؟! أين دور مكتب الصحة؟! أين دور الأمن؟! انتشرت الخرافة وانتشر الضلال.
كنا قد ذكرنا لكم حالة تلك الطفلة ذات السبع السنوات، اليوم صار الناس عندها بالآلاف طوابير بالسيارات، كما نقول: مسبعين مربعين، منتظرين دورهم بعد عشرين يومًا، بعد خمسة وعشرين يومًا، أين ذهبت عقول الناس؟! بل للأسف الناس يأتون إليها من السعودية ومن عمان ومن الكويت ومن أماكن متباعدة، سبحان الله تعالى؛ طفلة صغيرة لا تعرف أن تركب جملة مفيدة فكيف لها أن تكون طبيبة أو مداوية بالأعشاب، إن الأعشاب التي تعطيها لكثير من الناس هذا عبارة عن وسيلة لدجلها وشعوذتها وسحرها وكهانتها التي ربما يكون وراءها ما وراءها، يجب على السلطة المحلية أن تقوم بدورها وأن توقف مثل هذا الفساد من خلال إتقانهم للعمل، فطب الأعشاب طب كبير يحتاج إلى عمر من أجل دراسته كما يدرس الطبيب في الجامعات، سواء داخل البلد أو خارجه، أما أن يقال كلام متناقض، معها روحانيون، معها جن مسلمون، معها جن يهود... إلى آخره، تجمع الأعشاب بالليل يومين في الأسبوع، تغيب، كل هذا دجل ينتشر للأسف الشديد في محافظة يفخر أبناؤها أنها عاصمة الثقافة، هل هذه من الثقافة؟!
للأسف الشديد نجد سكوتًا؛ فقد أفتى العلماء بالأمس بتحريم الذهاب إليها لأن هذا من باب الإفساد في الأرض، فيا أيها الكرام: إن تعاون الجميع على الإتقان هو الذي يمكن أن ينهض بالشعوب والبلدان والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي