عباد الله: العدل تواطأت على حسنه جميع الشرائع الإلهية، وحبه مستقر في النفوس والفطر، وهو أساس بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، هو باسط الأمن، ورافع أبنية العز والمجد، ولا يكون شيء من ذلك بدون العدل...العدل هو غاية الرسالات السماوية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد:25]...بالعدل قامت السموات والأرض، وللظلم يهتز عرش الرحمن، العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب، إذا...
الحمد لله يمنّ بالفضل، ويقضي بالحق، ويحكم بالعدل؛ إن ربي على صراط مستقيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الغفور الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث للأحمر والأسود، هدى بإذن ربه إلى أقوم طريق، وأعدل سبيل، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوه رحمكم الله، وأحسنوا فهو سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
عباد الله: العدل تواطأت على حسنه جميع الشرائع الإلهية، وحبه مستقر في النفوس والفطر، وهو أساس بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، هو باسط الأمن، ورافع أبنية العز والمجد، ولا يكون شيء من ذلك بدون العدل.
العدل هو غاية الرسالات السماوية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد:25].
بالعدل قامت السموات والأرض، وللظلم يهتز عرش الرحمن، العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب، إذا قام في البلاد عمر، وذا ارتفع عن الديار دمر، قال شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله :"الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة".
أيها الإخوة في الله: العدل في حقيقته تمكين صاحب الحق ليأخذ حقه، وفي أجواء العدل يكون الناس سواء، لا تمايز بينهم ولا تفاصل.
بالعدل يشتد أزر الضعيف، ويقوي رجاؤه، وبالعدل أمر القوي، ونقطع طمعه: (لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)[البقرة:279].
أيها الإخوة المؤمنون: إن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل، والخير والوسط، فهي قوَّامة على الأمم في الدنيا، شاهدة عليها في الأخرى.
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1- 3].
فأمة الإسلام مأمورة من الله بإقامة العدل: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [النساء:58].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].
فلا أعدل ولا أتم من شريعة الله الصالحة لكل أمة في كل زمان ومكان: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى:15].
عدل الإسلام أيها الإخوة يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، والمرؤوسين والرؤساء.
عدل الإسلام ينتظم كل ميادين الحياة ومرافقها، ودروبها وشئونها، في الدولة والقضاء، والراعي والرعية، والأولاد والآهلين.
عدل في حق الله، وعدل في حقوق العباد، في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال، عدل في العطاء والمنع، والأكل والشرب، والصغير والكبير: "فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
وفي الحديث الآخر: "ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلا يعدل فيهم إلا كبه الله في النار" [أخرجه الحاكم وقال: صحيح].
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذي يعدلون في حكمهم في أهليهم وما ولوا" [رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: "حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً" لأن في إقامة الحد إقامة للعدل، وبه يكون الخير لأهل الأرض.
ولأهمية العدل، فقد ذكره الله تعالى في كتابه العزيز في نحوٍ من خمس وثلاثين آية، في سبيل الإيجاب، أو الترغيب، أو الترهيب من تركه، وبألفاظ مترادفة.
أيها المسلمون: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم عادلا في جميع شؤونه وأحكامه، هو أكرم البشر، وأعدل الناس، وليس مع الأصحاب والأحباب فحسب، بل مع الأعداء والأغراب، بل كان العدل صفة له صلى الله عليه وسلم قبل البعثة!.
فها هي قريش تختلف قبائلها وتتنافس فيمن يضع الحجر الأسود حتى كادت أن تقتتل، فحكموا أول داخل عليهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم بالعدل والقسط؛ فبسط رداءه، ووضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن تأخذ بطرف منه، فرضوا، وحق لهم أن يرضوا بحكم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ولما قدم الأراشي بإبل له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل، وأراد أن يظلمه ويجحده الثمن؛ مع أن الرجل غريب ولا يعرف أحداً، ومن ذا الذي يقدر أن يأخذ له حقه من زعيم قريش؟!
فدُل الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ له حقه من أبى جهل، دُل على النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم، وغاب عنهم قوه محمد في أخذ الحق لأهله وإقامة العدل، فاقبل الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في أول بعثته صلى الله عليه وسلم، جاءه ليقضي بما جرى له ويستنجده، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وخرج، حتى جاء بيت أبى جهل، فضرب عليه الباب، فقال: من هذا؟ قال: محمد، فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم، خرج إليه أبو جهل وقد تغير لونه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعط هذا الرجل حقه" قال أبو جهل: لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فأعطاه حقه، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرف الرجل.
فلم يكن صلى الله عليه وسلم ليحكم بالعدل على غيره وينسى نفسه، حاشاه صلى الله عليه وسلم، فقد استدان من يهودي، فتأخر في السداد لعسر ألمّ به صلى الله عليه وسلم ، فجاء اليهودي يطالبه، ويغلظ في الطلب، وأمسك بثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فشده حول رقبة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جحظت عيناه، فهمّ عمر رضي الله عنه أن يهوي عليه بالسيف، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: لقد كنت يا عمر جديراً بغير هذا، كنت جديراً أن تأمرني بحسن السداد، وتأمره بحسن الطلب.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً، فقال: "يا أيها الناس: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد" -هذا الجاهلية من قديم ومن حديث، فما هو قانون الإسلام؟ ما هو حكم محمد صلي الله عليه وسلم؟- قال: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها".
الله أكبر! ما أعظمه من عدل، وما أحكمه من شرع، وما أصدقه من نبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة: هكذا عدل الإسلام، عدل في كل ميدان، وقسط يكفل الحق للناس، كل الناس ولو كان من غير المسلمين، ولو كان من الأعداء والمناوئين.
هذا هو العدل العالمي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، مكيال واحد، وميزان واحد، وحكم ثابت على القريب والبعيد، لا كما هو الوضع اليوم عند أمم آتاها الله بسطة في القوة والسيطرة، فما أقامت عدلاً، ولا حفظت حقاً، فويل لهم مما يطففون، إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون، وإذا كالوا لغيرهم، أو وزنوا يخسرون.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: كان ذلك عدل محمد صلى الله عليه وسلم، فهل تعجب حين ترى تلك النماذج الرفيعة لتطبيق العدل الرباني على يد الصحابة رضوان الله عليهم؟ وهم ممكنون في الأرض أصحاب سلطان لا يدانيه في ذلك الوقت سلطان ؟!
لا عجب!
فقد تسابق ابن عمرو بن العاص والي مصر مع شاب قبطي فسبقه القبطي، فضربه ابن عمرو بن العاص ضربة بالعصا، وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين، فما كان من والد الشاب القبطي إلا أن رحل إلى المدينة ليشكو إلى عمر رضي الله عنه ضرب العصا.
وإلى هنا .. وهناك ما يستوقف النظر: فقد كان الأقباط يعيشون تحت الحكم الروماني في ذل مرير، يعذبون وينكل بهم، وكان الضرب بالسياط أمرا مألوفا عند الأقباط، ولم يكن الأقباط يشكون! فلمن يشكون إذا أرادوا؟!
أما اليوم فيسافر الرجل آلاف الأميال ليشكو ضربة عصا على ظهر ولده الشاب! فما دلالة ذلك؟
إنه دلالة العدل الذي كان سائداً ومطبقاً، على يد عمر رضي الله عنه وأرضاه.
العدل الذي لمسة الأعداء، ورأوه وقعاً لا كلاماً، جاء القبطي وشكى إلى عمر، فأمر عمر بالقصاص، أو أعطى الرجل عصا، وقال للقبطي: اضرب ابن الأكرمين! ثم التفت إلى واليه عمرو بن العاص، وقال له كلمته المشهورة الخالدة: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!
لم يكن ذلك القصاص من مسلم لمسلم، ولا من عربي لعربي، فيقول الناس عدل، ولكنه العدل الرباني الغير مستغرب على ذلك الجيل الفريد.
وسُرقت من علي رضي الله عنه درع، فوجدها عند يهودي، فقاضاه إلى قاضيه شريح، وعلي يومئذ هو الخليفة، ومع هذا لم يلجأ إلى سلطان الخلافة، فيأخذ درعه بالقوة من اليهودي، فضلاً عن أن يأمر باعتقال السارق الأثيم "رهن التحقيق"، وإنما يلجا إلى القضاء، وهذا هو العدل..
فنادى شريح أمير المؤمنين: يا أبا الحسن، ولم يكنّ اليهودي، فغضب علي رضي الله عنه، غضب لخصمه اليهودي، غضب للحق والعدل، وقال للقاضي: إما أن تكني الخصمين معاً، أو تدع تكنيتهما معاً!
ثم سأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته، فقال علي رضي الله عنه: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب. فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فرد اليهودي متلاعباً: الدرع درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! فقال شريح: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟
أمير المؤمنين، وما كان علي رضي الله عنه ليكذب من أجل درع، ولم يغضب على القاضي، ويقول له: تطلب مني البينة وأنا أمير المؤمنين؟ بل قال: مالي بينة!
فكان موقف القاضي عظيماً؛ كموقف أمير المؤمنين، لقد حكم بالدرع لليهودي.
وأخذ الرجل الدرع، وهو لا يكاد يصدق، ثم عاد بعد خطوات ليقول: أمير المؤمنين يقاضي إلى قاضيه فيقضي عليه؟ إن هذه أخلاق أنبياء!.
أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجت من بعيرك الأوراق، فتبعها فأخذها.
هكذا فليكن القضاء، وبمثل هذا فلتكن الحياة، لا ظلم ولا محاباة، لا هوى ولا تزلف، لا قرابة تؤثر في الحكم، ولا مصاهرة، لا قوة ولا ضعف.
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى الله عنه، ولزمه الشيطان".
وفي رواية الحاكم: "فإذا جار تبرأ الله منه".
وعن معقل بين يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: سلطان غشوم ظالم، وغال في الدين يشهد عليهم، ويتبرأ منهم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه: إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله، وأبعدهم منه إمام جائر".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المائدة:8]
وصلوا وسلموا رحمكم الله على البشير النذير، والسراج المنير، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم......
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي