فالله هو الكبير في كل شيء لأنه أزلي وغني على الإطلاق, وهو الكبير عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول، وهو ذو الكبرياء الذي هو كمال الذات أي كمال الوجود, وهو الذي كَبُر عن المشابهة, والكبير هو العظيم في كل شيء على الإطلاق في ذاته وصفاته وأفعاله الذي تجلى عن مشابهة مخلوقاته، فالله أعظم وأكبر من مما يتصور العبد أو يتخيله...
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة ونشر الديانة، ونصح لهذه الأمة وكشف تعالى به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين راضيا مرضيا عنه، فجزاه الله خير ما جزا نبيا عن أمته وداعيا عن دعوته، وارض اللهم عن آل بيته الطيبين الأطهار، وعن صحابته الأئمة الأخيار، وارض اللهم عنا معهم برحمة منك يا عزيز يا غفار.
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة تقود صاحبها إلى النار، وخير الوصايا تقوى الله، وخير العطايا هداية الله.
عباد الله: البشرية اليوم تقف على أعتاب مرحلة حاسمة في تاريخها الإنساني، فهي الآن تعاني من أقصى درجات الانهيار النفسي والاجتماعي والثقافي والحضاري؛ فالأمراض النفسية والاجتماعية تكاد تعصف ببنية كثير من المجتمعات الغربية، ومعدلات الانتحار قد بلغت أعلى درجاتها في أوروبا وأمريكا؛ فمن كل مائة شاب في أوروبا ينتحر عشرون، وفي أمريكا ينتحر ثمانية عشر، والنسب قابلة للزيادة، وذلك رغم توافر شروط الحياة الناعمة والرفاهية الزائدة في هذه المجتمعات، ولكنها مع ذلك حائرة هائمة تائهة، والسر وراء ذلك كله هو بعد هذه المجتمعات عن دين الله وهداية السماء، ولو دخل نور الوحي إلى هذه القلوب لأضاء ظلمتها، وأزال حيرتها، ونجاها من مصير أليم.
ورغم التقدم العلمي والصناعي الذي عليه هذه الأمم إلا أنها تعيش حالة من الضياع النفسي والخواء الروحي؛ بسبب الفصام النكد بين حاجات النفس والجسد، فالنفس البشرية لها حاجاتها وغذاؤها مثل الجسد تماما، وغذاؤها الحقيقي في العلم بالله والفقه بأسمائه وصفاته، فلو لاحظت النفس البشرية لوجدت أن هناك توافق بين خصائصها وبين أسماء الله الحسنى ففي جِبِلَّتِها ميلاً للكبير، وفي جِبِلَّتِها إقبالاً على العظيم، وحين تصاب بكل أنواع الاضطراب وأنواع الضياع وأنواع التشتت فإنها تتبددُ إذا تعرفْتَ على الله -عز وجل- وتطمئن بعدها نفسك، وهذا هو الشاهد من قول الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [إبراهيم:28].
فهذه القلوب لا يزيل قلقها واضطرابها إلا ذكره، ولا يجلب أفراحها ولذاتها إلا اسمه؛ لأنها تدرك أنها تعيش في كنف كبير، ولا يضمن سعادتها وطمأنينتها إلا وحيه؛ لأنها تعلم تأوي إلى ركن شديد.
إن البشرية فطرها الله وجبلها على أن لا تخاف إلا الكبير، ولا تحترم إلا العظيم، ولا تحسب حساب أحد إلا الكبير، وهذا يقال حتى على نطاق الأفراد والدول؛ الكبير سواء كان كبره بماله أو بجاهه، أو حتى بكنهه وماهيته، وحديثنا بحول الله وقوته مع اسم من أسماء الله -عز وجل- للنفس البشرية به خصوص وعناية واهتمام زائد، وهو اسم الله الكبير، فمما جبلت عليه النفس البشرية، أنها لا تختار إلا الكبير، ولا تُقبِل إلا على كبير، ولا تُعجَب إلا بالعظيم، وهذا من خصائصها، لذلك كلما أدرك الإنسان عظمة ربه وكبرياءه وتعرف على الله أكثر ترتاح نفسه؛ لأنَّ فِطرته تميل طوعاً للكبير، واختيار القوي العظيم، وهذا مشاهد في أمور الحياة الدنيا؛ فما بالك بمن هو الكبير على الحقيقة الذي لا أكبر منه، ولا أعظم منه سبحانه.
اسم الله الكبير كثيرا ما ورد في القرآن مقرونا باسمه العليّ، وباسمه المتعال، لمناسبة صفة الكبرياء والعظمة لعلوه -عز وجل-، من ذلك قوله تعالى: (عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ) [الرعد:9]، (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ:23]، وقد فسّرت السنة هذه الآية كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:"إِذَا قَضَى اللهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا) لِلَّذِي قَالَ: (الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [البخاري:4701].
ومن مواطن ورود اسم الله الكبير مقترنا بالعليّ قوله سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج:62]، وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر:12]، قال السعدي: وحقيقة الكبرياء التي لا يعلمها إلا هو دون غيره، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وتعني كل صفة كمال وجلال وكبرياء وعظمة، وهي ثابتة له، وله من تلك الصفة أجلها وأكملها، ومن كبريائه أن العبادات كلها، الصادرة من أهل السماوات والأرض، كلها المقصود منها، تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار، كالصلاة وغيرها.
فالله هو الكبير في كل شيء لأنه أزلي وغني على الإطلاق، وهو الكبير عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول، وهو ذو الكبرياء الذي هو كمال الذات أي كمال الوجود، وهو الذي كَبُر عن المشابهة، والكبير هو العظيم في كل شيء على الإطلاق في ذاته وصفاته وأفعاله الذي تجلى عن مشابهة مخلوقاته، فالله أعظم وأكبر من مما يتصور العبد أو يتخيله، كما لا يجوز تخيل الكبير وتصوره: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً). [الإسراء:111]، يقول السعدي: أي: وعظمه تعظيمًا تامًا كاملاً، يليق بجلاله -عز وجل-، وأجلّه بالإخبار بأوصافه العظيمة، وبالثناء عليه، بأسمائه الحسنى، وبتمجيده بأفعاله المقدسة، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين كله له.
ولأهل العلم كلام نفيس في معاني اسمه الكبير كلاما يتماشى مع الحقائق والدلالات العظيمة لهذا الاسم المقدس منها:
قال الخَطابِي: "هُو الذِي تَكبَر عَنْ كُلِ سُوءٍ فلا شيء مِثلهُ وَالذِي كَبُرَ وَعَظُمَ فكُلُ شيء دُون جلاله صَغيرٌ وَحَقيرٌ، فَإذا عَرفْتَ مَعنَى الكَبِيرْ، عرفْتَ مَعْنَى اللهُ أكْبَرُ فِي كلِ صلاة، اللهُ أكْبَرُ مِنْ الشَيطَانِ، وَوسْوسَتهُ فِي نَفْسِي، اللهُ أكْبرَ مِنْ أنْ نحِيطَ بِهِ عِلْما، اللهُ أكْبَر مِنْ أنْ نَعْرِفَ لَهُ كنْهَا سُبْحَانهُ وَتَعالىَ".
وقال الحليمي: "الكبير هو المصرِّف عباده على ما يريده منهم من غير أن يروه. والكبير في القوم هو الذي يستغني عن التبذل لهم، ولا يحتاج في أن يطاع إلى إظهار نفسه، والمشافهة بأمره ونهيه، إلا أن ذلك في صفة الله تعالى جده إطلاق حقيقة، وفيمن دونه مجاز؛ لأن من يدعى أنه كبير القوم قد يحتاج مع بعض الناس، وفي بعض الأمور إلى الاستظهار على المأمور بإبداء نفسه له ومخاطبته كفاحا لخشية أن لا يطيعه إذا سمع أمره من غيره، والله -سبحانه وتعالى جل ثناؤه- لا يحتاج إلى شيء ولا يعجزه شيء".
ومن خلال عرض كلام أهل العلم عن هذا الاسم المقدس يتضح لنا أن التكبير يعني التعظيم، إلا أن الكبرياء أكمل من العظمة، وهي داخلة فيه، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "وفي قوله الله أكبر، إثبات عظمته، فإن الكبرياء تتضمن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل، ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والآذان، بقول: الله أكبر، فإن ذلك أكمل من قول: الله أعظم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" قَالَ اللَّهُ -عز وجل-"الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ" [صحيح وضعيف أبي داود(4090)]؛ فجعل العظمة كالإزار، والكبرياء كالرداء، ومعلوم أن الرداء أشرف، فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم، صرَّح بلفظه وتضمَّن ذلك التعظيم".
أيها الأخوة الكرام: والكبرياء يأتي في القرآن على نوعين: أحدهما يرجع إلى صفاته سبحانه، فله معاني العظمة والجلال، وكمال العزة والقدرة، وسَعَة العلم، وكمال المجد والعظمة، وغيرها من أوصاف العظمة والكبرياء.
وهذا له صور كثيرة: منها أن كرسيه وسِع السماوات والأرض، ومن عظمته وكبريائه أنَّ نواصي العباد بيده، فلا يتصرفون إلا بمشيئته، ولا يتحركون ويسكنون إلا بإرادته، ومن عظمته وكبريائه وهيبته أنه مالك يوم الدين، يوم يحشر فيه الأولين والآخرين والمخلوقات أجمعين فلا يغيب منهم أحد، ولا يفلت من قبضته أحد، ومن كبريائه وعظمته أنهم يأتونه مذعنين وجلين قد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم أتيه يومها فردا، ولا يتكلم أحد منهم إلا بإذنه.
ومن كبريائه وعظمته أن الأرض قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهنَّ في يده سبحانه كخردلة في يد أحدنا، قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67]، فله سبحانه وتعالى الكبرياء والعظمة، وهما وصفان لا يُقَادر قَدْرهما، ولا يَبْلغ العِباد كُنْهَهُما، ومن كبريائه وعظمته وجبروته أن العبادات كلها الصادرة من أهل السماوات والأرض، جميعها المقصود منها: تكبيره وتعظيمه، وإجلاله وإكرامه، ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات الكبار، كالصلاة وغيرها.
والوجه الثاني الذي يأتي عليه الكبرياء في القرآن: أن التعظيم، والتكبير والإجلال، والتمجيد لله، ولا يستحقها أحد سواه، فيجب على العباد أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته والذل له، والخوف منه، وإعمار اللسان بذكره، والثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره، وعبوديته.
واسم الله الكبير له صيغ متعددة: المُتكبر، والأكبر، وقد وصف جزاءه للمؤمنين، ومقام ذكره بالأكبر، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:72]، وقال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45 ]، فالله تبارك وتعالى هو الكبير المتعال، الذي كبر وعظم ولا شيء أعظم منه، وكل شيء دون جلاله صغير وحقير، وهو الموصوف بالجلال وكبر الشأن، والملك والعظمة والسلطان، وله الكبرياء في السموات والأرض، وله الحمد على ربوبيته لسائر الخلائق، حيث خلقهم ورباهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، وله الكبرياء والجلال، والعظمة والمجد: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجاثية: 36-37].
وأثر تعظيم الباري وتكبيره يظهر في بث الروح في الطاعات والعبادات، وأي طاعة لا يخرج العبد منها بتعظيم ولا تكبير لله وتمجيد للكبير لا قيمة لها ولا ثمن، وتقديمها بغير ذلك كتقديم أضحية ميتة لا روح فيها، لذلك شُرعت التكبيرات في الصلاة في افتتاحها وتنقلاتها، وهذه المشروعية في الصلاة ينتج عنه أجمل الخواطر وأحسن النتائج فيها، بحيث تعظِّم من شأن الصلاة عند استحضارك معنى هذا الاسم العظيم، وهو مما يجلب الخشوع والطمأنينة فيها ويحملك على تجاهل كل شيء سواها إذا استحضرت معناه، وأنه لا أكبر من الله تبارك وتعالى، فهو أكبر من المال والبنين، وأكبر من البيع والتجارة، لكن احذر أن يقولها لسانك، وفي ذهنك وخاطرك وقلبك من هو أكبر من الله من متاع الدنيا الفانية، أو متعها الزائلة، شغلك عنه وصرفك عن معاني الصلاة.
وقد جُعِل التكبير وهو ذكر الانتقال بين حركات الصلاة من بين سائر الأذكار؛ لاستحضار هذا المعنى، فلا يسهو العبد ولا يفكر في الدنيا، بل يخشع لله الأكبر سبحانه وتعالى، قال الشعراوي: "قوله: (وكبره تكبيرا): وكبره تكبيراً؛ لأن عظمة الحق سبحانه في نفس المؤمن أكبر من كل شيء، وأكبر من كل كبير، لذلك جُعلتْ (الله أكبر) شعار أذانك وصلاتك، فلا بُدَّ أن تُكبِّر الله، وتجعله أكبر مِمّا دونه من الأغيار، فإنْ ناداك وأنت في أيّ عمل فقُلْ: الله أكبر من عملي، وإنْ ناداك وأنت في حضرة عظيم، فقل: الله أكبر من أيِّ عظيم، كبِّره تكبيراً بأن تُقدِّم أوامره ونواهيه على كل أمر، وعلى كل نهي".
ولأهمية تكبير الله -عز وجل- وتعظيمه نجده مصاحبا للمسلم في عبادات عديدة، وطاعات متنوِّعة، ليس في الصلاة فحسب، فالمسلم يكبّر الله عند ما يُكْمِل عِدَّة الصِّيام، في ليلة العيد ويومه، كما قال الله تعالى: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185]، ويكبِّروا الله في أكثر من موطن في الحج، عند رمي الجمرة، وأيام العيد، وبداية الطواف عند الحجر، قال الله تعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج:37]، وكذلك يصْحَب المسلم في تكبيراته المطلقة كلَّ وقت وكلَّ حين، وبهذا يتبين مكانة التكبير، وجلالة قدره، وعِظَم شأنه من الدين، كما أنه من شعائر الأعياد والمناسبات.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت على الحق أقدامنا، وتوفنا وأنت راض عنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الكبير المتعال، ذي المنن والإفضال، الموصوف بكل كمال، الذي كتب على خلقه الزوال، وضرب لهم الآجال، فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
أما بعد:
عباد الله: إن الله -عز وجل- هو الكبير العظيم الذي أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته، وأكبر من أن نعرف كيفية ذاته وصفاته، ومن أراد أن يعرف عظمة ربه وكبرياءه، وصفات جلاله، وصفات جماله، فلينظر إلى الآيات الكونية في العالم العلوي والسفلي، وليشاهد الآيات القرآنية التي لا تكاد تخلو آية منها من اسم لله، أو صفة من صفاته، أو فعل من أفعاله، أو أمر من أوامره، وكذلك ينظر إلى أقرب دليل وأكبر شاهد هي نفسه وتركيب جسده، وعليه كذلك بسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، الذي هو أعلم الخلق بربه، وعليه أُنزل الكتابُ العزيز.
عباد الله: إن العبد المؤمن إذا استقرت هذه المعاني والدلالات القرآنية عن تكبير الله وتعظيمه، ومقتضيات اسمه الكبير في قلبه وتشربت بها روحه ونفسه، فإنه سوف ينعم بالحرية التامة الكاملة، حيث لا سيد وعظيم وكبير على الحقيقة إلا الله، ولا ملجأ ولا ملاذ إلا إليه سبحانه الكبير المتعال، وكل عظماء وكبراء الدنيا في حضرة العلي الكبير أضعف وأقل من جناح بعوضة.
هذه المعاني العالية الفائقة عن تكبير الله وتعظيمه إذا أضاءت قلب المؤمن فإنه سيجعل الله أكبر شعار حياته وسيره، حيث يجعل الله -عز وجل- أكبر من كل شيء وأي شيء، الله أكبر من كل الشواغل والعوارض والطوارئ، الله أكبر من الولد والوالد والزوجة والناس أجمعين، الله أكبر من الطواغيت والأعداء ومن كل المخاوف، الله أكبر من الأموال والمتاجر والمناصب والولايات، الله أكبر من الرغبات والطلبات والحاجات والشهوات.
إن يقين العبد المؤمن بأن ربه -عز وجل- هو الكبير الذي هو أكبر وأعظم من كل شيء، يملاْ قلبه ونفسه تواضعا بين يدي ربه الكبير، فلا يرى لنفسه فضلا ولا منزلة ولا قيمة من غير ربه -عز وجل-، يكون دائم التذكر لقيمته الحقيقية وأنه من غير مدد من ربه ونعمة من خالقه الكبير المتعال، لا يسوى شراك نعله، كما قال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53].
كما أن إيمان العبد باسم الله الكبير، وما يستحقه من تعظيم وإجلال وتكبير، سيلزم العبد بالإخبار بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وبالثناء عليه بهما، وبتحميده بأفعاله المقدسة، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده لا شريك له. وإخلاص الدين كله له، وبتعظيم شعائره ودينه، وأوامره وكلامه، وتوقير رسله بطاعتهم والاقتداء بهم.
واعلموا - إخوتي في الله- أن إيمان العبد باسم ربه الكبير سيجعله عالي الهمة، يطلب معالي الأمور، ولا يرضى بسفاسفها، فلا يجالس إلا ذوي الفضل والمروءة والأخلاق الرفيعة، و لا يصاحب غير الصالحين والعلماء والأتقياء الذين هم من كبار طلاب الآخرة، وليسوا من كبار الدنيا.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون من جنه وإنسه-، فقال قولا كريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللّهم عن آله الأطهار، وصحبه الأخيار من المهاجرين والأنصار..
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمرّ أعدائك أعداء الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، ونسألك اللهم الفوز بالجنة والنجاة من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى.
اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح نياتنا، وأصلح ذرياتنا، وأصلح أزواجنا، وأصلح ذات بيننا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي