أين غيرتك وأنت تسمح لبناتك أو زوجتك، أنْ تُدخل في بيتك قنواتٍ فاسدة، فيها المسلسلاتُ الهابطة، والأفلام الخبيثة، كم شاهد نساؤك وبناتُك فيها من الفضائح، وكم تجرَّؤوا بسببها على القبائح. فاتق الله يا مَن أدخلت في بيتك دشوشاً مُحرَّمة، واسْتَبْدِلْهَا بقنواتٍ نافعة، سليمةً من الأفلام الهابطة، والمسلسلات الماجنة. ولا تسمحْ لأحدٍ من محارمك وبناتك: بأنْ...
الحمد لله الذي قصَّ علينا من آياته عجباً، وأرسل فينا رسولاً كريماً نجيباً، عُرِضتْ عليه الجِبالُ ذهباً، فنأى عنها وأبى، وخصَّنا بشريعته القويمة وحَبا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تكون للنجاةِ سبباً، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه الْمُجْتَبَى، أشرفُ البرية حسباً، وأطهرهم نسباً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين سادوا البريَّةَ عَجَماً وعَرَباً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنَّ من أفضل ما اتَّصف به المتصفون، وتحلَّى به المؤمنون: الغيرة، وذلك بأن يغار المؤمن على محارمه ومحارم الله.
فأما غيرته على محارمه: فبأن يحمي نساءه وأولاده من العريِّ والتَّبرُّج، وألا يرضى أنْ تُمسَّ أعراضُهم، وتُكشَفَ عوراتُهم، ولا يرضى بذلك إلا الديوث عافانا الله وإياكم منه، وهو الذي يعلم الفاحشة في أهله، ولا يغار عليهم.
فالغيرةُ صفةٌ لا تكون إلا في قلوب الشرفاء، ولا يشمُّها إلا العقلاء.
قال صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قَالُوا هَذَا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا" فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: أَوَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ- أي: أَعْلَيْهَا أَغَارَ مِنْك- [متفق عليه، البخاري (5227), ومسلم (2394)].
أيُّ غيرةٍ هذه التي يحملُها الفاروقُ -رضي الله عنه-، حتى جعلت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الجنة، التي لا مكان فيها للمعصية والفاحشة، ومع ذلك حينما أُخبر أنَّ هذه المرأةَ لعمر أعرض عنها، لما يعلمه من غيرة عمر على نسائه ومحارمه.
كيف لا، وهو الذي كَانَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الحِجَابِ"[متفق عليه، البخاري (146), ومسلم (2170)].
كان قلبُه يفورُ غيرةً على النساء وعلى حجابهنّ، حتى أنزل الله ما يُثلج صدره، ويُبهجُ خاطره، فأوجب الحجاب على النساء.
وهذا الزبير بن العوام رضي الله عنه، كانت زوجتُه أَسْمَاءُ بِنْت أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنها -، تنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ عَلَى رَأْسِها، قَالَتْ: فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَانِي، ثُمَّ أناخ بعيره لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، قالت: فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ، وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى وتركني [متفق عليه، البخاري (5224), ومسلم (2182)].
وهذا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - رضي الله عنه - يقول: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ -أيْ غَيْرَ ضاربٍ بِعَرْضِهِ بل بِحَدِّه- فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"[متفق عليه، البخاري (6846), ومسلم (1499)].
فالله الجبارُ يغار، ورسولُه الْمصطفى يغار، والصالحون كذلك والأبرار، فلْنفتِّشْ عن غيرتنا على محارمنا في قلوبنا، ولْنفتشها في ألبستهنّ وحجابهنّ.
فأين الغيرة في أولئك الآباء والأمهات، الذي يسمحون لبناتهم بالخروج إلى الأعراس والاستراحات، وهنَّ عارياتٍ أو شبهُ عارياتٍ، أين غيرتك أيها الرجل، وأنت تسمح لبناتك أنْ يلبسن ألبسةً قصيرة، أو ضيِّقةً أو شفَّافة، أين غيرتك وأنت تسمح لبناتك أو زوجتك، أنْ تُدخل في بيتك قنواتٍ فاسدة، فيها المسلسلاتُ الهابطة، والأفلام الخبيثة، كم شاهد نساؤك وبناتُك فيها من الفضائح، وكم تجرَّؤوا بسببها على القبائح.
فاتق الله يا مَن أدخلت في بيتك دشوشاً مُحرَّمة، واسْتَبْدِلْهَا بقنواتٍ نافعة، سليمةً من الأفلام الهابطة، والمسلسلات الماجنة.
ولا تسمحْ لأحدٍ من محارمك وبناتك: بأنْ يلبسن ملابس ضيِّقةٍ أو شفَّافة، ولو كنَّ بين النساء وحدهنّ، ولقد أفتى علماء الأمة من السابقين واللاَّحقين، وعلى رأسهمُ الإمامُ ابنُ عثيمين، بأنَّ لُبْسَ الملابسِ الضيقة، التي تُبَيِّنُ مفاتنَ المرأة، وتُبرزُ ما فيه الفتنة: أنه لا يجوز، لا عند المحارم ولا عند النساء[مجموع الفتاوى 12/273].
وسئل رحمه الله، عن لُبسِ النساء أمام النساء، الملابسَ ذاتَ الأكمام القصيرة، والفتحاتِ من جهة النحر أو الظهر أو الساقين، والملابسَ الضيقةِ أو الشفافة، ولُبسِ الملابسِ القصيرة، وهو ما يصل إلى نصف الساقين:
فأجاب بقوله: الذي أراه أنه لا يجوز للمرأة أن تلبس مثل هذا اللباس، ولو أمام المرأة الأخرى؛ لأنَّ هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "صنفان مِنْ أهلِ النار لم أرهما، نساءٌ كاسياتٌ عاريات، مائلاتٌ مميلاتٌ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة"[مجموع الفتاوى 12/280].
وقال رحمه الله: "لُبْسُ العباءة المطرزة يُعتبر من التبرج بالزينة، والمرأةُ منهيةٌ عن ذلك"[مجموع الفتاوى 12/283].
فاتقوا يا مَنِ ائتُمنتم على نسائِكُم ومحارمكم، وألْزموهنَّ بالحجاب الكامل، والسِّترِ ولُبسِ الطويل.
أمة الإسلام: هذا ما يتعلق بالغيرةِ على الْمَحارم، وبقي الحديث عن الغيرةِ على محارم الله ودينه، وذلك بأَنْ نغْضَب لِمَحَارِمِهِ إِذَا انْتَهَكَهَا الْمُنْتَهِكُونَ، وَلِحُقُوقِهِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهَا الْمُتَهَاوِنُونَ.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فأقوى الناس دِيناً أعظمُهم غيرة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني".
فمُحبُّ اللهِ ورسولِه: يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله، وإذا خلا قلبُه من الغيرة لله ولرسوله، فهو من المحبة أخلى، وإن زعم أنه من المحبين، فكَذَبَ مَنِ ادَّعى محبة محبوبٍ من الناس، وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه، ويسعى في أذاه ومساخطه، ويستهين بحقه ويستخف بأمره، وهو لا يغار لذلك، بل قلبه بارد، فكيف يصح لعبدٍ أن يدَّعيَ محبة الله، وهو لا يغار لمحارمه إذا انتُهكت، ولا لحقوقه إذا ضُيِّعت.
وإذا ترحَّلت هذه الغيرة من القلب: ترحلت منه المحبة، بل ترحَّل منه الدين، وإن بقيت فيه آثاره، وهذه الغيرة هي أصل الجهاد، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك، فإن خلت من القلب لم يجاهد، ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، فإنه إنما يأتي بذلك غيرةً منه لربه"[روضة المحبين 1/ 274].
فلْنتق الله -عباد الله-، ولْتتمعَّرْ وجوهنا إذا رأينا الْمُنكرات، ولْنغضب غيرةً لله إذا رأينا تارك الصلوات، فلا خير ولا دين في رجلٍ ولو صلى وصام، إذا يكن في قلبه الغيرةُ على الدين والشريعة.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وَأَيُّ دِينٍ وَأَيُّ خَيْرٍ، فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ، وَحُدُودَهُ تُضَاعُ، وَدِينَهُ يُتْرَكُ، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرْغَبُ عَنْهَا، وَهُوَ بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِتُ اللِّسَانِ؟ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ، الَّذِينَ إذَا سَلِمَتْ لَهُمْ مَآكِلُهُمْ وَرِيَاسَاتُهمْ، فَلَا مُبَالَاةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟، وَخِيَارُهُمْ الْمُتَحَزِّنُ الْمُتَلَمِّظُ، وَلَوْ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ أَوْ مَالِهِ: بَذَلَ وَتَبَذَّلَ وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ وُسْعِهِ.
وَهَؤُلَاءِ - مَعَ سُقُوطِهِمْ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَمَقْتِ اللَّهِ لَهُمْ - قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمِ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَهُوَ مَوْتُ الْقُلُوبِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ أَتَمَّ، كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْوَى، وَانْتِصَارُهُ لِلدِّينِ أَكْمَلُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَثَرًا: "أَنَّ اللَّهَ - سبحانه - أَوْحَى إلَى مَلِكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، أَنْ اخْسِفْ بِقَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ يَا رَبِّ، كَيْفَ وَفِيهِمْ فُلَانُ الْعَابِدُ؟ فَقَالَ: بِهِ فَابْدَأْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِيَّ يَوْمًا قَطُّ"[أعلام الموقعين 1/508].
نسأل الله -تعالى- أنْ يزرع الغيرةَ في قلوبنا، وأنْ يحفظَ أعراضَنَا ومحارمَنا، وأنْ يُجنِّبَهنّ شبهاتِ وشهواتِ الْعلمانيين، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الْمُصطفى الأمين، -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين-.
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد سمعنا عمَّا شاع بين الفتيات، مِن إقامتهن لحفلات التخرج، وما يُصاحبُ ذلك من مُنكراتٍ عظيمة، وألْبسةٍ مُخزية، وأغانٍ ماجنة، وهنَّ وحدهنّ دون أُمَّهاتهنّ، فلا تَسَلْ عن اجتماع فتياتٍ دون حسيبٍ ولا رقيب، ولم يقتصرِ الأمرُ على من تخرَّجْنَ مِنْ الثانويةِ أو الجامعة، بل أصبحتْ هذه ظاهِرةً وعادَة، تَتَسابَقُ الفتياتُ على إقامَتِها، والْمُبالغةِ في الاسْتعدادِ لها.
فلا بدَّ من وضع حدٍّ لهذه الظاهرة، وذلك بالتقيُّدِ بالضَّوابطِ التالية:
1- أنْ يكون بحضورِ الأمَّهات، وتحت سمعهن وبصرهن.
2- أنْ لا يكون في جميعِ المراحلِ الدراسيَّة، بل في نهايةِ المرحلةِ الثانويَّةِ أو الْجامعيَّة، التي هي محلُّ الفرح في التخرجِ منها.
3- أنْ لا يكون هناك إسرافٌ ولا تكلُّف، وأنْ يلْبسن ألبسةً مُحتشمةً ساترةً.
ومن التكلُّفِ الْمَذموم: ما يتمُّ تبادلُه من الهدايا في هذه الحفلات، إما من الأمّ لبنتها أمام الجميع، وإما من الفتيات بعضِهِنّ لبعض، فمع ما فيها من الإسراف والْمُباهاةِ والتكلُّف، إلا أنه قد يكسر قلوب فتياتٍ، لا يملكنَ قيمة مثل هذه الهدايا، فينكسر قلبُها، ويتكدَّر خاطرها.
فاتقوا الله -معاشر الآباء- وقوموا بواجبكم تجاه هذه الظاهرة، ولا تتساهلوا في مثلِ هذه الأمور، فيحدُثُ ما تَنْدَمُون عليه لا سمح الله.
نسأل الله أنْ يستر على نسائنا وبناتنا، وأنْ يُجنِّبهن أسباب الفتن والشرر.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي