وهذا الإيضاح جامع في بابه، أن حياة الله حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، حياة كاملة، منزهة من كل عيب أو نقص، وهذا يدل أعظم دلالة على عظم شأن هذا الاسم وجلالة قدره، وما يقتضيه ..
الحمد لله الذي خلق فسوى، وأرشد فهدى، وأعطى فكسا، وأسبغ فحمى؛ الحمد لله الذي أرسل المرسلين، وأقام البراهين، فهدى الحائرين، وأرشد التائهين، ونصر المؤمنين، وأضل الكافرين.
والصلاة والسلام على من أقام منار الدين، وصبر وجاهد حتى أتاه اليقين، خاتم المرسلين، وسيد العالمين، وإمام العاملين، وقدوة السالكين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأزواجه المطهرين، وصحبه الغر المحجلين، صلاة ترضى بها عنا بها إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وخير الوصايا تقوى الله -عز وجل-، فأوصيكم ونفسي بتقوى العلي الحكيم.
أحبتي في الله: حديثنا اليوم بمشيئة الله -عز وجل- عن اسم من أعظم أسماء الله، إن لم يكن هو أعظمها؛ إذ عليه مدار كل الأسماء والصفات الأخرى، كما قال بذلك جمع من أهل العلم. حديثنا اليوم عن اسم الله الحي.
وقد ورد أنه اسم الله الأعظم، فقد أخرج ابن ماجه بسند حسنه الألباني والحاكم والطحاوي من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسم الله الأعظم في سور من القرآن ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه". قال القاسم بن عبد الرحمن -راوٍ من التابعين-: "فالتمست في البقرة، فإذا هو في آية الكرسي: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255]، وفي آل عمران فاتحتها: (ألم* اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران:2]، وفي طه: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه:111].
ومن حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟" قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ : "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟" قَالَ: قُلْتُ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ :"وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ" رواه مسلم.
أحبتنا الكرام: وبالتأمل والنظر في الحديثين الآنفين، نجد دلالات بالغة على مكانة اسم الله "الحيّ" الذي سوف نعيش في رياض معانيه، وروائع دلالاته التي تجعل من حياة العبد الذي يعمل على تحقيقها سعادة ما فوقها سعادة، وهناء ما بعده هناء.
إن اسم الله الحي قد ورد ذكره في القرآن الكريم في مواضع متعددة، اسماً أحيانا وصفة أخرى، فقال في أعظم آية في القرآن: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة:255]، وفي مطلع آل عمران: (الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران:1-2]، وقول الله -تعالى-: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر: 65]، وقوله -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) [الفرقان:58]، وقوله -سبحانه-: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه:111]؛ وغيرها من الآيات.
وكما استفاض القرآن باسم الله "الحي"، فقد جاءت أيضا السنة المطهرة مستفيضة بذكر اسم الله "الحيّ"؛ فمن ذلك ما روى ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ؛ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ" رواه مسلم.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا فِي الْحَلْقَةِ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ فَتَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ فِي دُعَائِهِ: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ، يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَدْرُونَ بِمَا دَعَا اللهَ؟"، فَقَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى" صححه الألباني في الأدب المفرد.
قال: سَمِعْتُ أَبي يُحَدِّثُنِيهِ عن جَدِّي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ قالَ أسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِن كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْف ومن حديث بِلاَل بن يَسَارِ بنِ زَيْدٍ مَوْلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-" صحيح أبي داود.
واسم الحي مشتق في اللغة من الحياة، والحياة نقيض الموت، وقد يراد به الحيي الذي يستحي والحياء خلق له، وحياة الله تعني: الباقي حيا بذاته أزلا وأبداً، والأزل هو دوام الوجود في الماضي، والأبد هو دوام الوجود في المستقبل، وكل حي سوى الحي ليس حياة بذاته؛ إنما هو حي بإمداد الحي، ولذلك قيل إن اسم "الحي" هو اسم الله الأعظم.
وإن المتدبر في الآيات والأحاديث الواردة عن اسم الله "الحي"، وصفة الحياة له -سبحانه-، يري الكثير من المعاني والدلالات، ومنها:
أولا: إن حياة الله -تعالى- حياة لم يسبقها عدم، ولا يلحقها زوال، وما من أحد إلا وقد سبق حياتَه عدمٌ، إلا الله الأول الحي، قال ربنا في حق ابن آدم: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [الإنسان:1]، قال البغوي: "ومعناه قد أَتَى عَلَى الْإِنْسانِ، وهو آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أربعون سنة وهو من طين ملقى بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، لَا يُذْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ وَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طين إلى أن نفخ فِيهِ الرُّوح".
وهذا الإيضاح جامع في بابه، أن حياة الله حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، حياة كاملة، منزهة من كل عيب أو نقص، وهذا يدل أعظم دلالة على عظم شأن هذا الاسم وجلالة قدره، وما يقتضيه من الذلِّ والخضوع لله -عز وجل-: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) [طه:111].
ثانيا: إن الله الحي -سبحانه- هو الباقي الدائم الذي لا ينتظره موت، ولا يلحقه فناء، والجن والإنس يموتون، وكل شيء هالك إلا وجهه، ولهذا لا يستحق أحد أن يؤلَّهَ ويُعبَدَ ويُحبَ إلا الله الحي الباقي، ولا يكون مالكا إلا الباقي وارث الأرض ومن عليها، فهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإذا كان ما سواه هالكاً فعبادة الهالك الباطل باطلة: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:88].
فكل ما سوى الله سيموت وينتهي، قال -تعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26-27]، يقول السعدي: "أي: كل من على الأرض، من إنس وجن ودواب وسائر المخلوقات، يفنى ويموت ويبيد، ويبقى الحي الذي لا يموت".
ولذلك فإن أضل خلق الله هم الذين عبدوا غيره من مخلوقات فانية تموت وتذهب مثلهم؛ فما أشقاهم! وما أغباهم! مثل الذين يعبدون الكواكب، فإنهم يعبدون الآفل؛ لأن هذه الكواكب تغيب وتأفل وتزول، ويعتريها الكسوف والخسوف ونحو ذلك، وتتفتت وتتطاير في الفضاء، ثُمَّ إن مصيرها إِلَى الفناء، وليس لها الحياة المطلقة.
والذين عبدوا اللات والعزى إنما عبدوا أحجاراً صماء ليس فيها حياة، وهكذا كل ما عُبد من دون الله؛ من ملَك أو نبي أو ولي أو حجر أو شجر أو كوكب نجد أنه ما كَانَ له أن يُعبد من دون الله لو أن العابدين له كانت لهم عقول، فلو أنهم تأملوا في حقيقة هذا الاسم، وقدروا الله حق قدره، وعرفوا حقيقة اسم الله "الحي" لما عبدوا من دون الله -سبحانه وتعالى- أحداً سواه بإطلاق.
لذلك قال -تعالى- في محكم آياته: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل:19-20]، واصفا كل المعبودات الباطلة التي تعبد من دونه بوصف واحد كلي جامع لهم وهو الموت، أما الله فهو الحي الباقي، الذي لا إله إلا هو، وله الحكم في الدنيا والآخرة، وإليه مرجع الخلائق كلهم، قال -سبحانه-: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [مريم:40]، عندها يجازيهم بأعمالهم، يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
ثالثا: إن الحي -سبحانه- هو القيوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، فضلا عن الفناء والموت، فحياته مرتبطة بقيّوميته، فهو -سبحانه- يدبر أمر الخلائق في العالم العلوي، والكائنات في العالم السفلي، ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويثيب ويعاقب، وينصر ويخذل، يخلق في كل لحظة ما لا يحصى من الأحياء من نبات وحيوان وإنسان، ويتكفل بتدبير معاشهم، ويقدر لهم أقواتهم، ويسوق إليهم أرزاقهم، وتحت أمره بقاؤهم وفناؤهم، وفي كل لحظة يموت بأمر الله ما لا يحصى من الأحياء.
وفي حديث أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِأَرْبَعٍ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَرْفَعُ الْقِسْطَ [وهو العدل] وَيَخْفِضُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ" رواه مسلم.
قال النووي: "أَمَّا قَوْلُهُ -صلى الله عليه وسلم- "لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ" فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ -سبحانه وتعالى- لَا يَنَامُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ النَّوْمُ؛ فَإِنَّ النَّوْمَ انْغِمَارٌ وَغَلَبَةٌ عَلَى الْعَقْلِ يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْسَاسُ، وَاللَّهُ -تعالى- مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ في حقه -جل وعلا-".
رابعا: إن الحي -سبحانه- هو واهب الحياة للخلق، فالحياة لا يملكها أحد غير واهبها، ولا يسلبها أحد غير معطيها، كما أن الموت كالحياة سر لا يعلمه إلا الله، ولا يملك أحد أن يحدثه، فسبحان الذي: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحديد:2]!.
عبد الله: هذه المعاني العظيمة لاسم الله الحي، وصفة الحياة له -سبحانه-، تبين لنا الفارق بين حياته -سبحانه- وحياة مخلوقاته، فالخالق موصوف بالحياة، والمخلوق موصوف بالحياة، ولكن شتان ما بين الحياتين! فالحي -سبحانه- حياتُه مُنَزَّهَةٌ عن مشابهة حياة الخلق، لا يجري عليها الموت أو الفناء، ولا تَعْتَريها السِّنَة ولا النَّوم، مُتَضَمِّنٌ للحياة الكاملة التي لم تُسْبَقْ بعدم، ولا يَلْحَقُها زَوَال.
إن الفرق عظيم بين ما يتصف به المخلوق وبين ما يتصف به الخالق -سبحانه وتعالى-، فحياة الله -سبحانه وتعالى- هي من لوازم ذاته، فهو الحي بذاته -سبحانه وتعالى-، وما في الآخرة من الأحياء في الجنة من الملائكة وغيرهم إنما هم أحياء بإحياء الله لهم، فالله هو الذي وهبهم الحياة، وليس حياتهم في الجنة من لوازم ذواتهم، ، كما أنه هو الذي قضى عليهم ألا يموتوا، وإن كانت هذه الحياة هي فعلاً أكمل من الحياة الدنيا، وهي حياة حقيقية بالنسبة للحياة الدنيا العارضة الزائلة العابرة، ولو شاء لأهلكهم جميعاً -تَبَارَكَ وَتعالى-؛ فما يليق بالخالق -سبحانه وتعالى- له شأن، وما يليق بالمخلوق له شأن آخر.
يقول صاحب الظلال: "والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق؛ ومن ثم يتفرد الله -سبحانه- بالحياة على هذا المعنى؛ كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية" ا.هـ.
فالحياةُ الدُّنيا كالمنام، والحياةُ الآخرة كاليَقَظَة، والله -تعالى- يَهَبُ أهلَ الجنة الحياةَ الدَّائمة، (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64]، والكافر والمجرم والشَّقيُّ في نار جهنم (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) [الأعلى:13].
إن دوام الحياة يؤدي إلى انتقال الملكية إلي الباقي الوارث، وإذا كان كل من على الأرض لا محالة زائل، يدركه الموت في أي زمان ومكان، فكل شيء ما خلا الله باطل، كما نص على زواله القرآن: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُونَ) [العنكبوت:57]، فميراث السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ينفرد به الملِكُ الحقّ؛ لأن الحياة وصف ذات لله، أما حياة الملوك فحياتهم لا تدوم، وسيأتيهم الموت بالضرورة واللزوم: (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) [غافر:16].
هذه المعاني العظيمة والدلالات الكبيرة لاسم الله "الحي" وصفة الحياة له -سبحانه- هي التي جعلت كثيرا من أهل العلم يقولون إن اسم الله "الحي" هو اسمه الأعظم إذا ما قرن باسمه "القيوم"؛ إذ عليهما مدار كل الصفات الأخرى، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة من الصفات إلا لضعف الحياة، فمثلاً: ضعيف القدرة من الخلق دليل عَلَى أن حياته غير كاملة، وكذلك ضعيف الإرادة، فهذا يدل عَلَى أن حياته غير كاملة، وهكذا كل صفة.
وهذه المعاني والحقائق الهامة عن اسم الله الحي لا تبرر أبدا الممارسات البدعية التي يقوم بها ضلال المتصوفة، من الدق والتصفيق والرقص، وترديد اسم الله الحي مرارا وتكرارا في حلقات الذكر المبتدعة، حتى أصبح الله الحي ومن يذكره علامة على هؤلاء الصوفية، بل صار عند الماجنين والفاسقين مصدر تندر وسخرية، ولا حول ولا وقوة إلا بالله.
إن حقائق اسم الله -تعالى- الحي ليست لمثل هذه التعبدات الضالة، وليس استخدامها أيضاً فيما يسمى بالرقى أو الحجب، وهو أن يكتب: يا حي يا قيوم، أو الحي عدة مرات، ويظن صاحبه أنه يتحقق بذلك الشفاء أو نحو ذلك، وإنما هي في استشعار عظمة الله -تعالى- والخضوع والتذلل له وطاعته.
اللهم ارزقنا علما نافعا، وعملا متقبلا، ودعاء مستجابا، واهدنا واهد بنا، واجعلنا سببا لمن اهتدى؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
عباد الله: كثير من الناس يحلمون بإجابة دعائهم، فهم دائما يتمنون على الله، أن يلهمهم ويسددهم في اختيار ألفاظ المناجاة والدعاء، لذلك تراهم شديدي الولع بمعرفة مفاتيح الإجابة، وطرق الوصول إليها، وإن الفقه بأسماء الله وصفاته هو المفتاح الحقيقي للوصول لإجابة الدعاء، وتحقيق الرجاء، واسم الله الحي بما فيه من دلالات ومعانٍ وحقائق، أحد أهم مفاتيح الحياة الطيبة وإجابة الدعاء، ومن أهم استحقاقات فقه وفهم اسم الله الحي:
أولا: إخلاص الدعاء والرجاء؛ فالعبد المؤمن إذا فقه اسم الله الحي، فإن ذلك يؤثر في حياته، وفي سلوكه وتوجيه أفعاله، وإذا علم العبد أنه لا ملك ولا حياة إلا للحي القيوم، فإنه يوجه حياته على أنه في دار ابتلاء سيعقبها جزاء، ولا يبقى بعد زوال الأرض مالك إلا الله، وله ينسب الملك على الحقيقة، فيستعين بربه في السراء والضراء، ولا يشرك به في الدعاء والمحبة والخوف والرجاء أحدا غير الله، فإذا دعا غير الله معه فإنه قرن الله الحيّ بمخلوقه الزائل الذي سيموت لا محالة؛ ولأن الدعاء يستلزم إثبات صفة الحياة للأنداد من الأموات، والحياة أصل في اتصافهم بالعلم والغنى والقدرة، والسمع والبصر والقوة وغير ذلك مما هو لازم لإجابة الدعاء، وقد عاب الله على المشركين دعاءهم غير الله؛ وذلك لأن الذين يدعونهم من دون الله أموات، فقال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل:20-21].
لذلك أمر الله عباده بدعائه؛ لأنه الحيّ الذي لا يأتي عليه يوم لا يجدونه، كما في قوله -تعالى-: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر:65]؛ أي: هو الحي له الحياة الكاملة التامة، المستلزمة لصفاته الذاتية الملازمة لحياته، كالسمع، والبصر، والقدرة، والعلم، والكلام، وغير ذلك، من صفات كماله، ونعوت جلاله، (فَادْعُوهُ)، وقد ثبت في السنة أن اسم الحي هو اسم الله الأعظم، فقد سمع -صلى الله عليه وسلم- رجلا يدعو بــــِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ، فقال:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى" رواه أحمد.
فاسم الله الأعظم متمثل في الحيّ القيّوم؛ فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي هَذَيْنِ الْآيَتَيْنِ (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وَ (الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) إِنَّ فِيهِمَا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ" رواه أحمد.
ومما ورد الدعاء به أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- كَانَ يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ:" نَامَتِ الْعُيُونُ، وَغَارَتِ النُّجُومُ، وَأَنْتَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ" رواه مالك في الموطأ.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كان دائما ما يدعو باسم الحي القيوم، فقد ثبت من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ" صحيح الجامع.
هذا دعاؤه -عليه الصلاة والسلام- باسم الحي كعلَم، أما تضمين الدعاء صفة الإحياء لله -تعالى- فكثير، كما في قوله -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة:260].
ومنه حديث أَبِى هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى جَنَازَةٍ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِيمَانِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِسْلاَمِ" صحيح أبي داود.
ثانيا: تمام التوكل عليه، فإن العبد المؤمن بربه الحي الموصوف بكل نعوت الجلال والكمال، إذا استقرت المعاني الإيمانية في قلبه وعقله، فإنه يقبل عليه بالكلية، ويتجرد لوجهه الكريم. حين يتيقن العبد أن الله حي، يَعْظُمُ توكُّله عليه، ومنه قرن الله بين التوكل وبين هذا الاسم، قال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) [الفرقان:58]؛ لأن توكل العبد على غير الله توكل في غير محله، إضافة إلى أنه شرك، فقد ينسى الوكيل أو يموت أو ينتقل إلى بلد آخر يعجز معه الجمع بين نفعك وبين بقائه، فمَنْ عَرَفَ هذه الصِّفةَ في رَبِّه تَوَكَّلَ عليه وانقطع قلبُه إليه عن الخلق المحتاجين مثله إلى خالقهم، فكيف يرجوهم بعد ذلك؟.
فالواجب شرعاً وعقلاً أن لا يتوكل العبد على أحد غير الله الحي، الذي له الحياة الدائمة التي لا فناء لها، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد، لم تحدث له الحياة بعد الموت، ولا يعتريه الموت بعد الحياة، وسائر الأحياء سواه يعتريهم الموت؛ إذ كل ما سواه فانٍ، وإن كان حيا فلحياته أول محدود، وآخِر ممدود ينقطع بانقطاع أمده، وينقضي بانقضاء غايته.
ثالثا: من تلك الاستحقاقات لفقه اسم الله الحي، تعظيم قدر النفس وصيانتها، وعدم التجرؤ على حق الله في الإماتة والإحياء، وذلك بتعظيم النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فالاعتداء على شخص اعتداء على الجنس والوصف، قال -تعالى-: (... كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة:32]، وقال -عز وجل-: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].
ومثله أن يقتل المرء نفسه تحت أي مبرر، ولأي سبب؛ ففي ذلك جناية على النفس التي أُودعَها، واعتداء على ما هو من خصوصية المحيي والمميت، المنفرد بالإحياء والإماتة، وإذا كان -عليه الصلاة والسلام- قد نهى عن مجرد تمني الموت، فكيف بالانتحار؟ جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا" رواه البخاري.
إلا أن الشرع علمنا أن نفوض الأمر إلى الله العليم بما هو أصلح لعبده؛ فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي" رواه مسلم.
فعلى العبد أن يَجْتهدَ في نيل نصيب من هذا الاسم، فَيَسْعَى للحياة الآخرة بالحياة الدُّنْيا مكتفيًا بمن يَهَبُه هذه الحياةَ الأبديَّةَ، فحقيقةُ الحياة هي الحياةُ بالرَّبِّ -تعالى- والأنس به والعيش معه، لا الحياةُ بالنَّفْس والفناء وأسباب العَيْش، ففي ذلك الحياة الطيبة والسعادة الحقيقة التي يسعى إليها كل الناس.
اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرِنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نسألك اٍيمانا كاملاً، ويقينا صادقا، وقلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، وتوبة نصوحا، وتوبة قبل الموت، وراحة عند الموت، والعفو عند الحساب؛ ونسألك الجنةَ ونعيمَها، ونعوذ بك من النار يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك موجباتِ رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والغنيمةَ من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوزَ بالجنة، والنجاة من النار يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، ووسع لنا خُلُقنا، وطيّب لنا كسبنا، وقنعنا بما رزقتنا، ولا تذهِب قلوبنا إلى شيء صرفتَه عنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي