إن الله هو الغني الحميد، المحمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله، المحمود بكل لسان، وعلى كل حال، الذي استحق الحمد بفعال المستحق للحمد على الإطلاق، له جميع المحامد بأسرها، وله الحمد على كل حال، وفي كل زمان، وفي كل مكان، وهو سبحانه، يستحق أن يحمد، لأنه بدأ فأوجد، وخلق ورزق، يعفو ويصفح، ويغفر ويتوب، وينعم ويحسن، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، كثرت مننه, حتى فاتت العد, وإن استفرغ فيها الجهد, فمن ذا الذي يستحق الحمد سواه؟ بل له الحمد كله لا لغيره...
الحمد لله عدد ما غردت الأطيار على الأشجار, والحمد لله عدد ما لمعت السماء أقمار، الحمد لله عدد من طاف بالبيت وزار, والحمد له عدد ما نطق اللسان ورُفع الآذان, والحمد له عدد ما وُزِن في الميزان وقُرِئ من القرآن، الحمد لله الذي خَلَق الخلق فأحصاهم عددا وكُلهم آتيه يوم القيامة فردا، الحمد لله الذي خلق كلَّ شيء بقدر، وملك كل شيء وقهر، عنَّت الوجوه لعظمته, وخضعت الرقاب لقدرته, وأشهد أن لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا هو محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم, هو نبيه المصطفى ورسوله المجتبى صلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار وما تعاقب الليل والنهار وعلى صحبه الأخيار وأتباعه الأطهار.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى العزيز الغفار, فهي العاصمة من دواهي الليل والنهار, كما قال في محكم كلامه (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72].
عباد الله: إن من أرقى المقامات الإيمانية وأعلى الأحوال التعبدية التي يكون فيها العبد مع ربه عز وجل؛ مقام الحمد لله على ذاته وصفاته وآلائه ونعمه وخيراته التي لا تعد ولا تحصى, ولأهمية هذا المدرج الإيماني والمقام التعبدي جعل الله عز وجل فاتحة أعظم سوره ـ الفاتحة ـ بالحمد له عز وجل, فالحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح، وأفضل ما يثني به العبد على ربه ومولاه العليم الخبير، قال الله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) [الفرقان: 58]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ تَـمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ تَمْلآنِ "أوْ تَمْلأ" مَا بَيْنَ السموات وَالأَرْضِ" [مسلم (223)].
لذلك كان حرى على كل مخلوق يحيي على أرض الله ويأكل من خيراته, وينعم بآلائه, أن يقف عند مقام الحامدين الذين يحمدون ربهم في جميع أحوالهم, ولكن كثير من الناس لا يعرفون كيف يحمدون ربهم, فيكون غاية سعيهم وعظيم شكرهم أن يشكروه على النعماء, يشكرونه على اللذات الحسية والمتع الجسمانية, ولكن أن يعرفوا المعنى الحقيقي لحمد المولى جل في عليائه, فهذا ما غربت شمسه وتاه معناه وغابت حقيقته عن كثير من الناس إلا من رحم ربك, لذلك كان حري بنا أن نتعرف على فقه اسم الله الحميد هذا الاسم الجليل، وأن نعرف معاني ودلالات ولوازم واستحقاقات وإشارات هذا الاسم العظيم؛ اسم الله الحميد.
الحميد في اللغة صيغة مبالغه على وزن فعيل بمعنى اسم المفعول وهو المحمود, والحمد نقيض الذم بمعنى الشكر والثناء, وهو المكافأة على العمل, والحميد: كلمة مشتقة من مادة الحمد؛ فالكامل يُحمد والناقص يُذم، والحمد يطلق للثناء على الكامل، والكامل المطلق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الحميد في أقواله وأفعاله، وفي شرعه وخلقه، فلا حميد في هذا الكون إلا هو سبحانه وتعالى، والله تعالى هُو المحمُود بكُل لسان وعلى كل حال كما يُقال في الدُّعاء الحمد لله الّذي لا يحمد على الأحوال كلها سواهُ.
إن الله الحميد هو المحمود المستحق لكل ثناء, لأنه الموصوف بكل كمال, المولى لكل وال, وهو الحميد بحمده نفسه أزلا، وبحمده عباده له أبدا، الذي يوفقك بالخيرات ويحمدك عليها، ويمحو عنك السيئات، ولا يخجلك لذكرها، والناس في حمد الله تعالى منازل، فالعامة يحمدونه على إيصال اللذات الجسمانية، والخواص يحمدونه على إيصال اللذات الروحانية، والمقربون يحمدونه لأنه هو لا شيء غيره، فقد روى أن داود عليه السلام قال لربه "إلهي كيف أشكرك، وشكري لك نعمة منك علىّ ؟ فقال الآن شكرتني".
ولاسم الله الحميد معان عظيمة ودلالات كبيرة تدور بين الفضل والشكر منها:
أولا: الحميد الذي يحمده عباده الموحدون على السراء والضراء، لأنه حكيم لا يجري في أفعاله الغلط ولا يعترضه الخطأ والنسيان، فهو محمود على كل حال، قال تعالى: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) [فاطر: 34]، وفي قوله: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) [الأعراف: 43].
ثانيا: إن الله هو الغني الحميد، المحمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله، المحمود بكل لسان، وعلى كل حال، الذي استحق الحمد بفعال المستحق للحمد على الإطلاق، له جميع المحامد بأسرها، وله الحمد على كل حال، وفي كل زمان، وفي كل مكان، وهو سبحانه، يستحق أن يحمد، لأنه بدأ فأوجد، وخلق ورزق، يعفو ويصفح، ويغفر ويتوب، وينعم ويحسن، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، كثرت مننه, حتى فاتت العد, وإن استفرغ فيها الجهد, فمن ذا الذي يستحق الحمد سواه؟ بل له الحمد كله لا لغيره, كما أن المن منه لا من غيره.
قال ابن القيم:
وهو الحميد فكل حمد واقع *** أو كان مفروضا مدى الأزمان
ملأ الوجود جميعه ونظـيره *** من غير ما عد ولا حسبــان
هو أهله سبحانه وبحمده *** كل المحامد وصف ذي الإحسـان
ثالثا: الحميد من وفّق عباده لحمده وألهمهم الثناء عليه، قال الله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) [الحج: 24]، فهو مستوجب الحمد، أهل الثناء بما أثنى على نفسه، وأحمد الله تعالى بجميع محامده، والحمد لله صاحب الحمد ومستحقه، فمن ذا الذي يستحق الحمد سواه؟ بل له الحمد كله لا لغيره، وهو الذي يحمد على كل حال، ذلك بأنه سبحانه حكيم حميد.
رابعا: المستحق للحمد بقاءً، فهو الباقي بعد فناء كل موجود بلا نهاية، وهو المستحق الحمد خلوداً: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [يونس: 10]، وقوله تعالى: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 10]، وإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها.
اسم الله الحميد ذكر سبع عشرة مرة في القرآن المجيد، فهو سبحانه الغني الحميد، وهو سبحانه الولي الحميد، الذي والى بين مِنحه ونِعمه، وتابع بين آلائه ومِننه، وأنعم على الخلائق بنعم لا تعد ولا تحصى، قال تبارك وتعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18], وقوله سبحانه: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34].
وقد اقترن اسم الله الحميد باسمه الغني كما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15]، وقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الممتحنة:6]. واقترن اسمه الحميد بالعزيز كما في قوله تعالى: ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) [سبأ:6]، وقوله: ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) [البروج:8], واقترن بالولي: ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) [الشورى:28]، واقترن بالمجيد في قوله: ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيد ٌ) [هود:73] واقترن بالحكيم: ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) [فصلت:42].
فالله سبحانه هو الحميد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال أتمها وأحسنها، فإن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل والعدل، فهو الحميد لكثرة صفاته الحميدة، والله سبحانه حميد من وجهين:
أحدهما: أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم، والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا، والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضاً، ومقدراً حيثما تسلسلت الأزمان، واتصلت الأوقات حمداً يملأ الوجود كله العالم العلوي، والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عد، ولا إحصاء فإن الله تعالى مستحقه من وجوه كثيرة:منها أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة، والباطنة الدينية، والدنيوية، وصرف عنهم النقم، والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور إلا هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه، ويشكروه بعدد اللحظات.
الوجه الثاني: أنه يحمد على ماله من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أكملها، وأعظمها فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد، والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله الدائرة بين أفعال الفضل، والإحسان، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأحكام الجزاء في الأولى، والآخرة، وتفاصيل حمده، وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار، ولا تحصيها الأقلام.
عباد الله: إن الحمد مقام عظيم وعبادة كبرى، والحمد يعنى الشكر والثناء، وهو المكافأة على العمل، وحقيقته وصف المحمود بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم, لأنه لو لم يكن الحمد مع المحبة والتعظيم فإنه حينئذ يكون نفاقا وتزلفا، والحمد والشكر مُتَقاربان لكن الحمد أعَمُّ من الشكر, لأنّك تحمَد الإنسان على صِفاته الذَّاتِّية وعلى عطائه ولا تَشْكُره على صِفاته، والتحميد كثرة حمد اللَّه سبحانه بالمحامد الحسنة، والمحمود المشهور بفعل الخير للغير، ورد من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ" [البخاري(614)]، ومعنى ابْعَثْه المقَام المحمود الذي وَعَدْتَه أي الذي يَحمْدَه فيه جميع الخلق لتعْجيل الحساب والإراحة من طُول الوقوف.
والله سبحانه وتعالى حمد نفسه في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، ربط فيه بين مقام الحمد والثناء له عز وجل وبين نعم كثيرة ظاهرة وباطنة, ليتفطن الخلق إليها فيحمدوا ربهم عليها, من هذه المواضع:
أولا: الحمد وخلق الكون، قال تعالى ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )[ الأنعام الآية: 1 ]، وفي آية أخرى قال تعالى ولاحظ المعنى: ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) [هود 119]؛ أي خلق الخلق ليسعدهم، خلق الخلق ليرحمهم، هذه آية أولى.
ثانيا: الحمد والهداية وقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) [الأعراف الآية: 43]، وقال الصادق الأمين فيما يرويه عن رب العزة كما في حديث أبي ذر الغفاري" يا عبادي، كُلُّكم ضالّ إلا مَنْ هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أهْدِكم " [أخرجه مسلم(2577)]؛ فقرن الله بين الحمد ونعمة الهدى.
ثالثا: الحمد وإنزال الكتب السماوية قال تعالى:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) [الكهف الآية: 1]؛ فالله جعل لنا منهجاً، افعل ولا تفعل؛ حيث بينا لنا في هذا الكتاب العظيم أحكامه، وأطلعنا على حدوده خيرها وشرها نافعها وضارها ما يحب وما يكره طريق الجنة من طريق النار؛ ولهذا وذاك يستحق الحمد كله علانيته وسره أن يحمد نفسه ويحمده الحامدون.
رابعا : الحمد والتنزيه قال تعالى: ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) [ الإسراء 111]؛ فالله سبحانه حمد نفسه على عدم اتخاذ الولد، لأن اتخاذ الولد لا يؤكد صمدية الله عز وجل، الله صمد لا يحتاج إلى أحد، اتخاذ الولد لا يؤكد صمدية الله عز وجل، ولا يؤكد غناه عن خلقه، ولا يؤكد ملكه، ولا عبوديتنا له حمد نفسه أيضاً على عدم اتخاذ الشريك، لأن الله متفرد بالربوبية والإلوهية.
خامسا: الحمد ونعمة الذرية قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ )[إبراهيم 39]. فلينتبه كل محروم من ولد أن حمده سبحانه تعالى هو أول خطوات الحصول والحفاظ على هذه النعمة التي يطوق إليها كل محروم منها.
سادسا: الحمد والنجاة من الظالمين قال تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [المؤمنون 28]؛ الله فوق الأقوياء، فوق الظالمين، فوق الطغاة، الطغاة دمى بيده، في أي لحظة ينتقم منهم، يكف شرهم، الله هو القادر على أن ينجي المؤمنين من كيد الظالمين والمجرمين.
سابعا: الْحَمْدُ والوعد الصدق قال تعالى : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ) [ الزمر 87], الجنة وعد من خالق السماوات والأرض لكل إنسان مؤمن حامد لنعمه وخيراته.
ثامنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ والراحة الحقيقية أحياناً يكون العبد في ضيق، في يأس، في ألم، في قهر، الله عز وجل يزيح عنا هذا الألم. ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ )[ فاطر 34].
اللهم إن نسألك بأن الحمد لك كله عدد الأمطار وورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، الحمد لله الحميد الذي يُحمد في كل خلقه على ما كل ما فعل، اللهم اجعلنا من عبادك الحامدين الشاكرين الذاكرين ليلا ونهارا، سرا وجهارا.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا، وأثني عليه وأشكره شكرا جزيلا، وأذكره وأسبحه بكرة وأصيلا، وأصلى وأسلم على رسوله القائم ليلا طويلا، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله: قد يسأل أحدنا نفسه هذه معاني ودلالات اسم الله الحميد, فمن هو الحامد أو الحميد من البشر؟ أن الحميد من العباد هو من حسنت عقيدته وأخلاقه وأعماله وأقواله،ووصل لدرجة الكمال في الحمد, ولم تظهر أنوار اسمه الحميد جلية في الوجود إلا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلنا ندرك من خلال أحاديثه كيف كان حمده عليه الصلاة والسلام، وأستشعر هذه الكلمات وأنت تتذكر كيف أمطر الله تعالى عليك نعمه، عن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ،.." [البخاري (1120)].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: " رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ: اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" [مسلم(477)]. وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ: " أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَعَضَّلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ، فَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَكْتُبَانِهَا، فَصَعِدَا إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَا: يَا رَبَّنَا، إِنَّ عَبْدَكَ قَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ عَبْدُهُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ قَالَا: يَا رَبِّ إِنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: "اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي، حَتَّى يَلْقَانِي فَأَجْزِيَهُ بِهَا" [ابن ماجه(301)].
إننا لما نسمع حمد النبي صلى الله عليه وسلم وثناءه، نشعر أن كل نفس وكل حركة، وكل قطرة دم تجري في عروقه, وكل نظرة عين وكل حركة لسان تريد أن تنطق، وكل دقة قلب وكل نبضة عرق كانت بحمد الله سبحانه، قال الله: (ومَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]
.
عباد الله: أيها الموحدون المحبون، أين أنتم من نبيكم صلى الله عليه وسلم في حمده لربه عز وجل ؟! . أما يستحي الواحد منكم من شكره الجزيل وثنائه البالغ للبشر إذا قدّم واحد منهم إليه معروفاً؟! وهذا ليس بخطأ أن تشكره، بل هو مما علمناه ديننا الحنيف، فقد روي من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاس" [أبو داود(4811)]، إلا أن المصيبة ألا يكون للمنعم من حمدك وثنائك، أما نستحي أن نعطي للخلق مالا تعطي للخالق الحميد سبحانه وتعالى؟! وهو سبحانه الحميد، الذي كل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، وشاهدة بمجده.
ألا تستحي أن الكون كله بسماواته وأرضه وجبله وسهله ومائه ويابسه وطيره وزواحفه يلهج بذكره ويسبحه سبحانه: (وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..) [الإسراء: 44]، وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [النور: 41]، وتكون الوحيد من يصد ويند عن ذكره وشكره وينأى عن ثنائه وحمده، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الرَّحْمَنِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا فَسَكَتُوا، فَقَالَ: " لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى الجِنِّ لَيْلَةَ الجِنِّ فَكَانُوا أَحْسَنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِهِ (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن: 13]، قَالُوا: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الحَمْدُ" [الترمذي(3291)]، فالكون كله يسبح حتى الرمال، والجماد والكائنات، (وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44].
عباد الله: إن من أعظم نعم الله علينا، والذي يوجب حمده علينا، أن جعلنا عبيداً له خاصة، ولم يجعلنا عبيداً لإله باطل من حجر أو خشب، لا يسمع مناجاتنا، ولا يبصر أفعالنا، ولا يعلم أحوالنا، ولا يملك لعابديه ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى، وهذا كله يستوجب حمده وشكره على آلائه وإحسانه وإنعامه، فلله الحمد كله على ما أنعم به من غذاء الأبدان، وله الحمد على ما تفضل به من غذاء القلوب والأرواح، وله الحمد على ما أعطى ومنع، وعلى ما قدم وأخر، وعلى ما قضى وقدر، وعلى ما شرع وأمر.
ويجب على كل مسلم أن يعرف كيف يكون حمد العبد لربه؟ فحمد الله يقتضي اعتقاداً وسلوكاً, أي أنك أيها المسلم لا تسمى حامداً إلا إذا اعتقدت اعتقاداً معيناً، وإلا إذا سلكت سلوكاً معيناً، أما الاعتقاد فأن توقن بأن الحمد يقتضي مدح المحمود بصفات الكمال كله قال تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، فيقتضي الاعتقاد الصحيح لمن حمد الله أن يمدحه بصفات الكمال كلها، ونعوت الجلال كلها. ولابدّ لكي تكون حامداً لله من اعتقاد وسلوك، الاعتقاد أن تعتقد أن الله سبحانه وتعالى كمالاته مطلقة، صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى ومع أن هذا الكمال ذو جلال، ومع الجلال المحبة، ومع المحبة الرضا، ومع الرضا الخضوع، هكذا تكون عقيدة الحامد لله عز وجل, لكن لا يكون حامداً لله من جحد صفات المحمود، يعني إذا إنسان اعترض على شيء من أفعال الله لا يعد حامداً.
ولا يكون المرء حامداً لله من جحد صفات الله، ولا من أعرض عن محبته، أو لم يخضع له، ما دام لم تخضع لله أنت لست حامداً له، ما دام لست راضياً عنه أنت لست حامداً له، ما دام محبتك ضعيفة أنت لست حامداً له، ما دام هناك شك بكماله أنت لست حامداً له.
عباد الله: من ازداد معرفة بالله ازداد محبة له, فالحمد معرفة بالله،فكلما ازدادت معرفتك بالله ازداد رضاك عنه, لذلك الله عز وجل ذم آلهة الكفار، وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها، فقال إنها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تتكلم، ولا تهدي، ولا تنفع، ولا تضر، ولا تميت، ولا تحيي، سلب الله عنها صفات الكمال، ومن لوازم معرفة الله عز وجل أن تحمده.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، ونسألك اللهم الفوز بالجنة والنجاة من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى.
اللهم إنا نسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح نياتنا، وأصلح ذرياتنا، وأصلح أزواجنا، وأصلح ذات بيننا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي