عبادَ الله: أجمع المسلمون على أنّ الصحابة رأسُ الأولياء، وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين، وأسوة المسلمين، وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين، جمَعوا بين العلم بما جاء به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وبين الجهادِ بين يديه، شرّفهم الله بمشاهدة خاتَم أنبيائه وصُحبته في السّراء والضّرّاء وبذلِهم أنفسَهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله، حتّى...
الحمد لله الذي رضي الإسلام لنا ديناً، وبعث رسولَ الهدى والحق يهدينا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وألَّفَ بين القلوب وبسط لها أشرعة الحب والوئام، وأشرق في الأفقِ نُورُ الأنْصَارِ بِالإِيثَارِ، بعد أن كانوا أوساً وخزرجاً، ونجاهم الله من الأخطارِ بعد أن ساروا فيها لُجَجاً، فأضْحَواْ سادةَ الدُّنْيَا بالإيمان، فَلَهُمُ البُشْرَى والمجد إلى آخر الأزمان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، ناصر دينِهِ بالمؤمنين، وهاديهم إلى صراطه المستقيم بالنبي الأمين.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، قائد الغر المحجلين، ومعلم المهتدين من السابقين الأولين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها الإخوة في الله- إن لله أقواما ساروا بهذا الدين حتى بلغوه، وحملوا لواء الشريعة ولم يتركوه، فنالوا العزِّ من ذراه، واشتملهم الهدى إلى منتهاه، كانوا بشراً كالبشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، قد عذبت أمانيهم في الخير حتى صاروا أئمة المهتدين، ونبراساً ومعلماً وقدوةً في العمل لهذا الدين، فرحم الله منهم السابقين واللاحقين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إنهم من مدحهم الله -تعالى- في كتابه، وأثنى عليهم الثناء العاطر، ومعهم المهاجرون والمتبعون لهم بإحسانٍ، قال الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 100].
إنهم الأنصار؛ حديثهم راحة النفوس الكليلة، وذكراهم تجلو القلوب العليلة، ولا يجد المؤمن الصادق سلوى الفؤاد المنكود بتربص الباغين، وندرة القدوات، وقلة الناصرين والمؤازرين للمؤمنين، إلا بتتبع سيرهم، ومعرفة شيءٍ من أحوالهم.
إنهم قومٌ لهم أعلى مكانةٍ في السابقين، والمجاهدين والصالحين، والذاكرين والمواسين، والمؤثرين والمنفقين، ولم يكن لهم في قاموس المعاني من الأنانية والكد والصَّدِّ والإلجاء، والجُبْنِ والبُخْل،ِ والاستغلال والجحود، وخفر العهود أدنى نصيبٍ من المعنى، حتى طاولوا منازل الملائكِ الكرام حُبّاً ووفاءً، ومَرْحَمَةً وبِرّاً، هُمْ وإخوتهم من المهاجرين:
هُمُ النَّاسُ إِنْ عُدُّوا وإِنْ ذُكِرُوا *** وَمَا سِوَاهُمْ فَلَغْوٌ غَيْرُ مَعْدُودِ
والحديث -أيها المسلمون- عن الأنصار مترعٌ بمعاني الحمدِ الخُلُقِيّةِ والإيمانية التي لا يعقلها إلا العالمون.
ونحن بحاجة إلى الحديث عنهم، والسماع لأخبارهم العذبة، في وقتٍ صار فيه الهوى والمصلحة هما الحاكمان في كثيرٍ من مواقفنا ورؤانا.
نحتاج إليهم بلا اختيارٍ؛ لأنهم هم الذين ضربوا أروع الأمثلة في إنكار الذات والافتداء.
ولا شك أنهم لم يغنموا هذه النعوت الفاضلة إلا بمناقبهم وتميزهم الذي اختصوا به من بين الناس، فلا تكريم في الإسلام إلا بسببٍ.
أيها الإخوة في الله: لقد كان من أشهر مناقبهم العامة: أن الإسلام قد دخل المدينةَ عن طريق النقباء، الذين كانوا دلائل الدين وسفرائه في قلوب سكانها الأكارم، وقد عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيعة الأولى للعقبة، ثم العقبة الثانية.
وهم الذين استقبلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرته إلى المدينة بلهفة المشتاق، وحُداء البهجة والترحاب.
ووصل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - إلى المدينة المنورة على إثر النقباء للدعوة إلى الإسلام في هذه البقعة التي تشرفت بعد ذلك بسكنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها.
ولما وصل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأشرق نوره على المدينة المباركة، كان كل واحدٍ منهم له طِلبةٌ غاليةٌ في نفسه، قد صرح بها الجميع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن يساكنهم في دورهم، وكان كل واحدٍ منهم يمسك بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يفوز بهذا الأمل.
ومن مناقب الأنصار: أنهم أهل المؤاخاة مع المهاجرين مع أنهم كانوا يملكون الضياع والنعم والأموال؛ بينما ترك المهاجرون كل ذلك في مكة، فكانت أخوتهم نموذجاً باهراً للإيثار والبذل والعطاء.
وقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما في دار أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -، وكانوا ستين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى وقعة بدر، فأنزل الله - تعالى -: (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ)[الأنفال: 75].
وعلى هذه الشاكلة كان حالهم يُنْبِئ عن العطاء في أبهى حلله، فقد روى البخاري - رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: "لا"، فقالوا: أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟! قالوا: سمعنا وأطعنا".
ولأنهم أهل عطاءٍ تَتَقَاصَرُ عن فهمه وإدراكه عقولُ البخلاء والممسكين، فقد وافتنا كتب التاريخ والسير بما ليس في العالمين مثيل؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: كانت الأنصار إذا جذوا نخلهم قسم الرجل تمره نصفين، أحدهما أقل من الآخر، ثم يجعلون السعف مع أقلهما، ثم يخيرون المسلمين؛ فيأخذون أكثرهما، ويأخذ الأنصار أقلهما؛ من أجل السعف حتى فتحت خيبر؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد وفيتم لنا بالذي عليكم؛ فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر وتطيب لكم ثماركم فعلتم" فقالوا: إنه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن لنا الجنة؛ قد فعلنا الذي سألتنا على أن لنا شرطنا. قال: " فذاك لكم ".
إنهم الأنصار، خير من واسى بالنفس والمال، قال الله -تعالى- في معرض المدح لهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].
أيها المتآخون المتحابون في الله: إن لكل عطاء له في ساحة النفس حدودٌ يقف عندها، ولا يبارحها إلا عند هؤلاء القوم الذين قدموا صورةً للتاريخ يرويها مندهشاً من هذه الثلة المباركة مهاجرين وأنصاراً، وتأمل هذه الصورة العجيبة في العطاء وفي التعفف أيضاً، روى أنس بن مالكٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: "لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، قال: فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟. قال: سوق قينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقطٍ وسمنٍ، قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تزوجت؟" قال: نعم، قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار، قال: كم سقت؟ قال: زنة نواةٍ من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أولم ولو بشاة".
ومن مناقبهم الجامعة: أن الله -تعالى- قد عبر بدخول الإيمان إلى القلوب عندما تحتوى نسمات هذا الإيمان، أما مع الأنصار فالأمر له شكلٌ آخر يخبرك أنهم هم الذين كأنهم يسكنون في الإيمان، لا أنه يملأ قلوبهم فقط، قال الله -تعالى- عنه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ)[الحشر: 9].
ولذلك قال النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"[السيوطي في الجامع الصغير 1958 بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه-].
ولأنهم أهل قلوبٍ حيّةٍ متفاعلةٍ مع المشاعر الطهورة، فقد نمّى النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - هذا الحب فيهم، بعدما آنس منهم هذه الكنوز الساكنة في دواخلهم، يروي الصحابي الجليل أبو سعيدٍ الخدري صفحةً مجيدةً من هذا الحب المكنوز في القلوب بشكلٍ جماعيٍّ، فيقول: "لما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه؛ فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء. قال: " فأين أنت من ذلك يا سعد؟ " قال: يا رسول الله! ما أنا إلا امرؤ من قومي. قال: " فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة " قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة. قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا. وجاء آخرون فردهم. فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال: فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل. ثم قال: "يا معشر الأنصار مقاله بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالةَ فأغناكم الله، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟" قالوا: بل الله ورسوله آمن وأفضل. قال: " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ "قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المن والفضل. قال: " أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعةٍ من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رحالكم، فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار". قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وتفرقنا".
وعلى ساحة المشاعر الفردية من بيان الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقف مع الصحابي الجليل سعد بن الربيع - رضي الله عنه -، لنلمح مشهداً آخر من الحب الذي ليس له في دنيا الناس حدٌ معلومٌ؛ فعن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة وهو يحدث عن مشاهد أحد إثر القتال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من رجل ينظر لي ما فعل سعد ابن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر، فوجده جريحا في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلامي! وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته! وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.
معاشر المؤمنين: لقد أكد النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - على حب الأنصار، وجعل ذلك من حسن الإيمان لكل المؤمنين، ولا أدل على ذلك من مبادلته لهم هذه المحبة بقوله للأنصار فيما يرويه أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيانا ونساءً مقبلين من عرس، فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم – ممثلا، فقال: "اللهم! أنتم من أحب الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ"- يعني الأنصار-.
ومن شدة حبه لهم قال أيضاً كما سبق: "لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ".
ثم أمر المؤمنين بمحبتهم وحذر من مغبة بغضهم، فقال: "الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ".
ويبشرهم النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيلقاهم عند الحوض في الجنة، بقوله: "مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ".
وهذه من عاجل البشرى؛ لأنهم افتدوا هذا الدين وهذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، دون أن تكون لهم في عالم الأطماع الدنيوية شيئاً مذكوراً أو غير مذكورٍ، لهذا استحقوا هذه البشرى، يذكر السرجاني في أحد كلماته، فيقول: "سبحان الله، الأنصار قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، فيخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئاً في دنياهم".
لهذا بالغ الصحابة أيضاً من غير الأنصار في إكرام إخوانهم الأنصار، وهذه صورةٌ معبرةٌ؛ يقول أنس بن مالكٍ -رضي الله تعالى عنه-: "خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفرٍ، فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، آليت أن لا أصحب أحداً منهم إلا خدمته".
زاد ابن المثنى وابن بشار في حديثهما: "وكان جرير أكبر من أنس".
وقال ابن بشار: "أسن من أنس".
كل هذا وجريرٌ أسنُّ من أنسٍ مع أنه سيدُ له مهابةٌ ومكانةٌ في قومه، ولكن الإيمان له في أهله معلمٌ آخر يوافي العقول المتأملة بالعجائب.
وأجمل بقول كعب بن زهير - رضي الله عنه - في الأنصار مدحاً:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الحَيَاةِ فلا يَزَلْ *** في مِقْنَبٍ مِن صَالِحِي الأَنْصَارِ
تَزِنُ الجِبَالَ رَزَانَةً أَحْلامُهُمْ *** وَأَكُفُّهمْ خَلَفٌ مِن الأَمْطَارِ
المُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ *** كَصَوَاقِلِ الهِنْدِيِّ غيرِ قِصَارِ
والنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ *** كالجَمْرِ غيرِ كَلِيلَةِ الأَبْصَارِ
والذَّائِدِينَ النَّاسَ عنْ أَدْيَانِهِم *** بالمَشْرَفِيِّ وبالقَنَا الخَطَّارِ
والبَاذِلِيْنَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ *** يومَ الهِيَاجِ وَقُبَّةِ الجَبَّارِ
فهم قدوة الخير لكل مقتدٍ في العطاء لله ولدينه بلا حدودٍ ولا كللٍ، وموعده الحسنى يوم يلقى ربه راضياً مرضياً.
فلنجعلهم قدوةً لنا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- في أجمل معانيهم التي تتعطش إليها حياة المؤمنين.
أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية
أمّا بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتّقوى سبيل الفلاح وطريقُ النّجاح، وعزٌّ في الدنيا ورفعة في الآخرة، قال الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عبادَ الله: أجمع المسلمون على أنّ الصحابة رأسُ الأولياء، وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين، وأسوة المسلمين، وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين، جمَعوا بين العلم بما جاء به رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وبين الجهادِ بين يديه، شرّفهم الله بمشاهدة خاتَم أنبيائه وصُحبته في السّراء والضّرّاء وبذلِهم أنفسَهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله، حتّى صاروا خيرةَ الخِيَرة وأفضلَ القرون بشهادة المعصوم-صلى الله عليه وسلم-.
هم خيرُ الأمَم سابقِهم ولاحقهم، أولِّهم وآخرهم.
هم الذين أقاموا أعمدَة الإسلام، وشادوا قصورَ الدّين، قطعوا حبائلَ الشّرك، أوصلوا دينَ الإسلام إلى أطرافِ المعمورة، فاتّسعت رقعة الإسلام، وطبَّقت الأرض شرائعَ الإيمان، فهم أدقّ النّاس فهمًا وأغزرُهم علمًا، وأصدقهم إيمانًا، وأحسنهم عملاً.
كيف لا، وقد تربّوا على يدَي النبي –صلى الله عليه وسلم-، ونهلوا من ماء معينه الصّافي، وشاهدوا التنزيل، روى أحمد عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: "إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلبَ محمّد –صلى الله عليه وسلم- خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمّد –صلى الله عليه وسلم- فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيّه، يقاتلون على دينه، نصَروا رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- في غزواته وحروبِه، بايَعوا على بذلِ أنفسهم في سبيل الله، أخرج البخاريّ عن أنس - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداةٍ باردة، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلمّا رأى ما بهم مِن النصَب والجوع، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ إنّ العيش عيش الآخرة، فاغفِر للأنصار والمهاجِرة".
نال الصحابة - رضي الله عنهم - شرفَ لقاء النبيّ –صلى الله عليه وسلم-، فكان لهم النصيب الأوفى من محبّته وتعظيمه، سُئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كيف كان حبُّكم لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ؟ قال: كان والله أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا، وآبائنا وأمّهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
حكّم الصحابة - رضي الله عنهم - رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- في أنفسهم وأموالهم، فقالوا: "هذه أموالنا بين يدَيك فاحكُم فيها بما شئت، هذه نفوسنا بين يديك، لو استعرضتَ بنا البحرَ لخضناه، نقاتِل بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك".
وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: "وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئِلت أن أصفَه ما أطقتُ، لأنّي لم أكن أملأ عيني منه".
نحن نحبّ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا نفرّط في حبّ أحدٍ منهم، ولا نتبرّأ من أحدٍ منهم، ولا نذكرهم إلا بالخير، ونشهد لجميع المهاجرين والأنصار بالجنّة والرضوان، والتّوبة والرحمة من الله، ويجب أن يستقرَّ علمك وتوقِن بقلبك أنّ رجلاً رأى النبيّ –صلى الله عليه وسلم- وشاهده وآمن به واتّبعه ولو ساعة من نهار أفضل ممّن –لم- يرَه ولم يشاهده، ثمّ التّرحّم على جميع أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صغيرهم وكبيرهم، أوّلِهم وآخرهم، وذكر محاسنِهم، ونشر فضائلهم، والاقتداء بهديِهم، والاقتفاء لآثارهم.
نكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقد شهدوا المشاهدَ معه، وسبقوا النّاس بالفضل، غفر الله لهم، وأمر بالاستغفار لهم والتقرّب إليهم وبمحبّتهم، فرضَ ذلك على لسان نبيّه –صلى الله عليه وسلم-، فلا يتتبّع هفواتِ أصحابِ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وزللَهم إلاّ مفتون القلبِ في دينه.
وأفضلُ الصّحابة الخلفاءُ الأربعة، ثمّ بقيّة العشرة المبشّرين بالجنة، قال صلى الله عليه وسلم: "خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر ثمّ عمر".
وقال صلى الله عليه وسلم: "اقتَدوا باللّذَين من بعدي: أبي بكر وعمر".
وفي صحيح مسلم: أنّ أصحاب النبيّ –صلى الله عليه وسلم- كانوا في سفر، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا".
الصحابة كلُّهم مِن أهل الجنّة، قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[الحديد: 10].
ألا وصلّوا -عبادَ الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي