ولقد لمس السكان من غير المسلمين حسن معاملة المسلمين لهم، فأثار ذلك دهشتم وقادهم إلى تقبل الإسلام وحب أهله والاندماج معهم، وكان من نتائج ذلك أن عاش المسلمون مع الآخرين بهذه الأخلاق العالية والمثل الرائعة، لا اعتداء على حقوقهم ولا على أعراضهم، بل عدل ووفاء وتكريم وتعظيم وسماحة وإنصاف، فأدرك الأسبان أن المظالم انتهت وذهبت الطبقية، فأقبلوا على...
تحدثنا في الجمعة الماضية كيف تم فتح بلاد الأندلس، وكيف انتشر الإسلام فيها، ولم يكن هذا الفتح حدثًا عسكريًّا وسياسيًّا فحسب، بل الأهم من ذلك أنه كان فتحًا إنسانيًّا وبداية لحدث حضاري فريد لإسبانيا وأوروبا على حد سواء، ولا يزال هذا الأثر باقيًا حتى يومنا هذا، فلقد قضى الإسلام على الأوضاع التي سبق وصفها قبل الفتح، فلم تعد هناك طبقة حاكمة ومتحكّمة، وزال سلطان الكنيسة ونفوذ رجالها، وانتهت عبودية الأرض والعبيد الذين يباعون مع الأرض، حيث تحرر كل من دخل منهم الإسلام، وقد دخل أكثرهم الإسلام لأن همَّ الفاتحين دومًا العمل على نشر الدين الإسلامي بين الناس أخذًا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خَيرٌ لك من حمر النعم"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عني ولو آية".
كان أول عمل يقوم به الفاتحون هو إقامة المساجد، وهو مركز نشاط المدينة المسلمة وقلبها النابض، وفيه يتمّ التخطيط لكل ما هو نافع للدين والدنيا من إقامة المنازل ومعالمها والطرق والمرافق الأخرى، وغدت القيم والتعاليم الإسلامية في أخلاق الفاتحين والدعاة أمثلة حية متحركة تشاهد عيانًا لجميع الناظرين، فيدخلون في دين الله أفواجًا؛ لأن جميع أفراد الجيش الإسلامي كانوا دعاة لكونه جيش عقيدة، فكلهم يفقه دينه ويهمه خدمة الإسلام ونشره بأقواله وأفعاله، لا سيما أن فيهم كثيرًا من الصحابة والتابعين.
ولقد لمس السكان من غير المسلمين حسن معاملة المسلمين لهم، فأثار ذلك دهشتم وقادهم إلى تقبل الإسلام وحب أهله والاندماج معهم، وكان من نتائج ذلك أن عاش المسلمون مع الآخرين بهذه الأخلاق العالية والمثل الرائعة، لا اعتداء على حقوقهم ولا على أعراضهم، بل عدل ووفاء وتكريم وتعظيم وسماحة وإنصاف، فأدرك الإسبان أن المظالم انتهت وذهبت الطبقية، فأقبلوا على اعتناق هذا الدين القويم، ومن بقي على دينه منهم ارتضى حكم المسلمين وتشريعهم.
وسيبقى أمر انتشار الإسلام في إسبانيا مثيرًا للدهشة أكثر مما يثيره انتصاره الباهر في فتحه لها، وسوف نرى لاحقًا كيف انهار الإسلام في إسبانيا بعد أن بَعُد الحاكم والمحكومون عن الدين وتخلوا عن تعاليمه وشغلتهم الدنيا ونعيمها.
بعودة موسى بن نصير وطارق إلى دمشق وتوقف المدّ الإسلامي في الأندلس انتهى عهد الفتوح وبدأ عهد جديد سمّي عهد الولاة، واستمر حوالي 42 سنة، ويمثل هذا العهد التحول والانتقال إلى حياة جديدة خيرة انتعش الإسلام فيها في الأندلس وكثر معتنقوه، ولقد حدث نزاع قبلي في الثلث الأخير من هذا العهد، ولكنه لم يدم كثيرًا، وسارت الأمور في طريقها وعادت روح الجهاد ترتفع وازداد المد الإسلامي إلى أن سقطت الدولة الأموية في الشام وتفككت الأندلس إلى ستّ وعشرين دويلة صغيرة، وهنا بدأ عهد الإمارة على أجزاء من بلاد الأندلس، وتحسنت الأحوال وساد الهدوء وبدأ عهد الإنتاج والنموّ، إلا أن بعض الولاة سَعَوْا للانفصال عن السلطة المركزية الأندلسية والقضاء عليها بأي ثمن؛ لأنهم بعدوا عن الإسلام واستعانوا بـ"شارلمان" إمبراطور الدولة الفرنجية ليعاونهم في تحقيق هذا الهدف الأثيم ويصبحوا له وكلاء وخدمًا على الأقاليم يسمعون ويطيعون له شريطة البقاء في مراكزهم أمراء، ويا حبذا الإمارة ولو على الحجارة!
ومن هنا بدأت الفتن والانسلاخ من تعاليم الدين والذي يحثّ على أن يكون الدين هو الفيصل في كل قضية ومُحَكَّمًا في كل شؤون الحياة، فاستحسن "شارلمان" فكرة هؤلاء الخونة، فقام بحملة للاستيلاء على مدينة سَرَقسْطَه، إلا أن أحد الخونة تيقّظ ضميره وأبى الخيانة وحصّن المدينة، وحين وصلها "شارلمان" حسب الاتفاق وجدها محصنة واستعصت عليه وطال حصارها، فاضطر إلى العودة أدراجه خائبًا خاسرًا وشك في نوايا الخونة وخطط لأخذهم أسرى عنده.
إن ضعفَ الالتزام بمبادئ الدين وتعاليمه عند كثير من المسلمين حكّامًا ومحكومين كان من العوامل القوية والمباشرة التي أدّت إلى ضعف المسلمين في الأندلس، ويتأكّد هذا الأمر إذا تذكّرنا أن المسلمين الأوائل لم يدخلوا تلك الديار ولم يحكموها وهم أقوياء أعزاء إلا حينما كان شرع الله مهيمنًا عليهم، وحين استشرت الأنانية وحبّ الذات لا سيما عند عِلية القوم، فأصبح لا همّ لأحدهم إلا السعي من أجل تحقيق مصالحه الذاتية وإشباع أنانيته وتثبيت أقدامه في السلطة على حساب المسلمين ومصالحهم، وكان بين هؤلاء الحكام والزعماء من التحاسد والتنافس والغيرة ما لا يكون بين الضرائر المترفات، وانصبّت جهودهم على توفير ما يخدم مصالحهم الخاصة، فأصبح مألوفًا عند الناس بل ظاهرة ألفها الكبير وتربى عليها الصغير وأنهم يقدّمون في هذا السبيل كل شيء حتى قال أحد الشعراء المعاصرين عنهم: "والله، لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها"، فنحن نراهم يستنجدون بالنصارى ضدّ إخوانهم ويمكنونهم من حرمات المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وإن بعضهم لكي يضمن البقاء على سدة الحكم طلب من بعض القوى النصرانية حمايته مقابل دفع أموال طائلة لهم، هكذا كانت حالة أولئك القوم، فقد غرقوا في مستنقع حب الذات والأنانية ومصالحهم الخاصة عن مصلحه المسلمين، وهذا مما جعلهم يفرضون الضرائب والإتاوات على الشعب من أجل تقديمها للنصارى الذين يقومون بحماية عروشهم، وأن أي دعوة صادقة إلى الجهاد والإصلاح يعدّها خطرًا يهدد كيانهم وصيحات تدعو للقضاء عليهم، فازداد بذلك الضغط على الشعب، ففزع الناس وقلقوا وجعلوا يطلبون النجدة والمساعدة من أي جهة أو شخص كانوا يتوقعون أن لديه القدرة على الإصلاح أو تغيير هذا الواقع المرير.
فلجأ الناس إلى أحد العلماء المعروفين بالصلاح والتقوى، فأنكر هذا على الحكام ووعظهم وبين لهم ما جاء في الشرع وما ينبغي فعله في مثل هذه الظروف، ولكنه قتل غيلة بسبب جرأته، والأمر لله من قبل ومن بعد.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون: ذكرنا أن الدولة الأندلسية الكبرى تفكّكت إلى ست وعشرين دويلة، صغيرها يحكمها ملوك سمُّوا ملوك الطوائف أو زعماء الفتنة، واقتسموا ألقابَ الخلافة، فمنهم من تسمى بالمعتضد، وبعضهم تسمّى بالمأمون، وآخر تسمى بالمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والمتوكل، إلى آخر الألقاب، ولقد صور ذلك الواقع الشاعر الأندلسي ابن رشيق حينما قال:
مِما يُزهدني فِي أرضِ أنـدلسٍ *** سَمَـاعُ مقتدرٍ فيهـا ومعتضدِ
ألقاب مملكةٍ في غير موضعـها *** كالهرِّ يحكي انتفاخًا صولة الأسد
وكانت السمة الغالبة في علاقات ملوك الطوائف فيما بينهم هي العداء المستحكم والخصام الدائم والتوسع على حساب القوى المجاورة مهما كانت الوسيلة المؤدية إلى ذلك، سواء أكان ذلك بالحرب أم بالخيانة أم بالمؤامرات أم يغيرها.
لقد وصف المؤرخون أولئك القوم بأن تصرفاتهم بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي الذي يأمر بالقسط والعدل والإحسان والرحمة؛ حيث أدى غياب الوازع الديني من النفوس إلى حدوث خلل عام بدت صوره ومظاهره واضحة للعيان، ولعل من أهمها سوء علاقات ملوك الطوائف بمن ولاهم الله أمرهم من المسلمين، حيث كانت تلك العلاقات تقوم على التسلط والقهر والظلم والاستعلاء، وكانوا مستبدين متساهلين في سفك الدماء، وذكر المراكشي أن المعتضد بالله العابدي قتل ابنه، واغتصب مال رجل أعمى ثم قتله، وقتل رجلاً بعد ذلك من المؤذّنين فرّ منه إلى مدينة أخرى. وأفاضت كتب التاريخ في وصف حديقة الرؤوس المحنطة التي أودعها هام الملوك والرؤساء الذين أبادهم بسيفه. هكذا كان منهج المعتضد بن عباد مع الرعية، وهذا نتيجة طبيعية للبعد عن منهج الله وتحكيمه في كل شؤون الحياة؛ ولهذا وصفه ابن بسام بأنه قُطْبُ رحى الفتنة ومنتهى غاية المحنة، إذ كان لا يتورّع عن أية وسيلة لتحقيق غايته مهما كانت مجافية لمبادئ الأخلاق والشهامة، ولم يكن هذا السلوك خاصًّا بالمعتضد بالله أو بدولة بني عباد، بل كان مستشريًا بين معظم ملوك الطوائف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديمًا، فقال تعالى ولم يزل قائلاً عليمًا، وآمرًا حكيمًا، تنبيهًا لكم وتعليمًا، وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي