عباد الله: من تأمل هذه الأحاديث علم أن الله -تعالى- رؤوف بالعباد، ومن رأفته بالعباد نوع لهم طرق الخير، وعدد لهم سبل الوصول إلى جنته ورضوانه، فقد علم سبحانه أنهم ليسوا سواء، وعلم سبحانه أنهم مختلفو القدرات، مختلفو الطاقات، مختلفو الهمم، مختلفو العزائم، وكل...
الحمد لله، الذي خلق فقدر، وشرع فيسر، ونهى وأمر، وردع وزجر.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، يقبل التوبة، ويغفر الحوبة، وادخر تسعا وتسعين جزءا من رحمته، ليرحم بها الناس يوم الفزع الأكبر.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسل رحمة للعالمين، وحجة على العاملين، وأسوة للمؤمنين، وشافعا لهم يوم المحشر، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه السادة الغرر، وسلم تسليما.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها المسلمون- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي وصية الله للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
كما أنها وصية الحبيب -صلى الله عليه وسلم- لعموم أمته؛ كما جاء في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- حين قالوا له: كأنها موعظة مودع فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله" الحديث.
أيها المسلمون: روي عن عتبة بن عبد السلمي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الجنة لها ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب".
وفي الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون".
وفيهما أيضا من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة، يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان".
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء".
زاد الترمذي بعد التشهد: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".
وزاد أبو داود: "ثم رفع رأسه إلى السماء".
وقد وردت أسماء أربعة منها في الصحيحين، وهي: باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الريان، وباب الصدقة، كما في الحديث آنف الذكر.
والباب الخامس هو الباب الأيمن، وهو باب المتوكلين؛ كما ورد في حديث الشفاعة الطويل، ومما جاء فيه: "يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب"[رواه البخاري ومسلم].
والباب السادس: هو باب الوالد، قال عليه الصلاة والسلام: "الوالد".
وفي رواية: "الوالدة أوسط أبواب الجنة" أي: خير الأبواب وأعلاها. [رواه الترمذي وصححه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي].
والباب السابع: هو باب لا حول ولا قوة إلا بالله، قال عليه الصلاة والسلام لسعد بن عبادة: "ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ قلت: بلى. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله"[رواه الترمذي، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي].
وأما الباب الثامن من أبواب الجنة، فقد يكون: باب الحج، كما قال ابن حجر، وقد يكون: باب التوبة؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "للجنة ثمانية أبواب، سبعة مغلقة، وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه"[قال المنذري: رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني وإسناده جيد].
عباد الله: من تأمل هذه الأحاديث علم أن الله -تعالى- رؤوف بالعباد، ومن رأفته بالعباد نوع لهم طرق الخير، وعدد لهم سبل الوصول إلى جنته ورضوانه، فقد علم سبحانه أنهم ليسوا سواء، وعلم سبحانه أنهم مختلفو القدرات، مختلفو الطاقات، مختلفو الهمم، مختلفو العزائم، وكل ميسر لما خلق له، فلم يحصر ذلك في باب واحد، ليستطيع كل منهم أن يسابق في الباب الذي يستطيعه، وييسر له، وقد كان هذا منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانت إجابته لمن يسأله بحسب تنوع الحال عند السائل، فلما سئل عليه الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها، وبر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله"[رواه البخاري من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".
ومن هنا يتبين لك -أخي المسلم- خطأ الكثير من الناس حين يريدون من عباد الله أن يكونوا سواسية في الخير وطرقه، وليس هذا عدلا، فالناس: فيهم القوي، وفيهم الضعيف، ومنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومن سابق بالخيرات بإذن الله، وكل منهم من أهل الوراثة للكتاب.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين".
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "هذه الأمة يوم القيام أثلاث، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيرا، ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول الله: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا، فيقول الله: أدخلوهم في سعة رحمتي"[ ذكره الثعالبي].
أيها المسلمون: إن طرق الهداية متنوعة رحمة من الله بعباده، ولطفا بهم لتفاوت عقولهم وأذهانهم وبصائرهم.
ولقد حجر واسعا من قصروا الخير والنجاة من النار، والفوز بالجنة في باب واحد: فهو الجهاد عند بعضهم، وعند بعضهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعند آخرين هو طلب العلم، وعند آخرين هو الزهد، وهكذا، وليس الأمر كما زعموا، نعم لكل ما ذكر فضل، وفضل الجهاد معلوم، وفضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معلوم، كما هو معلوم أيضا أن سيد الشهداء حمزة، ورجل قام عند سلطان جائر فأمره ونهاه، فقتله، ولكن ليس كل الناس مطلوب منه ذلك كله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
وقال الله - تعالى -: (فَاتَّقُواْ اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16].
ولما أوجب بعض الناس على كل الناس أن يأتوا بالأمر كله حصل التنازع، والتكفير، والتجهيل، والتضليل، والتفسيق، والتبديع، وصنف الناس إلى مرجئ، وخارجي، وعميل، بل وقدح في بعض العلماء، بل أكابر العلماء، ونيل من بعض طلبة العلم، واتهمت نواياهم، وقلل من شأنهم، وانتهكت أعراضهم، والحامل عليه: هو الجهل بتنوع العبادات، وتفاوت الهمم، وعدم فقه الخلاف، والأمر أوسع من ذلك كله، فما على من أراد أن يدعى من الأبواب كلها من ضرورة، ولكن من يسر له في الصلاة، أو في الصيام، أو في الصدقة، فكل ذلك من أبواب الجنة، والقضية أن يدخل المرء الجنة، من أي باب.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير".
إخوة الدين والعقيدة: إن الحياة بنيت على التنوع، ومن هنا قال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُواْ كَآفَّةً) [التوبة: 122].
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يسافرون في رمضان، فيفطر بعضهم، ويصوم بعضهم، فلم يعب الصائم على المفطر، ولم يعب المفطر على الصائم.
وليس كل الصحابة سواء في عبادتهم، ولا في جهادهم، ولا في إيمانهم، فأبو بكر مثلاً ليس مثلَ بلال، وليس صهيب مثلَ علي - رضي الله عنهم أجمعين-، وإن شملتهم فضيلة الصحبة، ومن هنا قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد: 10].
وقال جل وعلا: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [النساء: 95].
فالكل موعود بالجنة، وإن تفاضلت منازلهم، ودرجاتهم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" الحديث.
وبوب النووي - رحمه الله تعالى- في كتابه الشهير رياض الصالحين، فقال: "باب بيان كثرة طرق الخير، وساق أحاديث كثيرة من أشملها حديث أبي هريرة في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعون خصلة، أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة"[رواه البخاري].
ثم إن رضى الله الذي هو أكبر من كل شيء، وأفضل ما في نعيم أهل الجنة كما قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].
هذا الرضوان الكبير والفضل العظيم يناله من فعل ما جاء من حديث أنس - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها"[رواه مسلم].
أيها المسلمون: إن بعض الناس يريدون من العلماء، ومن طلبة العلم، ومن عامة الناس جميعا أن يكونوا سواء في القدرات، وفي الأعمال، وفي الهمم، وفي العمل، وهذا طلب محال، مخالف للواقع، والجبلة، ولا يشترط في المسلم أن يكون عالماً، وأن يكون مجاهدا، صائماً، قائماً، آمراً، ناهياً...إلخ.
وإن كان هذا هو الأفضل، ولكن قد يفتح للمسلم باب، ويغلق عليه باب آخر، فانظر إلى الباب الذي يفتح عليك فيه، فاعمل، ولا تعب على آخر لم يفتح عليه من بابك نفسه ولكن فتح عليه من باب آخر، فلله الفضل والمنة.
قال محمد بن مصعب العابد: لسوط ضربه أحمد بن حنبل في الله أكبر من أيام بشر بن الحارث.
قال الذهبي معلقا: "بشر عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما الله يعلم ذلك".
وصدق الذهبي -رحمه الله- ففي الحديث الشريف أن قد غفر لبغي بسقيا كلب، ولرجل بشوكة أماطها من طريق المسلمين.
وقال الذهبي أيضا: الصدع بالحق عظيم، يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملاً، فهو صديق، ومن ضعف، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، ليس وراء ذلك إيمان، فلا قوة إلا بالله. [انتهى].
أيها الأحبة: لا يمكن للناس جميعا أن يكونوا صديقين، أئمة مجتهدين، وقد قسم الله الذين أنعم عليهم أربعة أقسام، النبيون، ولا يمكن أن نكون منهم، والصديقون، والشهداء، والصالحون، فمن استطاع أن يكون صديقا فهو أكمل، ومن استطاع أن ينال الشهادة في سبيل الله فما أعظم كرامته، ومن عجز عن هاتين الخصلتين فلا ضرر عليه أن يكون من الصالحين.
ومن كان من الصالحين فهو من المنعم عليهم، ومرافق للنبيين والصديقين والشهداء، والله يختص برحمته من يشاء والله واسع عليم.
قيل لمالك الإمام - رحمه الله تعالى -: "إنك تدخل على السلطان، وهم يظلمون، ويجورون، فقال: يرحمك الله فأين المكلم بالحق؟".
قال ابن عبد البر في التمهيد: هذا كتبته من حفظي، وغاب عني أصلي: إن عبد الله العمري العابد كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.
قلت: رحمه الله، ما أعلمه، وليت قومي يعلمون هذا، ويعملون به، إذا لزال كثير من تفرقهم واختلافهم، بل والعداوةِ بينهم، -فلا حول ولا قوة إلا بالله-، والحديث يطول لو أردت تتبعه، والمزيد عليه، ولعل فيما ذكرت إشارة، يفهمها اللبيب، وتنفع الحبيب، ويجتهد كل منا للعمل بما يرضي الله ما استطاع، والله هو الحسيب، وليس كل الناس ابن حنبل، ومالك، بل إن الأئمة في الناس قليل، فلا تطلبوا من الناس أن يكونوا أئمة جميعاً.
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: "ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات، والذي يحملهم على هذا الجهل، فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم؛ وهذا لأن الطباع لا تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو، إذ إن ضابطا هو الشرع، فيه الرخصة، وفيه العزيمة، فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط، ورب رخصة كانت أفضل من عزائم، لتأثير نفعها [انتهى].
وصلى الله على الحبيب وسلم إذ أعطى كل واحد من صحابته ما رأى أنه فتح عليه منه، فأوصى الرجل بعدم الغضب، وقال لذلك: "أعني على نفسك بكثرة السجود".
وقال لآخر: "قل آمنت بالله ثم استقم".
وقال: "أفرضكم زيد".
وأمر من أراد أن يقرأ القرآن أن يقرأ على قراءة ابن أم عبد، ومعاذ، وسالم موسى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، وأعطى الراية عليا، وأمر أسامة على جيوش فيه كبار الصحابة، ومنهم عمر الفاروق، وقال لخالد بن الوليد وهو سيف الله المسلول: "لا تسبوا أصحابي".
فلو أدركت هذا أخي المسلم زال عنك كثير مما يعانيه بعض الناس من اتهام العلماء، وتثبيط الهمم، واحتقار الناس.
والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا) [الإسراء: 84].
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليما.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وكونوا عباد الله إخوانا.
أيها الأحبة: يقول صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى" [أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-].
فالتراحم بمعنى رحمة بعضهم بعضا لإخوة الإيمان، والتواد ما يوجب التواصل والمحبة، كالزيارة والهدية والتعاطف، يراد به أن يعين بعضهم بعضا، وتشبيه النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين في هذه الأوصاف بالجسد ليثير عندنا مكنونات الإحساس، والشعور بالتلاحم، كثبوت الأصابع في راحة الكف، مع عدم تساويها في مهماتها، ولا في شكلها، والتشبيه وإن كان يراد منه بيان مدى تلاحم الأسرة المؤمنة، إلا أن فيه معنى آخر وهو أن الجسد متلاحم، ومتعاضد مع تنوع أجزائه، واختلاف مهمات تلك الأجزاء، ووظائفها، فالعين مثلا، لها وظيفتها، وأهميتها، وكذلك الأذن، والقلب كذلك، وهذه الأعضاء الثلاثة كل منها مكمل لوظيفة الأخر، وهو العلم، قال جل وعلا: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النحل: 78].
فاختلاف التنوع مراد، من أصل الخليقة، فلنعمل على أن نكون مختلفين اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد وتناحر، وتسفيه وتجهيل، وإن كان شيء أفضل من شيء، ففضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
أمة الإسلام: إن هناك منهجا عاما، يستخدمه كافة أعداء الملة، وهو حيلة شيطانية مريدة، قديمة، حديثة، مستمرة، وهي المبدأ المشهور: "فرق تسد" يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب، ولكن في التحريش".
وقال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء: 53].
وتفريق الكلمة حيلة إبليسية لعينة، تفرق الأمة، وتجعلها شيعا وأحزابا، بينهم من العداوة ما يجعلهم مختلفين، متحاربين، وبهذا يكونون أطوع له من بنانه، ويستسلمون لطغيانه، ويعينونه على عدوانه، وقد حذرنا المولى -جل جلاله- هذا النهج الإبليسي اللعين، وعلل سبب ذلك التحذير، فقال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
وأمر سبحانه وتعالى بما ينافي الفرقة، ويقتلع جذورها، وينمي الألفة، ويقوي ساقها، فقال جل من قائل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103].
فأمر سبحانه باجتماع المسلمين يدا واحدة: (كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف: 4].
ونهاهم عن التشيع والتفرق والتحزب: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31-32].
وأعلن براءة حبيبه ومصطفاه -صلى الله عليه وسلم- من كل تفرق، وحزبية مقيتة، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159]
وقال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بالجماعة".
فإن يد الله مع جماعة المسلمين.
وأحاديث الجماعة والنهي عن الخروج عنها كثيرة مشتهرة، فاتقوا الله -عباد الله-، وتعاونوا على البر والتقوى، وليكن كل منا سندا لأخيه، معينا له، ذابا عنه، ناصرا له، ظالما أو مظلوما، ناصحا له، محبا له ما يحب لنفسه، لا يظلمه ولا يسلمه، ولا يخذله، عالما بحرمة دمه وماله وعرضه، فلا يحقر أخاه المسلم، بل هو في عون أخيه، وعند ظنه به: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) [يس: 26].
وللوحدة يعملون، ويكون اختلافهم اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد وتفرق.
كل منهم يكمل الآخر، ويعين الآخر، ويعذر الآخر، ويدعو للآخر، فيتحقق فيهم قول ربهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
وقوله: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [المائدة: 54].
وقوله: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الفتح: 29].
(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال: 73].
هذا، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم اعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، واعلموا أنكم غدا بين يدي الجبار موقوفون، وعما عملتم في دنياكم مسئولون، فخذوا حذركم، وقدموا عذركم، واعلموا أنه لن ينفع في يوم القيامة حول ولا قوة، ولكنه الإيمان، واتباع منهج النبوة.
ألا وصلوا على البشير النذير والسراج المنير: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي