في فضل الشكر

صالح بن فوزان الفوزان

عناصر الخطبة

  1. أهمية الشكر
  2. حقيقة الشكر
  3. أركان الشكر
  4. نماذج في شكر الأنبياء لنعم الله عليهم
  5. من قصص القرآن في أقوام كفرت بأنعم الله

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمه الظاهرة والباطنة. لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير. والسراج المنير. أرسله رحمة للعالمين. وحجة على الخلق أجمعين. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله.

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر:3]

عباد الله: إن الله قد أسبغ عليكم نعمه، وأمركم بشكره، ووعدكم إذا شكرتموه أن يزيدكم، وتوعدكم إذا لم تشكروه بالعذاب الشديد؛ فانظروا موقفكم مع نعم الله، وتأملوا في أحوال من قبلكم وأحوال من حولكم ممن تنكروا لنعم الله واستكبروا في الأرض – كيف دهمهم أمر الله؛ فبدلوا بالنعمة نقمة، وبالأمن خوفاً، وبالغنى والشبع فقراً وجوعاً.. فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم. فلقد أنعم الله عليكم بنعم لم تكن موجودة عندهم؛ من سعة في الأرزاق، ورفاهية في الملابس والمساكن والمراكب وصحة في الأبدان. وأمن في البلدان. وأعلى من ذلك وأغلى أن اصطفى لكم الدين الحنيف وأقامكم على المحجة البيضاء والملة السمحاء؛ فاشكروا له ولا تكفروه، واذكروه ولا تنسوه، وأطيعوه ولا تعصوه، ولا تكونوا كالذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار: ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 53]

عباد الله: إن حقيقة الشكر هي: الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف. وشكر العبد لربه يدور على ثلاثة أركان لا يكون العبد شكوراً إلا بمجموعها:

أحدها: اعترافه بنعمة الله عليه في قرارة قلبه بأن يعترف بأن هذه النعم واصلة إليه من الله سبحانه تفضيلاً منه وإحساناً لا بحوله ولابقوته.

الثاني: التحدث بهذه النعم ظاهراً؛ فيثني على الله ويحمده ويشكره فلا ينسب النعم إلى غير الله، كما قال قارون ل-ما نصحه قومه وقالوا له: ﴿لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)﴾ [القصص 76: 77] فكان جوابه إنكار فضل الله عليه، وأن هذه الكنوز وهذه الأموال التي بيده إنما حصلت له بسبب علمه وخبرته أو استحقاقه لها ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ فماذا كانت النتيجة؟ كانت أسوأ النتائج حيث خسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة؛ نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه.

الركن الثالث من أركان شكر النعمة: الاستعانة بها على مرضاة الله فيستعملها في طاعة الله، أما إذا استعمل نعمة الله في معصيته فقد كفر نعمة الله عليه؛ فالذي يستعمل قوى جسمه وصحته وينفق أمواله في معصية الله قد كفر نعمة الله عليه واستحق عقوبته.

عباد الله: إن رسل الله عليهم الصلاة والسلام هم القدوة الكاملة للخلق، وهم أكمل الناس شكراً لله عز وجل؛ فقد أثنى الله على نوح عليه الصلاة والسلام أول رسله بأنه كان عبداً شكوراً، وذكر سبحانه عن نبيه داود وسليمان أنه آتاهما علماً فقالا عند ذلك اعترافاً بنعمة الله عليهما: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل:15]

فشكرا ربهما على ما أعطاهم من العلم. ثم أخبر عن سليمان عليه السلام أنه أثنى على ربه واعترف بفضله حينما أورثه النبوة عن أبيه، وعلمه منطق الطير وآتاه من كل شيء مما يحتاجه الملوك. قال سبحانه: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل:16] ولما حشر له جنوده من الجن والإنس والطير، وسمع كلام النملة حينما مر بها مع تلك الجنود الهائلة، قال -معترفاً بفضل الله عليه-: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل:19] ولما تم له مطلبه من إحضار عرش بلقيس لديه واستقراره عنده في أسرع وقت – اعترف أن هذا ليس بحوله ولا بقوته، وإنما هو تفضل من الله عليه ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل:40]

وهذا نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام حينما منّ الله عليه بالملك والعلم وجمع له الشمل بوالديه وإخوته رأى أنها قد تمت عليه النعمة، فشكر لربه وسأله حسن الخاتمة وقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف:101]

وهذا خاتم النبيين وسيد المرسلين نبينا محمد عليه الصلاة والسلام والسلام قام على قدميه في الصلاة حتى تفطّرتا من طول القيام، فقالت له أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر –فقال: "يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً؟".

عباد الله: هؤلاء هم القدوة الأخيار؛ فاقتدوا بهم، واشكروا نعمة الله عليكم بقلوبكم وألسنتكم وأعمالكم؛ فإنه لا يكفي أن تتلفظ بالحمد والشكر بلسانك، وقلبُك غافل معرض أو جاحد مستكبر، وأفعالك بخلاف ما يرضي الله؛ فالشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح؛ فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للثناء والحمد. والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور، وكفها عن معاصيه.

عباد الله: لقد قص الله علينا في القرآن الكريم ما حل بالأمم التي كفرت بأنعم الله من قصم الأعمار، وخراب الديار ما تقشعر منه الجلود؛ من ذلك ما قصه عن بني إسرائيل في مواضع من كتابه الكريم ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:47]

ومن ذلك ما قصه عن قبيلة سبأ التي أنعم عليها بالجنتين. وقال لهم: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ [سبأ:15] فأعرضوا عن الشكر وكذبوا الأنبياء فأرسل الله عليهم سيل العرم، وهو الوادي الممتلئ بالماء الغزير؛ الذي أغرق ديارهم، وأهلك حروثهم وأشجارهم؛ فبُدّلوا بالغنى فقراً، وبالنعمة نقمة، وبالاجتماع تفرقاً وتشتتاً في البلاد؛ قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [سبأ:19] حتى صار يضرب المثل بتفرقهم وتشتتهم، فيقال للقوم إذا تفرقوا: "تفرقوا أيدي سبأ" أي كما تفرقت سبأ.

ومما ضربه الله لنا مثل القرية- قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل:112] أي جعل الله هذه القرية مثلاً لمن أنعم الله عليه فكفر بالنعمة فأنزل الله عليه النقمة حيث وفر الله لأهل هذه القرية الأمان والاطمئنان والرزق الرغد، الذي يجلب إليها من جميع النواحي، فلما لم يشكروا هذه النعم تحولت إلى أضدادها؛ فبدلوا بالرزق الرغد جوعاً، وبالأمن والاطمئنان خوفاً وقلقاً.

فاتقوا الله -عباد الله-، واشكروا نعم الله التي أسبغها عليكم. أدوا ما أوجب الله عليكم، وتجنبوا ما حرم الله عليكم. حافظوا على الصلوات، واحضروا الجمع والجماعات، وأدوا زكاة أموالكم. تجنبوا المعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة. طهروا بيوتكم من آلات اللهو ومن الصور ومن سائر المحرمات. خذوا على أيدي سفهائكم. امنعوا نساءكم من التبرج والسفور واتخاذ الملابس التي تغضب الله ورسوله. ربوا أولادكم بتربية الإسلام، وعلموهم القرآن، وجنبوهم مواطن الفساد وقرناء السوء، وأدبوهم إذا رأيتم منهم ما يستوجب التأديب، وخذوهم بالحزم والحكمة؛ فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا. وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ إلى آخر السورة.  


تم تحميل المحتوى من موقع