التعصب أن يعتقد الإنسان أنه أفضل من غيره؛ بسبب لونه أو جنسه، أو قبيلته أو نسبه، أو مذهبه أو مهنته ووظيفته، هذه العصبية لم تدخل في مجتمعٍ إلا فرَّقته، ولا في عمل صالحٍ إلا أفسدته، ولا في كثيرٍ إلا قللَّته، ولا في قوي إلا أضعفتْه، وما نجحَ الشيطانُ في...
الحمد لله المتفرد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو اللطيف القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها صادقا من قلبه من أهوال يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صاحب الشفاعة، ولا يدخل الجنة إلا من أطاعه، سيد الأولين والآخرين ، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عبـاد الله: لقد جاء الإسلام ليرسي قيم الخير في المجتمع المسلم، ودعا إلى نشر الأخلاق الفاضلة؛ كالإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، ونصرة المظلوم، والتعاون وبذل المعروف، وتقديم النصح والتراحم بين الناس، والحب والمودة والإخاء، وغيرها، وعالج بالمقابل أخلاقا سيئة سادت المجتمع الجاهلي، وأثرت في سلوكيات أبناءه، حتى أصبح التناحر والتباغض وذهاب الألفة سمة من سماته، بل سفكت لأجل ذلك الدماء، واستبيحت الأعراض والأموال، فوقف الإسلام بتشريعاته وتوجيهاته موقف الزاجر والناهي والمحذر من أثرها السيئ على الفرد والمجتمع والأمة في الدنيا والآخرة.
ألا وإن من أخطر هذه الأخلاق وهذه السلوكيات خلق التعصب بجميع مظاهره؛ كالتعصب للجنس البشري، أو اللون أو للأسرة والقبيلة والنسب، أو التعصب للمنطقة والمكانة والبلد، أو التعصب للرأي، أو التعصب للمذهب، أو التعصب للأشخاص بالحق أو بالباطل.
والتعصب أو العصبية؛ كما قال الأزهري -رحمه الله-: "هي: أن يدعو الرجل إلى نُصْرة عَصَبته، والتألُّب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين"[تهذيب اللغة (2/30)].
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "وكلُّ ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب أو بلد، أو جنس أو مذهب، أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ" وغضب لذلك غضبًا شديدًا" [السياسة الشرعية، لابن تيمية (84)ٍ].
والتعصب أن يعتقد الإنسان أنه أفضل من غيره؛ بسبب لونه أو جنسه، أو قبيلته أو نسبه، أو مذهبه أو مهنته ووظيفته، هذه العصبية لم تدخل في مجتمعٍ إلا فرَّقته، ولا في عمل صالحٍ إلا أفسدته، ولا في كثيرٍ إلا قللَّته، ولا في قوي إلا أضعفتْه، وما نجحَ الشيطانُ في شيءٍ مثلما نجحَ فيها.
والله سبحانه وتعالى قد بين أن الناس جميعاً متساوون، خلقوا من تراب، وقسم بينهم معيشتهم، وجعلهم شعوباً وقبائل، وجعل شرط التميز التقوى له، والقرب منه، والالتزام بشرعه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
أيها المؤمنون عباد الله: بالإيمان والتقوى يترجح ميزان الإنسان، ويرتفع قدره عند الله، وما عدا ذلك فلن يغني عنه من الله شيئاً، قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: "يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى" (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13] ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فيبلغ الشاهد الغائب"[رواه البيهقي في الشعب(4/289)، والمنذري في الترغيب والترهيب (3/375)، وصححه الألباني].
ولو كان النسب أو الجنس أو المكانة تنفع صاحبها عند الله لكان ابن نوح عليه السلام، وهو فلذة كبده وقطعة من فؤاده معه في الجنة، قال تعالى مبيناً تلك الحال وذلك المآل: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 42-43].
وقال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة، إذ رأيت شاباً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم *** يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهـوا *** وأنت يا حي يـا قيـوم لـم تنـم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سعة *** فمن يجود على العاصيـن بالكـرم
ثم بكى بكاءا شديدا، وسقط على الأرض مغشيا عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فرفعت رأسه في حجري وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده، ففتح عينيه وقال: من هذا الذي يهجم علينا? قلت: أنا الأصمعي، سيدي ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة? فقال: هيهات هيهات يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حراً قرشياً، أليس الله تعالى يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) [المؤمنون: 101].
وقد حذر صلى الله عليه وسلم من هذا التعالي والتفاخر بالأنساب والأحساب، فقال: "إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عِبية الجاهلية، والفخر بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لينتهين أقوامٌ عن فخرهم بآبائهم في الجاهلية، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان، التي تَدفع النتن بأنفها"[رواه أبو داود في السنن(4/492) وأحمد في المسند (16/456)، وحسنه الألباني رحمه الله].
إنه تحذير نبوي كريم من آثار الجاهلية التي جاء الإسلام ليحطمها، ويقيم عليها البناء الشامخ القوي؛ إنها أخوة الإسلام التي لا ترقى إليها العصبية، ولا تؤثر فيها الجاهلية.
والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين، ويبكي من خشية الله، ويتصدق، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ ملئ قلبه بالعصبية، للأشخاص والأحزاب والآراء والمذاهب والمناطق والبلاد، فلأجلها يحب، ومن أجلها يعادي، وفي سبيلها يقاتل، بل إنك لتجد من يعترف أنه على خطأ في قوله وفعله وسلوكه، ومع ذلك يتعصب بالحق وبالباطل وينتصر لموقفه، ولو خالف جميع الشرائع والقيم.
ألا يعلم هؤلاء أن رسول صلى الله عليه وسلم قد زجر عن ذلك ونهى، فقال: "ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم، قالوا: يا رسول الله! وإن صام وإن صلى؟ قال: وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل، المسلمين، المؤمنين، عباد الله عز وجل"[رواه الإمام أحمد في المسند (37/543)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن، والحاكم في المستدرك (1/582)].
و"جثاء جهنم" أي: من جماعتها.
إنها العصبية التي دمرت الحياة، وقلبت الموازين، وغيرت القيم، ونشرت الرذائل؛ روى الطبري في تاريخه (2277): أن طلحة النميري قال لمسيلمة: "أشهد أنك كذاب وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" فقتل معه يوم عقرباء.
لذلك قال عنهم الطبري بعد سرد عدة حوادث في هذا المعنى: "وكانوا قد علموا واستبان لهم -كذب مسيلمة-، ولكن الشقاء غلب عليهم".
عباد الله: ومن أبرز مظاهر التعصب في حياتنا اليوم: التعصب الحزبي، والذي بسببه طمست الحقائق، وضيعت الحقوق، وأهملت الواجبات، وكثرت الصراعات، وحلت البغضاء، وقل الإنتاج، وأهدرت الأموال، وأصبحت قيم الحب والإخاء والمودة بين الناس قائمة على الانتماء الحزبي، فأين نذهب من قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"[مسلم (4685)].
إن الأحزاب في العمل السياسي ما وجدت إلا لأجل تنسيق الجهود بين الأفراد والمجموعات، والتنافس في خدمة المجتمع، وإثراء الحياة بكل مفيد وجديد، وتعميق حب الدين والقيم الفاضلة، ونشر الخير في النفوس، ومتى ما خرجت عن رسالتها أصبحت معول هدم في جسد الأمة، وسبب لتخلفها وتأخرها، وواجب على كل مسلم أن يقوم الاعوجاج، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يبن الحق من الباطل، والخير من الشر؛ تعبداً لله، وإعذارا إليه، وطلباً للنجاة من عقابه، وطمعاً في ثوابه.
والإنسان الواعي يدرك أن انتماءه لحزب ما أو جماعة ما؛ لا يعني أن ينسى أن رابطة الدين ووشائج الإيمان مع المسلمين من حوله أعظم من كل رابطة ووشيجة.
اللهم ألف على الخير بين قلوبنا، واجمع ما تفرق من أمرنا.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبـة الثـانية:
عباد الله: ومن مظاهر التعصب في حياتنا اليوم: التعصب الرياضي للفرق والمنتخبات واللاعبين، والذي بسببه نشأت الخصومات والعداوات، وأهدرت الأموال والأوقات، فالتعصب الرياضي، لا يخلو من كلمة بذيئة، أو سبة شنيعة، أو كلمة جارحة، أو زلة لسان.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ، أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا ، يَزِلُّ بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ"[البخاري (6477 )].
بل تتفرق دول، وتحصل خصومات بين الشعوب؛ بسبب هذا التعصب المقيت، وتزهق أرواح، وتسفك دماء، أليست هذه جاهليه داحس والغبراء، وحرب البسوس بثوبها الجديد.
إن هذا التعصب أدى إلى ظهور جيل من الشباب، ساذج ضعيف إِمَّعَةً، يسير وراء كل ناعق، ولا يقوى على خدمة دينه ومجتمعه وأمته لسان حالهم يقول: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ)[المدثر45].
يقول الإمام علي رضي الله عنه: " الناس ثلاثة : عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"[كنز العمال: ح29391)].
ومن صور التعصب ومظاهره: التعصب للرأي، فيعتقد أن رأيه هو الصواب ودونه يكون الخطأ، ولا يناقش ولا يحاور غيره من الناس، وقد حكى القرآن الكريم لنا نماذج من المتعصبين، منكرا عليهم، ومنددا بمسلكهم، تحذيرا للمسلمين أن يحذوا حذوهم، فقال عن بني إسرائيل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ) [البقرة: 91].
وقال تعالى عن المشركين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170].
إن التعصب للرأي منطق فرعوني، فقد قال في تكبر وعنجهيته: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29].
وقال الإمام الشافعي محذراً من هذا التعصب: "رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
عباد الله: لنحذر من هذه العصبية بجميع مظاهرها، ولننشر في مجتمعاتنا ثقافة الحب والتسامح والتراحم، ولنحذر من وساوس الشيطان ونزغاته، ولنقوي أخوتنا، ونوحد صفنا، ونكون عباد الله إخوانا، ولنقوم بواجباتنا، ونؤدي الحقوق التي علينا، ولنتذكر أننا على الله مقبلون، ومن الدنيا راحلون، وعلى أعمالنا محاسبون، فلنحسن العمل.
اللهم ردنا إليك رداً جميلا، ولا تفتنا في ديننا ولا دنيانا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي