الأخوّة ليست شعارا يُردَّد، أو قصة تُحكَى، أو كلاما يُقال؛ بل هي دين وعبادة يقوم بها المسلم طلباً لمرضاة الله، وطمعاً لما عنده من أجر ومثوبة، وهي لا تقوم على أساس النسب والقرابة والطائفة والمذهب والبلاد والعشيرة؛ بل أساسها الدين، فالمسلم أخو المسلم في أي بلاد ومكان، في...
الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيف شاء عزة واقتداراً، وأرسل الرسل إلى الناس إعذارا منه وإنذارا؛ فأتم بهم نعمته السابغة، وأقام بهم حجته البالغة، فنصب الدليل، وأنار السبيل، وأقام الحجة، وأوضح المحجة، فسبحان من أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، أحمده، والتوفيق للحمد من نعمه، وأشكره على مزيد فضله وكرمه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله -سبحانه- جميع العباد.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للمتقين، وبشيرا ونذيرا للخلق أجمعين؛ أمده بملائكته المقربين، وأيده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين؛ أفضل من صلى وصام، وتعبد لربه وقام، ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام.
أما بعـــد: عبـاد الله: حقوق وواجبات شرعها الدين، وعظّمها رب العالمين، وأمر بها المسلمين، غفل عنها كثير من الناس، وتساهل فيها كثيرٌ من المسلمين، وأعرض عنها كثيرٌ من أبناء هذه الأمة.
حقوق وواجبات ينبغي أن تكون من أعظم صفاتهم، وأبرز سلوكياتهم؛ لكنها تضيع بين الناس اليوم بسبب خلاف حول موقف سياسيٍّ تافه، أو جدال دنيوي عقيم، أو تعصب لمذهب أو حزب أو منطقة بغيض.
وتضيع كثيراً من الأحيان وتختفي وتتلاشى وتنعدم بين الناس بسبب خلاف بسيط على متاع دنيوي زائل، أو شهوة عابرة؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور القطيعة والهجران والخلاف والشقاق وسوء الأخلاق، وامتلأت القلوب بالضغائن والأحقاد، وساءت العلاقات، وقامت الحروب، وتفشى الظلم، وتأججت العداوات بين أفراد المجتمع المسلم.
هذه الحقوق والواجبات هي حق المسلم على المسلم، وواجبات المسلم تجاه إخوانه المسلمين؛ إنها حقوق الأخوة، هذه الخصلة العظيمة والمرتبة الشريفة في دين الإسلام والتي قرنها الله -سبحانه وتعالى- بالإيمان فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10].
وبها امتنّ على عباده فقال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].
ولأهميتها وعظيم أجرها فقد تولى -سبحانه وتعالى- بنفسه يوم القيامة يوم العرض الأكبر نداء المتحابين فيه ليكرمهم ويجزيهم أعظم الجزاء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظلّ إلّا ظلّي" رواه مسلم.
ولها منزلة عظيمة تطلّع للوصول إليها الأنبياء والشهداء والصالحون، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ! إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)" رواه أبو داود وصححه الألباني.
بل جعل -سبحانه وتعالى- الأخوة وسيلة لاكتساب حلاوة الإيمان، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" رواه البخاري ومسلم.
وهي طريق المؤمنين وسبيلهم إلى الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم- "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا؛ أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ" رواه مسلم.
عبــــــاد الله: الأخوّة ليست شعارا يُردَّد، أو قصة تُحكَى، أو كلاما يُقال؛ بل هي دين وعبادة يقوم بها المسلم طلباً لمرضاة الله، وطمعاً لما عنده من أجر ومثوبة، وهي لا تقوم على أساس النسب والقرابة والطائفة والمذهب والبلاد والعشيرة؛ بل أساسها الدين، فالمسلم أخو المسلم في أي بلاد ومكان، في أي عصر وزمان.
عن أبي مالك الأشعري قال: "كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلت عليه هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة:101]، قال: فنحن نسأله إذ قال: "إنّ لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة".
قال: وفي ناحية القوم أعرابي فجثا على ركبتيه ورمى بيديه، ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم، مَن هم؟ قال: فرأيت في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- البِشر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هم عباد من عباد الله من بلدان شتى، وقبائل شتى من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون بروح الله، يجعل الله وجوههم نورا، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الناس، ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون" رواه أحمد والحاكم وصححه الذهبي.
لو كبّرت في جموع الصين مئذنةٌ *** سمِعْتُ في الغرب تهليل المصلّينا!
إذا اشتكي مسلمٌ في الهند أرَّقَني *** وإنْ بكَى مسلمٌ في الصِّينِ أبكاني
أرى بُخَارَى بلادي وهي نائيةٌ *** وأستريحُ إلى ذكرى خُرَاسان
وأينما ذُكِرَ اسمُ الله في بلدٍ *** عددتُ ذاك الحِمى من صُلْب أوطاني
شريعةُ الله لَمَّتْ شملنا وَبَنَتْ *** لنا معالمَ إحسانٍ وإيمان
وللأخوة الصادقة حقوق ينبغي على كل مسلم أن يقوم بها تجاه إخوانه، وإن أول هذه الحقوق سلامة الصدر، فلا يحمل المسلم على أخيه المسلم شحناء ولا بغضاء ولا حسداً؛ يقول الله -سبحانه وتعالى- وهو يصف عباده وهم يتضرعون إليه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:9-10].
ومن حقوق الأخوة القيام بالواجبات الحياتية واليومية والمعاشية تجاه إخوانك المسلمين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ" رواه البخاري ومسلم.
ومن هذه الحقوق حسن الظن بأخيك المسلم، وستر عيوبه، وتقديم النصح له، قال تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ) [الحجرات:12].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي برزة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه في جوف بيته".
ومن هذه الحقوق زيارة المسلم لأخيه المسلم، وتفقد أحواله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله تعالى على مرصدته ملَكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، فقال: هل لك عليه من نعمة تربّها عليه؟ فقال: لا؛ غير أني أحببته في الله تعالى، فقال الملك: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" رواه مسلم.
يقول التابعي مالك بن دينار: "لم يبق من رَوح الدنيا إلا ثلاثة: لـقــاء الإخـوان، والتهجـد بالقرآن، وبيــت خال يـذكــر الله فيــه".
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إذا رزقكم الله -عز وجل- مودة امرئ مسلم فتشبثوا بها" أخرجه ابن أبي الدنيا، ورجاله ثقات.
عبــاد الله: ومن حقوق الأخوة تقديم النفع لهم بالمال والجهد وإعانتهم بما تستطيع، وقضاء حاجاتهم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تبارك وتعالى-: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ" رواه أحمد وصححه الألباني.
وقال الإمام علي -رضي الله عنه-: "عشرون درهماً أعطيها أخي في الله، أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بمائة درهم".
ولقد كان الرجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أهدي له شيء قال: أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فبعثه أخوه إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى يرجع إلى الأول!.
وقال أبو سليمان الداراني: إني لألقم اللقمة أخاً من إخواني فأجد طعمها في حلقي.
ومن حقوق المسلم على أخيه المسلم أن لا يهجره فوق ثلاثة أيام إذا تخاصما، فهذه فسحة من الوقت تكفي لبرود نار الغضب وزوال حمى الخلاف، ثم يحرّم على كل منهما أن يهجر أخاه بعد هذه المدة، وإلا دخلا معا في حيّز الإثم ودائرة المعصية، حتى إن أعمالهما لتحبس فلا تعرض على الله سبحانه لأجل ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" رواه مسلم.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "تُعرض الأعمال على الله تعالى كل يوم اثنين وخميس فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئـًا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنظِروا هذين حتى يصطلحا" رواه مسلم.
واليوم؛ ماذا حل بالناس؟ لم يعد الهجر والتخاصم ثلاثة أيام أو أسبوعا أو شهرا؛ بل سنوات، وربما العمر كله! فكيف سنلقى الله بمثل هذه الأخلاق وبمثل هذا السلوك؟.
ومن هذه الحقوق إيثار المسلم أخاه، وتقديم مصلحته على مصالحه؛ لأنه يبتغي بذلك وجه الله.
وانظروا -رحمكم الله- إلى ذلك الضيف أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت رجل من الأنصار، فماذا كان موقفه وزوجته؟ لقد قدّما للضيف طعامهما وطعام أولادهما وناما بدون طعام حتى يشبع ضيف رسول الله! فلما أصبح غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما"، فأنزل الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )" رواه البخاري.
ومن هذه الحقوق الدعاء له بظهر الغيب، قال -صلى الله عليه وسلم-: "دعوةُ المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة, عند رأسه ملَك موكّل,كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين, ولك بمثل" رواه مسلم.
وإن من أعظم هذه الحقوق والواجبات أن يجتنب المسلم ظلم أخيه المسلم، أو يكون سبباً في ظلمه والتعدي على ماله وعرضه ودمه، وحسبك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار أشرف البقاع وأشرف الأيام، وتحيّن موقف الحاجة إلى الموعظة، لينبّه الناس إلى ذلك الأمر العظيم، لقد خطب الناس يوم النحر فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
ثم قال: "أي شهر هذا؟"، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة؟"، قلنا: بلى، قال: "فأي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: "أليس البلدة؟"، والبلدة هي مكة، البلد الحرام، قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى.
قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا؛ وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه"، ثم قال: "ألا هل بلغت؟"، قلنا: نعم، قال: "اللهم اشهد" متفق عليه.
أيها المؤمنون عبــاد الله: عندما تختفي الأخوة والمحبة من حياة الناس فإنه يحل محلها التقاطع والهجران، ويظهر الحسد، وتمتلئ القلوب بالأحقاد والضغائن، وينعدم الإحساس بحقوق الآخرين.
قال تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاط * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [ص:21-23].
أيُ أنانيةٍ هذه؟! وأيُ أَثرةٍ هذه؟! يمتلكُ تسعاً وتسعين نعجة، وبدلاً من أن يتنازلَ لأخيه عن بعض نعاجه يريد أن يأخذ نعجة أخيه الوحيدة التي يمتلكها في هذه الحياة! وهكذا حياة كثير من الناس اليوم، لا يتعامل مع إخوانه إلا وفق مصلحته وما تمليه عليه نفسه.
بل هناك ما هو أعظم من هذا الظلم الذي يمارسه الأخ على أخيه، فهناك من يتجرأ على الدماء المعصومة والأرواح المصونة دون وجه حق، وإنما يفعل ذلك ظلماً وعدواناً، وعلى أتفه الأسباب.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "يَجِيءُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقٌ بِرَأْسِ صَاحِبِهِ -وفي لفظ: يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا- يَقُولُ: رَبِّ، سَلْ هَذَا لِمَ قَتَلَنِي؟" رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة.
يا له من موقف رهيب! يأتي المقتول وجروحه تنزف دما وقد أمسك بالقاتل وأخذ يجره إلى ميدان القضاء العادل أمام رب العالمين ويقول: يا رب، سل هذا: لم قتلني؟ ماذا فعلت؟ لماذا سولت له نفسه ذلك؟ وهكذا بين يدي الله، يقف الناس جميعاً بين يدي الله، يسأل أحدهم أخاه أمام رب العالمين: يا رب، لم قتلني؟ يا رب، أخي ظلمني! يا رب، سله: لم جحد حقي؟ يا رب، لم هجرني؟ عند ذلك يقضي -سبحانه- بين العباد.
وقَالَ جُنْدَبٌ -رضي الله عنه-: حَدَّثَنِي فُلانٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَجِيءُ الْمَقْتُولُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: سَلْ هَذَا: فِيمَ قَتَلَنِي؟ فَيَقُولُ :قَتَلْتُهُ عَلَى مُلْكِ فُلانٍ"، قَالَ جُنْدَبٌ: فَاتَّقِهَا. رواه النسائي وصححه الألباني.
أي: قتلته من أجل ملك فلان، ومنصب فلان، ومال فلان! فكيف هو القتل اليوم في بلاد المسلمين؟ أليس من أجل فلان وعلان يُقتل أفراد وتباد أسر وتزهق أرواح وتهتك أعراض وتدمر ممتلكات؟ فاتقوا ذلك وراقبوا من لا يغفل ولا ينام، ويقتص لعباده في يوم لا ينفع الندم ولا تقبل الأعطيات ولا تجزي الشفاعات والواسطات.
اللهم ألف على الخير بين قلوبنا، واجمع ما تفرق من أمرنا.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
عبــاد الله: لقد جاء الإسلام ليهذب النفوس، ويربيها، ويجعل من الحب والمودة والإخاء سلوك المجتمع المسلم، وسبب سعادته.
فما أحوج الأمة اليوم، أفراداً وشعوباً، حكاماً ومحكومين، أحزاباً وجماعات، إلى هذه الأخوة في زمن كثرت فيه المشاكل، وتنوعت فيه الخلافات على مستوى القطر الواحد؛ بل وبين الدول مع بعضها البعض! ويا ليتها كانت خلافات من أجل الدين والحق والقيم العظيمة والتنافس من أجل ازدهار الأمة ورفاهية الشعوب! بل كانت من أجل دنيا فانية، ولذة عابرة.
ولتكن الأخوة الإيمانية رابطة كل مسلم مع إخوانه، ولْيَسْعَ كُلُّ مسلمٍ لجعلها سلوكاً عملياً في الحياة يرضي بها ربه، ويقوي بها صفّه، ويحفظ بها أمته ومجتمعه ووطنه.
واحذروا الظلم والتقاطع والحسد والغل وسوء الظن تجاه إخوانكم المسلمين؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا؛ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه" رواه مسلم.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين, وقاعدين, ولا تشمت بنا الأعداء الحاسدين, وقوّ أخوتنا، ووحد صفنا، وانصرنا على من عادانا؛ برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي