إنه لَمُؤْسفٌ حقًّا, أنْ يتحول أبٌ يملك قلباً وعقلا, مِن مصدر طمأنينةٍ لأبنائه, وأساسٍ لسعادةِ عائلته, إلى مصدر إزعاجٍ لهم, وكابوسٍ يُؤرِّقهم. كم شتَّتهم وهو الذي يجب أنْ يجمعهم! كم أفقرهم وهو الذي يجب أنْ يُغنيَهم! كم أقلقهم وهو الذي ينبغي أنْ يُسعدهم! فاتقوا الله معاشر الآباء, فإنكم مسؤولون عن أبنائكم, فهم...
الحمد لله الذي جلَّ عن شَبَهِ الْخَلِيْقَةِ، وتَعَالى عن الأفعال القبيحة, وعَدَل في أحكامه، وأحسن إلى عباده؛ وتفرَّد بالبقاء، وتوحَّد بالكبرياء، ودبّر بلا وزير، وقهر بلا معين.
الأول بلا غاية، والآخِرُ بلا نهاية, الذي عَمِيَتْ عن إدراكه الأبصار، وتحيَّرتْ في عظمته الأفكار, الشاهدُ لكلِّ نجوى، والسامعُ لكلِّ شكوى، والكاشفُ لكلِّ بلوى, الجبارُ الذي قامتِ السموات بأمره، ورجفتِ الجبالُ مِن خشيته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, بعثه بالدلائلِ الواضحة، والحججِ القاطعة، والبراهينِ الساطعة, بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجا منيرا, صلى الله وسلم عليه, وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّ الله تعالى فطر عباده على الرحمة, وغرس في قلوبهمُ الرأفة, ولا ينحرف عن ذلك إلا مَن انتكَستْ عنده الفطرة, ورقَّ الإيمان في قلبه.
ومِن بين أولئك الذين انْتكستْ فِطرُهم, وتوحَّشت طِباعهم: أولئك الآباءُ الذين تخلَّوا عن زوجاتِهِم, بسبب خلافاتٍ وسوءِ تفاهم, فمِن مُطلِّقٍ طلاقاً لا رجعة فيه, ومِن مُمْسكٍ بغير معروف, ولو طلَّقها لكان أرحم بها, حيث يُمكنها أنْ تنالَ مُساعداتٍ من الجمعيات الخيرية, والشؤون الاجتماعية.
ولكنَّ المشكلة -يا أمة الإسلام- أنَّ هؤلاء لم يتركوا نساءهم فحسب, بل تركوا حتى أبناءهم, فلا يصرفون عليهم إلا شيئاً يُستحيا من ذكره!.
كم والله رأينا ورأى الناس أمثال هؤلاء, الذين تجازوا الطباع البشرية, وتوحَّشوا أشدّ من السباع الْمُفترسة, فكلُّ حيوانٍ، مهما اشتدَّت شراسته, وغلُظ طبعه, يحنُّ لولده, ويُطعمه ويسعى عليه, ويُدافع عنه ولو قُتل دونه؛ أما هؤلاءِ الغلاظُ الشداد, فتركوا أولادهم يعطف عليهمُ الناس, وتركوهم في بيوتٍ قديمة, وفرشٍ بالِيَةٍ, وأطعمةٍ زهيدة.
وخذوا هذه القصصَ التي وقفتُ عليها وعايشتها, فهذا أبٌ هَجَرَ أولادَه لسنواتٍ عديدة, وبعضهم لم يتجاوز العاشرة من عمره, ولا يدخل عليهم في السنة إلا مرةً أو مرتين, وعندما ناقشتُه عن ذلك, وأنَّ مشاكله مع زوجته لا تُبرِّر له هجرَ أولادِه وعدمَ الإنفاقِ عليهم, قال بالحرف الواحد: الأمّ هي السبب, وأبنائي ليس فيهم خير!.
وأحدهم أبٌ لتسعةٍ من الأولاد, وهو من رجال الأعمال, تزوج بالثانية, فتنكَّر وتغيَّر على الأولى, حتى ضاقت بها الحال, وآل بها الأمر إلى السآمةِ والضيق, فما كان منه إلا أنْ تركها عند أهلها لسنواتٍ عدَّة, لا يصرف عليهم ولا يُكلمهم, ولا يحنُّ عليهم ولا يرحمهم.
وآخر يملك بأرصدته عشراتِ الملايين, ترك زوجته وأولاده, وأسكنهم في بيتٍ لا تسكنه الكلاب, ويشحُّ عليهم في الطعام والشراب, وَمَرِضَتْ بِنْتُه الكبرى فعافها الخُطَّاب, تركها وهي تئنّ بمرضها, وتشكو إلى ربها ظلم أبيها.
إنها قصصٌ يَنْدى لها الجبين, وتدمعُ لها العين.
فلْيعلم هؤلاءِ الْمَحْرُومون: أنَّ مَن لم يرحمْ أبناءه وبناتِه، ويعطفْ ويحنُّ عليهم ، لن يرحمه الله يوم القيامة, فالجزاء من جنس العمل؛ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لا يَرحم النَّاس لا يَرحمه الله" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَوَاللهِ ما نُقَبِّلُهُمْ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَأَمْلِكُ إنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟" رواه البخاري.
فما أبشع قلباً نُزعت منه الرحمة, وخلا من العطف واللين والرأفة!.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه الترمذي وصححه.
اسمعوا يا أصحاب القلوب الفظة الغليظة، اسْمعوا يا مَن هجرتهم أبناءكم وأهليكم, اسْمعوا يا مَنْ ظلمتم نساءكم, ارحموا من تحت أيديكم من أزواجكم وأبنائكم، يرحَمْكُم مَن في السماء.
ومِن الصور المخزية الفظيعة, لهؤلاء الذئاب البشرية: تأخيرُهم زواجَ بناتِهم بلا مسوِّغٍ شرعيٍّ, فتراه يرد الخاطب الكفء، ويؤخرُ زواج ابنتِه, إمَّا لكونها وحيدتَه فلا يرغب في فراقها، أو لرغبته في أنْ تخدمه، أو لأنها موظفةٌ ويرغب في مالها، أو لأنه ينتظر خاطبا غنياً يتقدم لها، أو لغيرِ ذلك من الأسباب.
وهذا حرمانٌ للفتاة من حقها في الزواج؛ فكيف يكون حالُها, وهي ترى قريباتِها من بنات عمها، أو بنات خالها، أو صديقاتها وهن يحملن الأطفال، ويسعدن بالأزواج في راحةِ بال؟ إنها تحترق كمداً وغماً وحسرة.
وهذه قصة فتاةٍ ذكرها أحدُ المشايخ الفضلاء فيقول: هناك امرأةٌ وصل سنها إلى الأربعين, ولم تتزوج بعد، وكلما أتاها الخطابُ رفض والدُها تزويجها، فأصابها بسبب ذلك من الهمِّ والحزن ما الله به عليم، وأصبحَتْ لا تُرى إلا بوجهٍ حزين، وأصابها مِن جراءِ ذلك مرضٌ, نُقلت على إثره إلى المستشفى.
فأتاها والدها لكي يزورَها, ويَطمئنَّ على صحتها، فقالت له: اقترب مني يا أبي، فاقترب منها، فقالت له وهي تتقطَّع حسرةً وألماً: قل آمين، فقال: آمين، فقالت: حرمك الله الجنةَ, كما حرمتني من الزواج، ثم توفيت بعد ذلك رحمها الله.
وهذه قصة فتاةٍ أخرى, منعها والدُها حقَّها الشرعيَّ في الزواج, والاستقرار والإنجاب, وإحصان الفرج بِحُجَجٍ واهيةٍ، حتى كبُرتْ وفَاتَهَا الزواج.
فلما حضرتْ أباها الوفاةُ, طلب منها أن تُحَلِّلَه فقالت: والله لا أُحَلِّلك؛ لِمَا سبَّبته لي من حسرةٍ وندامةٍ, وحرمتني حقي في الحياة؛ ماذا أعمل بشهاداتٍ أُعلقها على جدران منزلٍ, لا يَجْري بين جدرانه طفل؟.
لم أُرضع طفلاً، لم أضمَّه إلى صدري، لم أشكُ همِّي إلى رجلٍ أحبه وأودُّه, ويحبني ويعطف عليّ، فاذهب عني, واللقاءُ يوم القيامة بين يدي عدلٍ لا يظلم، حَكَمٍ لا يهضم حقَّ أحد، لنْ أترحَّم عليك, ولن أرضى عنك, حتى موعدَ اللقاء بين يدي الله.
فما أكثر البيوتِ التي تضِجُّ بالظلمِ والعُدْوان، ويذهبُ ضحيَّتها الأهلُ والولدان!.
فاتقوا الله -معاشر الآباء-, واعلموا أنَّ مِن أعظم الحقوق الواجبة عليكم: تزويج مَن يستحقّ الزواج مِن أبنائكم وبناتكم, وإعانتهم, والسعي الْحَثيث في البحث عن الكفء والْمُناسب.
وكيف يستسيغ أبٌ يخاف الله واليوم الآخر أنْ يُؤخر تزويج أبنائه, ويتقاعسَ ويتساهلَ في هذا الأمر الْمُهمِّ لهم, مع قُدرته على ذلك, ورؤيته لحاجة أبنائه في الزواج والعفاف.
وهو بذلك قد حرمهم من سكون النفس، وطمأنينة القلب، وخمود الشهوة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [النساء:19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: إنه لَمُؤْسفٌ حقًّا, أنْ يتحول أبٌ يملك قلباً وعقلا, مِن مصدر طمأنينةٍ لأبنائه, وأساسٍ لسعادةِ عائلته, إلى مصدر إزعاجٍ لهم, وكابوسٍ يُؤرِّقهم.
كم شتَّتهم وهو الذي يجب أنْ يجمعهم! كم أفقرهم وهو الذي يجب أنْ يُغنيَهم! كم أقلقهم وهو الذي ينبغي أنْ يُسعدهم!.
فاتقوا الله معاشر الآباء, فإنكم مسؤولون عن أبنائكم, فهم أمانةٌ في أعناقكم.
واعلموا - يا أمة الإسلام- أنَّ الواجب على مَن علم بحال أحدٍ من هؤلاء, أنْ ينصَحَهُ ويَعِظَه, فإنْ لم يستجبْ لذلك فقد سقطت ولايته, ووجب على الأقربين التدخلُ في تزويج البنات, وإصلاحِ حالِ الأهل والأولاد.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا, فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا, أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا؛ كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ, فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ" رواه البخاري.
وهذا العمل من أعظم القُرُبات, وأجلِّ الطاعات, قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً, فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ" متفق عليه.
فكم في بعض الأسر من حاجاتٍ لا يعلمها إلا الله! وكم فيها من كُربٍ لا يعلم شدَّتها إلا الله! فقفوا معهم, وتلمَّسوا حاجاتِهِم.
نسأل الله أنْ يُصْلح بيوتَ المسلمين, وأنْ يجمعهم على الخير والطاعة, إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي