الغفلة .. الداء والدواء

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. حرص الشيطان على تحيُّن غفلات الناس لإغوائهم .
  2. التحذير القرآني من الغفلة .
  3. صفات القلب الغافل .
  4. الآثار المترتبة على داء الغفلة .
  5. الحرص على التيقُّظ والحذر .
  6. أسباب الوقاية والنجاة من الغفلة .

اقتباس

قال ابن القيّم -رحمه اللّه-: على قدر غفلة العبد عن الذّكر يكون بُعْده عن اللّه. وقال: إنّ حجاب الهيبة للّه -عزّ وجلّ- رقيقٌ في قلبِ الغافل، ولا سبيل للغافل عن الذّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت، والغافل بينه وبين اللّه -عزّ وجلّ- وحشة لا تزول إلّا بالذّكر.

أما بعد أيها الإخوة: فلقد خلق الله آدم -عليه السلام- وأسجد له ملائكته وقال له: (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:35]؛ لكن، وَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ في غفلةٍ منهما عن هذا التحذير فأَكَلَا مِنْهَا، ففعلا ما نهاهما ربهما عنه؛ فأهبطهما من الجنة.

وما زال الشيطان بذريتهما يتحين غفلاتهم؛ ولذلك حذر الله -تعالى- من الغفلة والغافلين في غير ما موضع من كتابه الكريم فقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) [الأعراف:205].

 قال الشيخ السعدي رحمه الله: (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) الذين نسوا اللّهَ فأنساهم أنفسَهم، فإنَّهم حُرموا خير الدنيا والآخرة، وأعرضوا عمَّن كلُّ السعادةِ والفوزِ في ذكرِه وعبوديَّتِه، وأقبلوا على من كلُّ الشقاوة والخيبة في الاشتغال به.

وهذه من الآداب التي ينبغي للعبد أن يراعيَها حقَّ رعايتها، وهي الإكثار من ذكر اللّه آناء الليل والنهار، خصوصاً طَرَفَيِ النهار، مخلصاً خاشعاً متضرِّعاً متذللاً ساكناً متواطئاً عليه قلبه ولسانه بأدبٍ ووقارٍ وإقبالٍ على الدُّعاء والذكر، وإحضارٍ له بقلبه، وعدم غفلة، فإن اللّه لا يستجيبُ دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ.

 
يقول سبحانه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28].

قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) غَفَلَ عن الله، فعاقبه بأن أَغْفَلَهُ عن ذكره؛ (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) أي: صار تبعاً لهواه؛ حيث ما اشتهتْ نفسُه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخُسرانه؛ فهو قد اتَّخذ إلهه هواه؛ كما قال -تعالى-: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) الآية. (وَكَانَ أَمْرُهُ) أي: مصالح دينه ودنياه (فُرُطًا) أي: ضائعة معطَّلة، فهذا قد نهى الله عن طاعته، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنَّه لا يدعو إلا لما هو متصف به.

ودلت الآية على أنَّ الذي ينبغي أن يُطاع، ويكون إماماً للناس، من امتلأ قلبُه بمحبَّة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتَّبع مراضي ربِّه، فقدَّمها على هواه، فحفظ بذلك ما حَفِظَ من وقته، وصلحت أحوالُه، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما منَّ اللهُ به عليه، فحقيقٌ بذلك أن يُتَّبعَ ويُجعلَ إماماً.

 
والصبر المذكور في هذه الآية، هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه يتمُّ باقي الأقسام.

 
وفي الآية، استحبابُ الذِّكرِ والدُّعاء والعبادة طرفي النهار، لأنَّ اللهَ مدحهم بفعله، وكلُّ فعلٍ مَدَحَ اللهُ فاعلَه، دلَّ ذلك على أن الله يحبُّه، وإذا كان يحبه فإنَّه يأمرُ به، ويُرغِّب فيه.

أيها الأحبة: وأشدُّ النكبات التي يُصاب بها البَشرُ نكبةُ الغفلة، وقد أصابتْ أمَّتَنا اليوم في مقتلٍ في شتَّى مجالات الحياة البشرية؛ وهي آفةٌ قاتلة، وداءٌ عُضال فتَّاك، وقد دبَّ هذا الداء في جَسَد الأمَّة الإسلامية فأقعَدها عن سبيلها، وأوْهن مِن قُواها، وشغلها أيَّما شغل عن رسالتها وغايتها في هذه الحياة الدنيا.

فالغفلة تجلبُ شر الشّيطان، وتسخطُ الرّحمن، ومدعاة للوسوسة والشّكوك، كما أنَّ الغفلة تنزّل الهمّ والغمّ في القلب، وتبعد عنه الفرح والسّرور، "تميت القلب"، وتبعد العبد عن اللّه -عزّ وجلّ-، وتجرّه إلى المعاصي والآثام.

كما أن الغفلة تبلّد الذّهن، وتسدّ أبواب المعرفة، فلا يصل الغافل إلى مبتغاه؛ وتورث العداوة والبغضاء، وتذهب الحياء والوقار بين النّاس.

أيها الأحبة: قال ابن القيّم -رحمه اللّه-: على قدر غفلة العبد عن الذّكر يكون بُعْده عن اللّه. وقال: إنّ حجاب الهيبة للّه -عزّ وجلّ- رقيقٌ في قلبِ الغافل، ولا سبيل للغافل عن الذّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت، والغافل بينه وبين اللّه -عزّ وجلّ- وحشة لا تزول إلّا بالذّكر.

أيها الإخوة: ولقد حذر الله -تعالى- الأُمم من داء الغفلة المهلِك، وأرسل إليهم الرسل لينقذوهم منها، كما قال -تعالى- في كتابه لرسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [يس:6-7].

في هاتين الآيتين بيان أن الغفلة أشدُّ ما يُفسِد القلوب، فالقلْب الغافل قلْب مُعطَّل عن وظيفته، معطَّل عن الالْتقاط والتأثُّر والاستجابة، تمرُّ به دلائلُ الهدى، أو يمرُّ بها دون أن يحسَّها أو يدركها، ودون أن ينبض أو يستقبل، ومِن ثَمَّ كان الإنذار هو أليقَ شيء بالغفلة التي كان فيها القوم، الذين مضتِ الأجيال دون أن ينذرَهم منذِرٌ، أو ينبههم منبِّه، فهم مِن ذرية إسماعيلَ، ولم يكن لهم بعدَه من رسول، فالإنذار قد يُوقِظ الغافلين المستغرقين في الغفلة، الذين لم يأتِهم ولم يأتِ آباءَهم نذير.

ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين، وعمَّا نَزَل بهم من قدر الله، وَفقَ ما علم الله مِن قلوبهم ومِن أمرهم، ما كان منه وما سيكون: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس:7].

لقد قُضِي في أمرهم، وحَقَّ قدرُ الله على أكثرهم، بما علِمه من حقيقتهم، وطبيعة مشاعرهم، فهم لا يؤمنون، وهذا هو المصيرُ الأخير للأكثرين، فإنَّ نفوسهم محجوبةٌ عن الهدى، مشدودةٌ عن رؤية دلائله أو استشعارها؛ نعوذ بالله من حالهم.

ثم اعلموا -وفقنا الله جميعاً لطاعته- أن لكل نفس هفوة، والغفلة أمرٌ وارد على النفس البشرية، ولكن حَسْب الإنسانِ أن يسعى دائمًا إلى معالِم اليقظة والبصيرة؛ حتى لا يُؤخَذ على غِرَّة مع الغافلين.

قال ابن القيم رحمه الله: اشتر نفسك فالسوق قائمة، والثمن موجود، لابدَّ من سِنَة الغفلة، ورُقاد الهوى، ولكن كن خفيفَ النَّوم؛ فحُراس البلد يصيحون: دنا الصباح!.

أسأل الله -تعالى- أن يمن علينا بطاعته، وأن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: وأسباب النجاة من الغفلة كثيرة: أولها وأهمها الاعتصامُ والتمسك بحبْل الله ورسوله، وتحقيق الوحْدة بالأُخوة الإيمانية؛ كما قال -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].
 

وقال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].

قال الشافعي -رحمه الله-: الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معْنى كتاب الله ولا سُنَّةٍ ولا قياسٍ، وإنَّما تكون الغفلة في الفُرْقة.

ومنها الاستعداد للدار الآخِرة، بالعمل الصالِح، وترْك الانغماس في حبِّ الدنيا وملذاتها، كما قال -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء:19].

وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].

ومما يحمي المؤمن من الغفلة الحرص على الاستعداد للدار الآخِرة، بالعمل الصالِح، وترْك الانغماس في حبِّ الدنيا وملذاتها كما قال -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء:19].

وما توانَى العاملون، ولا تأخَّر الكسالى إلا بسبب الغفلة عن الآخِرة، والانشغال عن العمل لها، أمَّا أهل الصلاح فهُم خلاف ذلك؛ كما أخبر -تعالى-: (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَّلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور:37].

وقال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر:9].

ثم في الاستعاذة بالله -تعالى- من الشيطان، ومكايده وحبائله وشرورِه ومصايده نجاة من الغفلة؛ كما قال -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 200-201].

أحبتي: وفي زمن تكالب الشر بشرقه وغربه على أمة الإسلام يريد اجتثاثها، نحن أحوج ما نكون للتمسك بديننا؛ تعبداً لله بأبداننا من صلاة وصيام وذكر ودعوة وتوسل لله ودعاء.

والتعبد لله بأموالنا من دفع للزكاة والصدقات؛ إعانة للمجاهدين، ورعاية للفقراء والمعوزين من الأيتام والأرامل والمشردين: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].

وهذا دفع للشر عن الأمة، وقوة لها...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي