الصديق .. ما له وما عليه

أحمد بن ناصر الطيار
عناصر الخطبة
  1. معنى الصَّدِيق ومفهوم الصداقة .
  2. حقوق الصديق على صديقه .
  3. صفات سيئةٌ يتجنبها الصديق .

اقتباس

واعلم -يا عبد الله- أنَّك إذا اتَّخذت أحداً صديقاً, واعترفت وأقررتَ بصداقته؛ فقد وجب عليك أنْ تلتزم بحقوقه عليك, وواجباته اللاَّزمةِ عليك, فإنْ قُمت بها فقد وَفَّيت وأحسنت, وإن لم تقم بها وعجزت عنها فدعواك بأنك صديقٌ له دعوى باطلة, ومقولةٌ...

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أنَّ الله تعالى جعل مِن حكمته في عباده, أنْ جعل بعضهم يستأنس ببعض, فلا يستطيع أحدٌ أنْ يعيش في عزلةٍ وحْده, فاتخذ الناسُ الأصدقاء, واصْطفى الكثيرُ منهمُ الأخِلَّاء, فترتَّبَ على ذلك مصالح كثيرة, وفوائدُ جمَّة.

ومع ذلك؛ فقد كثرُ الخلاف بين الأصدقاء, وحصل بين كثيرٍ منهمُ التفرُّقُ والعداء, وكلُّ ذلك بسبب جهلهم بحقوق الصديق, وما له وما عليه.

ولَمَّا كان من المستحيل أنْ يعيش أحدٌ بلا صديقٍ يُؤانسه, وخليلٍ يُصاحبه؛ كان لزاماً على كلِّ مَن اتخذ صديقاً أنْ يعرف حقوقه, والآداب في التعاملِ معه.

وقبل ذلك لا بدّ أنْ نعرف ما معنى الصديق.

يقولُ علماءُ اللغة: كلمةُ صِدْق: أصلٌ يدلُّ على قوّةٍ في الشيء, فالصِّدْقُ هو القوَّةُ والاسْتقامةُ في الكلام, والصَّدَاقة مشتقّة من الصِّدق في المودّة والمحبة, والإخلاصِ والنصحِ في الصُّحبة.

تقول: فلانٌ صديقي: أي: صَدَقني المودَّةَ والنصيحةَ.

فالصديق هو الذي يَصْدقك في النصيحةِ والمحبَّة, ويقف معك عند الضِّيقِ والحاجة, وحالَ اليُسر والإعسار, وعند الحاجة والإقتار.

الصداقةُ الخالصةُ حقا هي التي تشتدّ عند الأزمات, وتقوى عند الْمُلمَّات, وتظهر جليًّا عند الحاجات.

وليستِ الصَّداقةُ بكثرة الْمُجالسات, ولا بتبادل الرسائل والمضاحكات, فهذه صداقةٌ ما إنْ يأتيها مُكَدِّرٌ إلا بدَّدها, ولا موقفٌ حَرِجٌ إلا كشف عَوَرَها, وأظهر زَبَدَها وغُثاءها.

ولسانُ حال أكثر الأصدقاء:

وأنْتَ أخي ما لم تَكُنْ ليَ حاجةٌ *** فإنْ عرضَتْ أيقنتُ أن لا أخَا لِيَا

أيُّ معنىً للصداقة إذا لم تُشاركْ صديقك عند حاجته مالَك, وتُصفي له ودَّك, وتُؤثره على بعض محابِّك وحاجاتك؟.

واعلم -يا عبد الله- أنَّك إذا اتَّخذت أحداً صديقاً, واعترفت وأقررتَ بصداقته؛ فقد وجب عليك أنْ تلتزم بحقوقه عليك, وواجباته اللاَّزمةِ عليك, فإنْ قُمت بها فقد وَفَّيت وأحسنت, وإن لم تقم بها وعجزت عنها فدعواك بأنك صديقٌ له دعوى باطلة, ومقولةٌ كاذبة.

سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً يُثني ويمدحُ رجلاً فقال: أسافرتَ معه؟ قال: لا, قال: أخالطتَه؟ قال: لا, قال: هل كانت بينك وبينه خصومةٌ؟ قال: لا,  قال: والله الذي لا إله غيره؛ ما تعرفه!. رواها ابن أبي الدنيا في الموسوعة.

فمن حقوق الصديق: أنْ تقف معه وتُسانده وقت الفاقة, بالبذل والعطاء, والكرمِ والسخاء.

وتركي مواساة الأخلاَّءِ بالذي *** تنالُ يدي ظلمٌ لهمْ وعقوقُ

وإنِّي لأستحْيِي من الله أَنْ أُرى *** بحالِ اتِّساعٍ والصديقُ مضيقُ

قِفْ مع صديقك حال شدَّته, واعلم أن ما تفعله مع صديقك عند حاجته هو أمرٌ حتمٌ عليك, ولك فيه أعظم الأجر عند الله تعالى, قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ, أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا"، يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ. رواه الطبرانيُّ وصحَّحه الألباني.

ومَن لم يقف مع صديقه عند ضيقه وشدَّته, فقد صدق فيه قول الشافعيِّ -رحمه الله-:

صديقٌ ليس ينفعُ يومَ بؤسٍ *** قريبٌ من عَدُوٍّ في القياسِ

فقِفْ معه عند مصائِبه, وواسه عند شدائده ومرضه.

فهذا طاووسُ -رحمه الله-, يقف مع صديقٍ ورفيقٍ له حال مرضه, واسْتمر المرض بصديقه حتى جاء موسمُ الحج, وكان كلَّ سنةٍ يحج, فترك الحج لأجل تمريضِ صديقه ومُواساته.

ومن حقوق الصديق: أنْ تلتمس له الأعذار.

قال أبو قلابة -رحمه الله-: إذا بلغك عن أخيك شيْءٌ تكرهه، فالتمس له العذْر جهدَك، فإن لم تجد له عذراً، فقل في نفسك: لعل لأخي عذراً لا أعلمه.

وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: إذا سمعت كلمةً من مسلم فاحملها على أحسن ما تجد, حتى لا تجد محملا.

يقول أحدُ الدعاةِ الْمُربين -وفقه الله-: مِن المزعجِ أنْ يجعل الإنسانُ كلَّ موقفٍ, أو أزمةٍ يَمُرُّ بها موطن اختبارٍ لأصحابه, الذين عرفهم وجربَّهم مُنْذُ سنوات.

نعم؛ إنَّ الصديق الذي جرَّبته وعاشرته لسنواتٍ عدَّة, لا ينبغي أنْ تُوقفَه عند كلِّ موقفٍ لم يُحسن التصرف فيه في نظرك, كأنْ تُرسل له رسالةً فلم يردّ عليها, أو تُصابَ بمرضٍ فلم يَعُدْك أو يتَّصلَ عليك, أو تمرَّ بضائقةٍ فلم يقفْ معك كما ينبغي, لا تجعلْ هذه المواقفَ مَوَاطن اختبارٍ وتقييمٍ له, فإنْ فعل ما تُحِبُّ حَكَمْتَ بأنه صديقٌ وفيّ, وإنْ لم يفعلْ شكَّكت في صداقته وإخلاصه!.

ومَن يبغ الصديق بغير عيبٍ *** سيبقى الدهرَ ليس له صديقُ

وأيُّ جوادٍ لا يكبو؟ وأيُّ صارمٍ لا ينبو؟.

والعجيب؛ أن بعض الناس قد صاحب وعاشر صديقه منذ سنواتٍ طويلة, ولا يزال يُجرِّبه في كُلِّ موقف, ويُقيِّم صداقته ووفاءه في كلِّ أمرٍ يطلبُه منه, فأيُّ صداقةٍ هذه!.

ومن حقوق الصديق أيضاً: أنْ تُصارحَه بعيوبه وأخطائه, بأسلوبٍ حكيمٍ ليِّن, قال ميمون بن مهران -رحمه الله- لصديقه: قل لي في وجهي ما أكره, فإنَّ الرجلَ لا ينصح أخاه, حتى يقول له في وجهه ما يكره.

نعم؛ ما قيمةُ الصديقِ إذا لم يكن مرآةً صافيةً لصديقه؟ ما قيمةُ الصديق, إذا لم يُخبرْه بعيوبه ليُصلحها, وأخطائه ليُصحِّحها؟.

إنَّ من يُخبرك عن عيبك هو مُحسنٌ إليك, ومن يُنبِّهك على أخطائك هو مُتفضِّلٌ عليك, فكيف تُقابله بالحنق والغضب؟ أهذا جزاء الإحسان؟ أين نَجِدُ في هذا الزمان من يُنبهنا بأخطائنا, ويُصارحُنا بِعُيُوبِنا؟ فهذا هو الناصح حقًّا, وليس الصديق الوفيّ الذي يراك غارقاً في عيوبك, غافلاً عن أخطائك, وهو ساكتٌ لا يُحرك ساكناً!.

كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي", وكان يسأل سلمان الفارسيَّ -رضي الله عنه- عن عيوبه، فلما قدم عليه قال: ما الذي بلغك عني مِمَّا تكرهه؟.

فكلُّ مَن كان أرجحَ عقلا, وأقوى ديناً؛ كان أحرص الناس على معرفة عيوبه, وأحبَّ الناس إليه مَن يُنبهه على تصرُّفاته وسلوكه؛ فقليلٌ في الأصدقاء, مَنْ يكونُ مخلصًا صريحًا, بعيدًا عن المداهنة.

قيل لبعض العلماء، وقد اعتزل الناس وكان مُنطويًا عنهم: لِمَ امتنعت عن المخالطة؟ فقال: وماذا أصنع بأقوامٍ يُخْفون عني عيوبي؟.

ولو أن إنسانًا نبهك أن في ثوبك, أو في فراشك حيةً أو عقربًا, لشكرتَه ودعوت له, وأعْظَمْتَ صنِيْعَه ونصيحتَه.

وهذه ضررها على البدن فقط, ويدوم ألَمُهَا زمناً يسيراً, وأما ضررُ الأخلاقِ الرديئةِ فهي على القلب, ويُخْشى أن تدومَ حتى بعد الموت, ومع ذلك لا نفرح بمن ينبهنا عليها, ولا نشتغلُ بإزالتها! بل ربما قابلنا نصح الناصح بقولنا له: وأنت فيك وفيك.

اللهم ألهمنا رشدنا, وبصِّرنا بعيوبنا, ووفقنا للقيام, بشكر من يُطْلِعُنا على مساوئِنا, بِمَنِّكَ وكرمِك يا أكرم الأكرمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المسلمون، ومن حقوق الصديق أيضاً أنْ تسترَ عيبه, وتغفرَ ذنبه, وتتجاوزَ عن أخطائه, ولا تقف عند عثراته, فإنْ لم تفعلْ فلن يدوم لك صديق.

وكنتُ إذا الصديقُ أراد غَيظي *** وأشْرَقَني على حنقٍ بريقِي

عفوتُ ذنوبَه وصفحتُ عنه *** مخافةَ أنْ أعيشَ بلا صديق

ولا بدَّ للصداقةِ أنْ يشوبَها نوع كَدَر, أو يحصُل من أحدهم غضبٌ أو ضرر, وهذه هي الطبيعةُ البشرية, التي يعتريها النقصُ والنسيانُ وتغيُّرُ المزاج, فإذا كان كذلك؛ فلا بدّ أنْ يَسودَ التسامح بين الأصدقاء, والتغاضي عن الزلاَّت والأخطاء.

ومن حقوق الصديق: ألا تُكثرَ عليه من الزيارة والجلوس:

أَقْلِلْ زيارتَكَ الصَّدِيـ *** ـقَ يراكَ كالثَّوْبِ اسْتَجَدَّهْ

إنَّ الصديقَ يُمِلُّه *** ألَّا يزال يَرَاكَ عِنْدَه

فبعضُ الأصدقاء, تودُّ أنك لم تعرفه سابقاً, مَن كثرةِ مُكالماته وزياراته وإلْحَاحه.

ومن حقوق الصديق أيضاً: ألا تكثر عليه المزاح والهزْل, فإنَّه لا بدّ أنْ يُحدث شرخاً في الصداقة والْمودَّة.

مازِحْ صديقَكَ إنْ أَرَادَ مِزَاحا *** فإذا أباه فلا تَزِدْهُ جِمَاحا

فَلَرُبَّما مَزَحَ الصَّديقُ بِمَزحةٍ ***  كانت لِبَدْءِ عَداوةٍ مِفْتاحا

وهناك صفاتٌ سيِّئةٌ, ينبغي أنْ يتجنَّبها الأصدقاء، منها: أنْ لا يعرف صديقه إلا عند حاجته, فربما مضى عليه أشهرٌ كثيرة لا يُكلمه ولا يزوره, فإذا ألَمَّت به حاجةٌ سارع إليه واتصل به, ثم لا يُكلمه ولا يزوره إلا عند الحاجة الأخرى!.

ومن ذلك أيضا: أنْ لا يحتمل من صديقه المزاح, وهو يمزح معه, وربما زاد واعتدى في مزاحه, وكأن المزح حلالٌ عليه حرامٌ على غيره.

ومن ذلك أيضا: أنْ يكون شديد الحساسية مع صديقه, إنْ سمع منه كلمةً لا تُعجبه حملها في خاطره, وإن مازحه أو نصحه, اعتبره تنقُّصاً في حقِّه.

ومن ذلك أيضا: الاكثارُ من اللوم والعتاب, فإذا انقطع صديقُه عنه عاتبه لانقطاعه, وإذا طلب منه حاجةً أو قرضاً, فلم يستطع تحقيق ذلك حمل في نفسه عليه, وبما أدَّاه ذلك إلى فتور علاقته معه.

فلْيفتش كلُّ واحدٍ منَّا عن صديقه, فإنْ رأى فيه أخلاقاً وصفات حسنة؛ فلْيحمد الله, وإن رأى فيه خلاف ذلك؛ فلْيحرصْ على تجنُّبِه والبحثِ عن غيرِه.

فالصّديقُ الذي لا يقبل من صديقه نقداً بنَّاءً, ولا يلتمس منه الأعذار, ولا يقف معه وقت الضيقِ والإعسار, ولا يحتمل منه مزاحاً, ولا يعرفه إلا وقت الحاجة؛ فلا ينبغي أنْ تُهدرَ الأوقاتُ لأجله, وتُبذلَ الأموال تطييباً لخاطره.

وهو لا يزيدك إلا مرضاً وهمًّا, وضِيقاً وغمًّا.

نسال الله تعالى أنْ يُؤلف بين قلوبنا, وأنْ يُحسِّن أخلاقنا, إنه سميعٌ قريبٌ مجيب.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي