لذلك؛ الحقيقة الدقيقة: القوة لا تصنع حقاً، لكن الحق يصنع قوة. أخطر ما في الخطاب: القوة وحدها لا تصنع الحق، إنما الحق يصنع قوة. أو: الحق يحتاج إلى قوة، والقوة من دون حكمة تدمر صاحبها. الأمة التي يُميز أفرادها بأعمالهم، أو بمقياس موضوعي، ترقى إلى أعلى عليين، وأية أمة يقيّم أفرادها بانتماءاتهم تهوي إلى أسفل سافلين، كيف يقيّم أفراد الأمة: بانتماءاتهم أم بأعمالهم؟...
الحمد لله، ثم الحمد لله. الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكلي إلا على الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
أيها الإخوة الكرام: ينبغي أن نعلم علم اليقين أن هذا الإنسان هو المخلوق الأول، لقوله -تعالى-: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) [الأحزاب:72].
لكن هذا الإنسان حينما يؤدي الأمانة التي كُلف بها يفوق الملائكة المقربين، رُكِّب الملَك من عقل بلا شهوة، وركِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركِّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة:6-7].
فما أعظم الفرق بين أن يكون المرء فوق الملائكة وبين أن يصبح دون الحيوان! (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان:44].
أيها الإخوة الكرام: متى يرقى الإنسان ويرقى، يسمو الإنسان ويسمو، يرتفع ويرتفع؟ متى؟ إذا اتبع منهج الله، والدليل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:71].
ماذا في القرآن الكريم حول هذا الموضوع؟ وأقول لكم بشفافية: علامة إيمانك أنك إذا تلوت آية كهذه الآية -ومثل هذه الآيات تزيد عن مائتين وثمانين آية- علامة إيمانك أنْ تشعر بكل خلية في جسمك، وبكل قطرة في دمك، أنك معنيّ بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا).
علامة إيمانك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)؛ لأن الله -عز وجل- خاطب الكفار بأصول الدين: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)[البقرة:21]، هذه أصول، فإذا خاطب المؤمنين وقد آمنوا بالله خالقاً، ومربياً، ومسيراً، آمنوا بأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، إذا خاطب الله المؤمنين يخاطبهم بفروع الشريعة، لذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ) [النساء:59].
أين هو أمر الله -عز وجل-؟ في القرآن الكريم، كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، وعلة أي أمر أنه أمر، هناك فئة مثقفة لا يقبلون على طاعة الله إلا إذا كشف لهم حقيقة هذا الأمر، الإيمان أرقى من ذلك، علة أي أمر في القرآن الكريم أنه أمر فقط، أي أنت حينما تذهب إلى طبيب قلب يحمل أعلى شهادة في العالم، وله خبرات متراكمة لعشرات السنين، وقال لك: إياك والصعود على الدرج! لا تفكر لثانية واحدة أن تناقشه في هذا التوجيه، إنسان مثلك لكن اختصاصه متفوق قال لك: البيت المرتفع لا يناسب قلبك، فكيف بخالق الأكوان؟ فكيف بالذات الكاملة؟.
لذلك الله -عز وجل- قادر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ)، أطيعوا الله من خلال قرآنه، وفي القرآن أمر ونهي، الأمر يقتضي أن تأتمر والنهي يقتضي أن تنتهي، فأنت إذا خضعت لأمر الله في القرآن وابتعدت عن نهيه فقد أطعت الله في قرآنه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).
النبي -عليه الصلاة والسلام- معصوم، معصوم من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، ولأنه معصوم أمرنا أن نطيعه، ولا يعقل أن يأتي أمر إلهي بطاعة رسول الله ورسول الله ليس معصوماً، معصوم باتفاق العلماء من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).
أما الإشكال ففي الثالثة: (وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59]، من هم أولي الأمر؟ .
أولاً: منكم، من للتبعيض.
ثانياً: أولي الأمر عند الإمام الشافعي هم العلماء والأمراء، العلماء يعلمون الأمر، والأمراء ينفذون هذا الأمر، فينبغي للأمير أن يأخذ من العالم، العالم يعلم الأمر، والأمير معه قوة تنفيذية مهمته أن يأخذ الأمر من العالم، وأن ينفذه في الرعية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).
قد يحدث تنازع فما الحل؟ قال -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)، مع من؟ التنازع ليس مع صاحب الأمر وليس مع صاحب السنة، قال -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)، فيما جاءكم عن أولي الأمر، عن العلماء والأمراء، (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء:59].
هل يعقل وهل تصدقون أن يردك الله إلى مرجعين كبيرين، والمرجعان ليس فيهما حل لمشكلة في الأرض؟ من خلال هذه الآية يجب أن تعلم علم اليقين أن كل مشكلة في الأرض إلى يوم القيامة لها في الكتاب والسنة حل رائع، لكن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، لا نفكر نحن هذا التفكير أن أي مشكلة، أي مشكلة، سكانية، اقتصادية، اجتماعية، أي مشكلة لها حل في الكتاب والسنة، والدليل: الآية، هل يعقل أن يحيلكم الله إلى مرجعين ناقصين؟ مستحيل! (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، أي: ردوه إلى الكتاب والسنة، في الكتاب بيان لأصول الدين، وفي السنة بيان للتفاصيل، الكتاب والسنة أي: الكتاب والحديث الصحيح، الكتاب وما صحّ عن رسول الله.
(فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)[النساء:59]؛ هذا إذا كان هناك إيمان باليوم الآخر.
أقسم لكم بالله لو آمنا بالله وباليوم الآخر حق الإيمان، تنقلب مقاييسنا رأساً على عقب، بمقياس الدنيا الأخذ ذكاء وشطارة أن تأخذ، بمقياس الآخرة أن تعطي، إن لم تنقلب الموازين مائة وثمانين درجة لا يكون إيماننا بالكتاب والسنة صحيحاً، أنت في الدنيا من أجل العمل الصالح، حجمك عند الله بحجم عطائك، الآن بأعماق الإنسان بالتعبير المعاصر، بالعقل الباطن، ذكاؤك، نجاحك، تفوقك، فيما تأخذ لا فيما تعطي، لكن المؤمن ذكاؤه، نجاحه، توفيقه فيما يعطي، فينبغي بعد الإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان الصحيح أن تنعكس الموازين.
لذلك قال -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران:159]، أي: يا محمد، بسبب رحمة استقرت في قلبك من خلال اتصالك بنا، كنت ليناً لهم، فلما كنت ليناً لهم التفوا حولك.
هذه الآية قانون، أنا سميته سابقاً قانون الالتفاف والولاء، متى يواليك الناس؟ إذا اتصلت بالله أولاً فاكتسبت منه الرحمة، هذه الرحمة جعلتك ليناً، هناك رحمة، وهناك قسوة، هذا اللين جذب الناس إليك، الأب يحتاج هذه الآية، المعلم في الصف، الموظف، أي منصب قيادي في الأرض من آدم إلى يوم القيامة يحتاج لهذه الآية: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ).
هناك رحمة بالقلب، وهناك خوف من الله -عز وجل-، هذا الإنسان أخوك بالإنسانية كيف تقتله؟ له أولاد، له زوجة، له أم، وكم من إنسان قتل أصيب أبوه بفالج أو أمه كذلك! هذا أخوك في الإنسانية.
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، ولو لم تكن كذلك، ولو كنت منقطعاً عنا يمتلئ القلب قسوة، وإذا امتلأ القلب قسوة كنت فظاً غليظاً، فإذا كنت فظاً غليظاً ينفض الناس من حولك، هذه الآية يحتاجها الأب يحتاجها المعلم، يحتاجها رئيس الدائرة، يحتاجها مدير الشركة، يحتاجها مدير المصنع، يحتاجها الضابط في الجيش: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)
أيها الإخوة الكرام: من هذا الذي أمر أن يشاور من حوله؟ النبي -عليه الصلاة والسلام-، المعصوم، الذي يوحى إليه، قال له الله -عز وجل-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، ما أبرز صفة للمجتمع الديني؟ أمرهم شورى بينهم، أيها الإخوة الكرام: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].
هناك حديث رائع جداً: "وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ" رواه مسلم. لا يوجد إلا الله، بيده كل شيء: "وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ".
أيها الإخوة الكرام، آية تطمئن: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ) [ آل عمران:195]، مهما دق، تمشي في الطريق رأيت نملة تتحاشى أن تدوس عليها، هذا العمل ماذا كلفك؟ أن تبتعد عنها، بدءاً من هذا العمل، وانتهاءً بهداية الناس: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران:195].
بالإسلام لا يوجد تفرقة: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13]، أعظم شيء بالإسلام أنه لا يوجد طبقية، المسلمون سواسية كأسنان المشط، سيدنا الصديق اشترى بلالاً من سيده وأعتقه، سيدنا الصديق رأس قريش، من أرومة قريش العليا، وبلال عبد بمقياس المجتمع الجاهلي، وضع يده تحت إبطه وقال: هذا أخي حقاً، لذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكروا الصديق قالوا: "هو سيدنا وأعتق سيدنا"، أي: بلالاً، لا يوجد بالدين تفرقة، ولا طبقية، ولا إقليمية، لا يوجد إلا مقياس واحد: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات:13].
الأمة التي يُميز أفرادها بأعمالهم، أو بمقياس موضوعي، ترقى إلى أعلى عليين، وأية أمة يقيّم أفرادها بانتماءاتهم تهوي إلى أسفل سافلين، كيف يقيّم أفراد الأمة: بانتماءاتهم أم بأعمالهم؟ من أجل أن نرقى ينبغي أن نقيّم بأعمالنا فقط: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) [آل عمران:195].
الإنسان أحياناً يغتر بإنسان غني، معه ملايين مملينة، أو بإنسان قوي بجرة قلم يفعل كل شيء، قال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) [آل عمران:196-198].
لكن المؤمن إذا صار قوياً يستخدم قوته لخير الناس، النبي قال: "المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف" رواه مسلم. الإيمان قيد، الإيمان قيد رائع: "المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف".
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء:29]، كل مؤمن معني بهذا الخطاب، هذه الآية تفسر بمليون حالة موجودة في حياة المسلمين، الغش، أكلت مالاً حراماً، أوهمت الشاري أن البضاعة مستوردة وهي محلية، أوهمت الشاري أن المادة الأولية بهذه البضاعة من نوع معين فإذا هي من نوع أدنى بكثير، فالذي يغش أكل أموال الناس بالباطل، الذي يكذب أكل أموال الناس بالباطل، الذي يحتال أكل أموال الناس بالباطل، والله هناك ألف طريقة وطريقة لأكل أموال الناس بالباطل: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء:29].
التاجر يشتري بسعر ويبيع بسعر، الهامش بينهما سبب بقائه بالتجارة، هذا ربح مشروع: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، هنا الشاهد، إنسان يقتل إنساناً، هو من قتل؟ قتل أخاه في الإنسانية، يظل المسلم بخير ما لم يسفك دماً، هذا الكلام موجه لكل الفرقاء معاً، يظل المسلم بخير ما لم يسفك دماً.
مرة ثانية: هذا الكلام موجه لكل الفرقاء جميعاً.
أيها الإخوة: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء:29]، (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:28].
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة:32].
كيف؟ أحياناً أب عالم ومربّ يربي أحد أولاده تربية عادية، هذا الابن يتفوق في الحياة، يجري الله على يديه الخير، بعد أجيال ثلاثة هذا الابن صار أمةً، والدليل: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل:120].
أحياناً إنسان مصلح يغير مجرى التاريخ، صلاح الدين الأيوبي واجه سبعاً وعشرين دولة أوربية، وغيّر مجرى التاريخ، بعدما كانت سوريا محتلة تسعين عاماً حررها، ودخل بيت المقدس، لذلك الإنسان حينما يتصل بالله يصبح عنده قدرات مذهلة، المسلمون الأوائل قلة قليلة لكن خلال ربع قرن فتحوا العالم.
لذلك؛ الحقيقة الدقيقة: القوة لا تصنع حقاً، لكن الحق يصنع قوة. أخطر ما في الخطاب: القوة وحدها لا تصنع الحق، إنما الحق يصنع قوة. أو: الحق يحتاج إلى قوة، والقوة من دون حكمة تدمر صاحبها.
أيها الإخوة: نتائج الظلم الذي تحدثت عنه في الأسبوع الماضي، نتائج الظلم لا يمكن ضبط حساباتها، ولا تقدير ردود أفعالها، ذلك أن ردود المقهورين والمظلومين كشظايا القنابل، تطيش في كل اتجاه، تصيب من غير تصويب، إن ردود أفعال المظلومين لا يمكن التحكم في مداها -بعدها- ولا في اتجاهاتها، إنها تطيش متجاوزة حدود المشروع والمعقول، لذلك فالعلاج الأول والحقيقي لأية أزمة تعاني منها أمة نزع فتيل الظلم الذي يشحن النفوس بالكراهية والمقت، يعمي البصائر والأبصار عن تدبر العواقب، عواقب الأمور، والنظر في مشروعيتها أو نتائجها، لذلك حينما ينتظر الناس طويلاً قبل أن ينالوا حقوقهم فمن المرجح أنهم سيتصرفون في فترة الانتظار بطريقة يصعب توقعها، لذلك قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات :10].
أيها الإخوة الكرام: كنت مرة في بلاد بعيدة جداً، في أمريكا، وكنت مدعواً لمؤتمر إسلامي كبير، وفي الحفل الختامي جرت العادة أن يوضع الضيوف على طاولة طويلة وأن يلقي كل واحد منهم كلمة في دقيقة، كان الذي عن يميني من العراق وتحدث عن الآلام التي ألمت بالعراق، قال: لقد أصيبت العراق بالبؤس ما لم يصب به المسلمون في مائة عام، وبكى.
قال: والله! لكنهم ارتقوا في سلم الإيمان ما لم يرتق به هؤلاء في ثلاثمائة عام! وانتهى كلامه.
جاء دوري، قلت أنا: إذاً؛ خطة الله استوعبت خطة أمريكا، وظفتها للخير، وهكذا يفعل الله -عز وجل-! أي شيء يكرهه الناس يوظف عند الله للخير المطلق، الدليل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) [القصص:5]، أي: دائماً وأبداً هذه الآية تملأ صدر المؤمنين رضا بما يجري في أي بلد إسلامي.
لذلك؛ تصور سفينة، هذه السفينة تتجه إلى الشرق، أنا سأرمز إلى الخير بالشرق، وإلى الشر بالغرب، السفينة تتجه إلى الشرق، والسفينة كبيرة عملاقة، على ظهرها إنسان يجرها إلى الغرب، أي يجر إلى مصيبة... هكذا ينبغي أن نفهم الأزمات والملمات التي تصيب المسلمين.
الأزمة مؤلمة؛ لكن مجمل هذه الأزمة لصالح المؤمنين، هذا من فهم المؤمن للمصائب: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155]، الآيات كثيرة جداً: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:21].
ما لم تفهم حقيقة المصائب، وأنها في النهاية لصالح المؤمنين قطعاً؛ لكن الدواء مر دائماً، المصيبة مؤلمة، لكنها في النهاية لصالح المؤمنين، والمؤمن الصادق يؤمن بهذه الحقيقة، لذلك قال -تعالى-: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران:26].
لم يقل: والشر، إيتاء الملك خير ونزعه خير، الإعزاز خير والإذلال خير، بيدك الخير في كل الأحوال، إنك على كل شيء قدير.
أيها الإخوة: بشارة إلى هؤلاء الذين قتلوا، الحديث الشريف: "مَن قتل دون مظلمته فهو شهيد" رواه النسائي.
هذا الحديث يواسي أهل الشهداء من كل الأطراف.
أيها الإخوة: هناك قاعدة: كل شِدة وراءها شَدة إلى الله، وكل مِحنة هي في الحقيقة مَنحة من الله، لذلك قال -تعالى-: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20]. قال علماء التفسير: المصائب هي النعم الباطنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين! أستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام: تنطلق اليوم في ظل هذه الظروف العصيبة التي يمر بها بلدنا الحبيب دعوات كثيرة إلى الحوار، أليس كذلك؟ في سبيل الخروج من هذه الأزمة، وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع هذا البلد الحبيب، ولا بد من أن أضع بين أيديكم بعض الحقائق المتعلقة بالحوار:
الحوار ضرورة لنا جميعاً، بدءاً من الأب مع أولاده، وانتهاءً بالدولة مع المواطنين، الحوار الأسلوب الراقي، الأسلوب الحضاري، بالتعبير المعاصر الديمقراطي، والذي يرفض الحوار يرفض الآخر، والذي يرفض الآخر يرفض نفسه، بل يتستر على عيوبها، ويحملها إلى التمادي بالباطل، لأن الإنسان بطبعه مخلوق اجتماعي، فإذا ألغى الحوار مع معارضيه يكون قد ألغى إنسانيته.
الحوار حتى يؤتي أكله لا بد من أن تتحقق له بيئة سليمة، وشروط منطقية، وإلا فقد هدفه، ومن شروطه: أن يحتكم المتحاوران إلى ميزان واحد، إلى منطق العقل والفطرة السليمة، منطق المصلحة العامة لا الخاصة، أما أن يحتكم أحد أطراف الحوار إلى القوة التي يمتلكها فهذا لا يسمى حواراً إطلاقاً؛ إنما هو إملاء من طرف قوي على طرف ضعيف.
ليس هناك طرف مقدس في الحوار، ليس هناك شيء مقدس، كل شيء قابل للتطوير، والتعديل، والإلغاء، إلا الوحيين: الكتاب؛ إذ إنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة الصحيحة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد عصمه الله -جلّ جلاله- من أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره.
لذلك؛ الله -عز وجل- أمرنا أن نأخذ عن النبي ما آتانا وأن ننتهي عما عنه نهانا، فقال -تعالى-: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7].
أي موضوع في الحوار قابل للبحث، والدرس، والمناقشة، والقبول، والرفض؛ إلا الكتاب والسنة، ولا شيء مقدس في قوانين الأرض ولا دساتيرها.
مثلاً: من قال إنّ دولة من الدول العظمى الخمس إذا قالت: لا يلغى القرار. الحق؛ من أعطاها إياه؟ هم أعطوه لأنفسهم، فلذلك مبدأ الفيتو مبدأ باطل، فيه عنصرية، قانون أو قرار يحل مشكلة في الإنسانية، دولة من هذه الدول تقول: لا، انتهى القرار.
مثلاً: أكثر من ظلامة وقعت على وجه الأرض والعالم كله مع المعتدي، دولة عظمى لها مصلحة مع جهة معينة تستخدم الفيتو فيُلغى القرار.
أيها الإخوة: بيئة الحوار هي العنصر المهم فيه، لذلك وجب قبل البدء أن نهيئ الأجواء الملائمة لنجاحه، ونحن بأمس الحاجة إلى الحوار، وإلى تهيئة الظروف المناسبة له، والظروف معلومة عندكم جميعاً، وتذكر في الأخبار كثيراً، إذا هيئت هذه الظروف فعندئذ نرجو الله -تعالى- أن يكون حل هذه الأزمة عن طريق الحوار.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخيّاً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم هيئ لهذه الأمة أمراً رشداً، تعز فيه أولياءك وتذل فيه أعداءك وتنصر فيه دينك يا رب العالمين.
اللهم من أراد بالإسلام ودياره وأهله خيراً فوفقه لكل خير، ومن أراد بهم غير ذلك فتوله بما شئت وكيف شئت.
اللهم ارحم شهداءنا، وداوِ جرحانا، وأفرغ على ذويهم الصبر والسلوان، احقن دماء المسلمين ودماء الأبرياء في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان على أعدائك أعداء الدين، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي