ما أحوجنا أن نقف مع هذه الوصية ونحن نحزم أمتعتنا ونعزم على السفر ؛حتى يكون سفرُنا مبرورا، فإن كثيرًا من المسافرين يتزود لسفره بالتزود المعتاد المتعارف عليه؛ من تهيئة وسيلة النقل وترتيب الأمتعة وأخذ الأموال، وربما غفلوا عن الزاد الحقيقي كما نبّه الله تعالى المسافرين إلى الحج لهذه القضية المهمة فقال سبحانه: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]، فالزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه هو زاد التقوى...
يقول الله جل وعلا في كتابه الكريم واصفًا رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128]، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يألو جهدًا في نصح أمته والسعي في مصالحهم، بل إنه -بأبي هو وأمي- يشقّ عليه الأمر الذي يشقّ على أمته ويوقعهم في الحرج والضيق، كيف لا وقد حُفظ عنه عليه -الصلاة والسلام- في أحاديث متنوعة قوله: "لولا أن أشق على أمتي..."، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- يحبّ لأمته الخير ويسعى جهده في إيصاله إليهم, ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان, ويكره لهم الشر ويسعى في تنفيرهم عنه، كما أنه شديد الرأفة والرحمة بهم، فهو أرحم بنا من والدينا ومن كل رحيم في هذه الدنيا.
عباد الله: ومن مظاهر رأفته -صلى الله عليه وسلم- ورحمته بأمته وحرصه على دلالتهم على الخير أنه كان يتعاهدهم بالوصية، فكان يوصيهم ابتداء ويوصيهم إذا طلبوا منه الوصية؛ لأن التواصيَ بالحق من صفات المؤمنين الناجين من الخسارة في الدنيا والآخرة، (إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 2، 3].
ومن جملة وصاياه -صلى الله عليه وسلم- وصيته لمن أراد السفر، نذكر ذلك ونحن على أبواب إجازة تكثر فيها الأسفار وتتعدد وجهات المسافرين، فما أحوجنا إلى التمسك بوصية نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في أسفار.
وبين أيدينا وصية عظيمة وصّى بها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما أراد أن يسافر إلى اليمن، وكان معاذ -رضي الله عنه- من النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة عظيمة، فإنه قال له: "يا معاذ، والله إني لأحبك"، وكان يردفه وراءه، وقال فيه: "إنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وإنه يحشر قبل العلماء برتوة" أي: بخطوة. رواه الحاكم. ومن فضله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعله مفتيا وداعيا وحاكما في أهل اليمن، وكان يشبهه بإبراهيم الخليل، وإبراهيم -عليه السلام- إمام الناس. فعُلم من ذلك أن هذه الوصية وصيةٌ جامعة مانعة قد حوت الخير كله، فما هذه الوصية؟
روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل لما بعثه على اليمن: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذه الوصية جامعة لحقوق الله وحقوق عباده".
نعم -يا عباد الله- ما أحوجنا أن نقف مع هذه الوصية ونحن نحزم أمتعتنا ونعزم على السفر ؛حتى يكون سفرُنا مبرورا، فإن كثيرًا من المسافرين يتزود لسفره بالتزود المعتاد المتعارف عليه؛ من تهيئة وسيلة النقل وترتيب الأمتعة وأخذ الأموال، وربما غفلوا عن الزاد الحقيقي كما نبّه الله تعالى المسافرين إلى الحج لهذه القضية المهمة فقال سبحانه: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197]، فالزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه هو زاد التقوى, الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجلّ نعيم.
وهذا ما عناه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الوصية فقال: "اتق الله حيثما كنت". التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه، والتقوى من أعظم حقوق الله على العبد. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميرًا على سريّة أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله. رواه مسلم. وكان من دعائه في السفر: "اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى" رواه مسلم.
ولما كان حال معاذ -رضي الله عنه- حالَ انتقال من مكان إلى مكان أرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى لزوم التقوى على كل حاله فقال: "اتق الله حيثما كنت"، فليست التقوى في بلد دون بلد أو حال دون حال، فكم من الناس من لا تتعدى تقواه حدود بلده، فإذا تجاوز حدود بلده تجاوز معها حدود التقوى، وكم من امرأة تتقي ربها ما دامت بين أهلها ومجتمعها، فإذا حلّقت في الفضاء نزعت حجابها وهتكت سترها نازعة قبل ذلك تقوى الله من قلبها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال -صلى الله عليه وسلم-: "تجدون شر الناس ذا الوجهين, الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" متفق عليه. فما أجرأ الخلقَ على ربهم إذا تركوا التقوى، أيظنون أن الله لا يراهم؟!
كتب ابن السمّاك الواعظ إلى أخٍ له فقال: "أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبُك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كلّ حالك في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربِه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرُك، وليكثر منه وجلك، والسلام".
إن العجيب -يا عباد الله- أن بعض المسافرين ليس لهم قصد من السفر إلا تغيير جوّ الحر اللافح إلى الجوّ البارد العليل، ونسوا أنهم بتركهم لتقوى الله قد عرّضوا أنفسهم لحر شديد لا يطيقونه، (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة: 81].
فالبدار البدار -يا عباد الله- إلى تحقيق التقوى والتمسك بها، فتقوى الله عوض من كلّ خلف، ليس من تقوى الله خلف.
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم...
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون: لما كان العبد مأمورًا بالتقوى في السرّ والعلانية, مع ما عنده من ضعف في الإرادة وتفريط في التقوى, إمّا بترك بعض المأمورات أو بارتكاب بعض المحظورات, جاءت الوصية الثانية من النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه- بقوله: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، فإذا وقع المسافر أو غيره في مخالفة لأمر الله؛ فعليه بالعودةِ والرجوع مباشرة إلى الله تعالى، فكل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون؛ لذلك قال الرحمن الرحيم في كتابه العزيز: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114].
وقد ذكر العلماء أن الذنوب يزول موجبها بأشياء، منها التوبة والاستغفار، ومنها الأعمال الصالحة من الحسنات الماحية أو الكفارات المقدرة. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "اعلم أن العناية بهذا -أي: إتباع الحسنات للسيئات- من أشدّ ما بالإنسان الحاجة إليه، فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلّص النفوس بإتباع السيئات الحسنات، والحسنات ما ندب الله إليه على لسان خاتم النبيّين -صلى الله عليه وسلم- من الأعمال والأخلاق والصفات" اهـ.
عباد الله: ثم لما بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هاتين العبارتين حق الله تعالى وضّح حق الناس فقال: "وخالق الناس بخلق حسن"، فالمسافر لا بد أن يختلط مع أناس، ربما لا يعرف أطباعهم وعاداتهم، فعليه أن يعاملهم بالحسنى، وأن يسعهم منه بسط الوجه وكف الأذى.
وليعلم المسافر أنه كالسّفير لبلده في سفره، فالناس يرون في أخلاقه أخلاق البلد الذي جاء منه؛ لذلك كانت التبعة كبيرةً على من سافر من بلاد الحرمين الشريفين ومهبط الوحي؛ أن يُمثّل صورة ناصعة عن بلده بامتثال الأخلاق الإسلامية والدعوة إلى الله تعالى, على قدر الطاقة بالعلم والموعظة الحسنة, وتوضيح صورة الإسلام بالفعل قبل القول، والله وحده المسؤول أن يحفظ المسلمين في حِلّهم وترحالهم وظعنهم وإقامتهم.
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي