تحية شهر رمضان

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. الهدي النبوي الكريم في التبشير برمضان .
  2. من فضائل رمضان .
  3. منزلة الصيام وفضله .
  4. استغلال رمضان بالإنابة والعبادة .
  5. روحانية رمضان .
  6. أحكام التهنئة بدخول شهر رمضان .

اقتباس

شهرُ رمضان! شهرٌ كان يبشّر بمقدمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم-، فيقول. فيا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام اللقاء الصالحة، فحيَّهلَّا بك! حبيبًا جئت على ولَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقي آخرون، واهتدى قوم وضلَّ آخرون!...

أما بعد أيها الإخوة: هذه الجمعة آخر جمعة من شهر شعبان، وبعدها سنستقبل إن شاء الله شهرًا عظيمًا، وضيفًا كريمًا، ضيفٌ تزدان به الدنيا وتشرقُ أنوارها، وتهبُ رياح الإيمان وتنسابُ بين أرجائها.

رمضـانُ أقبلَ يا أوليِ الألبابِ *** فاستقبِلـوهُ بعد طولِ غيابِ

عامٌ مضى من عمرِنا في غفلةٍ *** فتنبَّهُوا فالعمرُ ظِلُّ سـحابِ

وتهيَّؤوا لتَصَـبُّرٍ ومَشَــقَةٍ *** فأُجُورُ مَن صبروا بغيرِ حسابِ

اللهُ يجزي الصــائمين لِأَنَّهُمْ *** مِن أجلِه سخروا بكلِّ صعابِ

لا يـدخلُ الريَّانَ إلا صـائمٌ *** أكرِمْ ببابِ الصومِ في الأبوابِ!

شهرُ رمضان! شهرٌ كان يبشّر بمقدمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه -رضي الله عنهم-، فيقول لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ" رواه أحمد والنسائي بسند صحيح.

 
أحبتي: كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه كلُ شيطان؟! من أين يشبه هذا الزمانَ زمانٌ؟!.

 
أجل؛ جاء شهر الصيام بالبركات، فأكرِمْ به من زائرٍ هو آت!كان السلف يدعون الله -تعالى- أن يبلغهم رمضان، وكان من دعائهم: "اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلا".

 
أيها الأحبة: ادعوا الله أن يبلغكم شهرَ رمضان، وأن يمنَّ عليكم بصيامه؛ فتلك والله نعمة عظيمة على من وفقه الله وأقدره عليها.

يدل على ذلك، ما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ, -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلاَنِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ، فَأَسْلَمَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأخّرَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً.

قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ -رضي الله عنه-: فَرَأَيْتُ كَأَنِّي أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَصْبَحَت فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَلَيْسَ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى بَعْدَهُ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ صَلاَةَ السّنة؟" رَوَاهُ أَحْمَدُ وقالَ الألباني حَسَنٌ صحيح.

بل إن طول العمر إذا وفق العبد فيه لطاعة الله -تعالى- أياً كانت الطاعة دليل على خير، فقد سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ".

وفي حديث الثلاثة الذين أسلموا واستشهد اثنان منهم وبقي بعدهم الثالث دليل على ذلك؛ فقد رُئي الثالثُ بمنزلةٍ أعلى منهما، فاستنكر ذلك من رآه، فقال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ؟ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ" رواه أحمد وقال أحمد شاكر: حسنٌ لغيره.

وقد دلّ هذا الحديث العظيم على عِظم فضلِ من طال عمرُه وحسُن عملُه، ولم يزل لسانُه رَطْباً بذكر الله -عز وجل-.

أحبتي: من رُحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خَيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.

 
 أتى رمضانُ مزرعةُ العِبادِ *** لتطهير القلوبِ من الفسادِ

فأدِّ حُقوقه قولاً وفِعْلَاً *** وزادَكَ فاتَّخِذْهُ لِلْمَعَادِ

فَمَنْ زَرَعَ الحُبوبَ وما سقاها *** تأوَّهَ نادماً يوم الحصاد

أيها الإخوة: لماذا لا نسعد وتتطلع نفوسنا ونبتهج لقرب حلول الشهر الكريم الذي قَالَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي"، "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ" صحيح مسلم.

 
ومعنى : "إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي" أي: إن الصوم يختصه الله -سبحانه وتعالى- له من بين سائر الأعمال، لأنه أعظم العبادات إطلاقا؛ فهو سر بين الإنسان وربه ولا يعلمه أحد؛ لأن نيته باطنة، وليست مما يظهر فتكتبها الحفظة كما قال بعض العلماء.

ثم إن الذي يعمل عملاً ظاهراً قد يناله بسببه ثناء من الناس؛ لأنه فعل ظاهر، بخلاف الصوم؛ فإنه تركٌ خفِيٌّ لكن الله يعلمه، لذلك كان أعظم الأعمال إخلاصا، فاختصه الله -تعالى- لنفسه من بين سائر الأعمال، ويجازي به على ما شاء من التضعيف.

واعلموا -وفقني الله وإياكم- أن كل عمل له أجر محدود إلا الصوم فأجره بدون حساب، قال ابن رجب -رحمه الله-: "الصيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلا الله -عز وجل-، وكلما قوي الإخلاص فيه وإخفاؤه وتنزيهه من المحرمات والمكروهات كثرت مضاعفته".

ولما سئل سفيان بن عينية عن قول الله -تعالى- في الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ" قال: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله -عز وجل- عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحملُ اللهُ ما بقي عليه من المظالمِ، ويدخلُه بالصومِ الجنةَ.

 
أما قوله: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" قال القرطبي: "تنبيه على الجهة التي بها يستحق الصوم أن يكون كذلك، وهو الإخلاص الخاص به" اهـ.

 
ثم إن ترك الإنسان لشهوته عبادة مقصودة يثاب عليها، وهو مُرَبٍّ للضمائر، وثمرته التقوى، كما قال -سبحانه-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].

فيا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام اللقاء الصالحة، فحيَّهلَّا بك! حبيبًا جئت على ولَهٍ منا وطولِ انتظار، جئت بعد غياب عامٍ مات فيه أقوامٌ ووُلِدَ آخرون، واغتنى قومٌ وافتقر آخرون، وسَعِدَ قومٌ وشقي آخرون، واهتدى قوم وضلَّ آخرون!.

ويا من كَثُرَ تفريطه: قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، اتّجر بِجدٍّ واجتهاد، وهنيئاً لك ربحك! فمَن لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ من لم يتقَرَّب فيه من مولاه؛ قل لي: متى يفلح؟ وطُوبَى لِمَنْ تَرَك شَهْوَةَ حَاضِرِهِ لِمَوْعِدٍ غُيِّبَ لَمْ يَرَهُ!.

إذا رمضان أتى مقبلا *** فاقبل فبالخير يُستقبَلُ

لعلك تخطِئُهُ قابلِاً *** وتأتي بعذرٍ فلا يُقْبَل!

كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر! كم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومؤمل غدا لا يدركه! إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره!.

خطب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- آخر خطبة خطبها فقال فيها: إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السموات والأرض.

ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثُها بعدَكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله، قد قضى نحبه وانقضى أجله، فتودعونه وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنيا عما خلف، فقيرا إلى ما أسلف.

فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي؛ ولكن أستغفر الله وأتوب إليه.

ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق! ثم نزل؛ فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمه الله!.

 وأنا استغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم.

 

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: حين يمنّ الله -تعالى- على المسلم فيعيش أيام هذا الشهر الكريم ولياليه؛ فإنه يجد شعوراً عجيباً يخالج قلبه، ويفيض على مشاعره بروحانية خاصة لا يجدها إلا في هذا الشهر الكريم، ويجد المسلم بردَها وجمالَها ولطائفَها في جوانب حياته كلِها، وهذه الروحانية تصحبه طوالَ هذا الشهر، وتلازم أيامَه كلَّها.

ولَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ: قال -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ" رواه أحمد والنسائي بسند صحيح.

قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان.

 
أيها الأحبة: دأب الناس على تبادل التهاني فيه بغبطة وسرور، ويزجي بعضهم بعضاً الدعوات المباركات يرجون قبولها وانتفاعَهم بها.

ولذلك؛ لما سئل الشيخ السعدي -رحمه الله- عن التهاني بشهر رمضان وغيره، أجاب بجواب طويل مؤصل ومفصل، مفاده: جواز الابتداء بالتهنئة، وبوجوب الإجابة على من بُدِئ بها بالجواب المناسب؛ لأنها من العدل، ولأن ترك الإجابة يوغر الصدور، ويشوش الخواطر.

وحينما أرسل له تلميذه الشيخ عبد الله بن عقيل -رحمهما الله- خطاباً في أوائل شهر رمضان، وضمنه التهنئة بالشهر الكريم، رد عليه الشيخ عبد الرحمن -رحمه الله- الجواب فقال: في أسر الساعات وصلني كتابك فتَلَوْتُهُ مسروراً بما فيه من التهنئة بهذا الشهر، نرجو الله أن يجعل لنا ولكم من خيره أوفر الحظ والنصيب، وأن يعيده عليكم أعواماً عديدة مصحوبة بكل خير من الله وصلاح. اهـ. وهذا تأكيدٌ لفتواه.

 
اللَّهُمَّ أَهِلَّ عَلَيْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، واجعله هلال خير وبركة.

.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي