في قصة موسى عليه السلام وصيام يوم عاشوراء

صالح بن فوزان الفوزان

عناصر الخطبة

  1. قصة موسى عليه السلام
  2. استحباب صيام يوم عاشوراء

 الحمد لله رب العالمين. والعاقبة للمتقين. ولا عدوان إلا على الظالمين. والحمد لله الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. وأشهد أن لا إله إلا الله من اعتصم به حماه ووقاه. ومن أعرض عنه وعصاه أهلكه وأرداه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده؛ فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها الناس: اتقوا الله واعلموا أن في قصص الأنبياء والمرسلين عبرة لأولي الألباب. ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف:111]

وإن من أعظم قصص المرسلين ما قصه تعالى عن كليمه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام فقد ذكر سبحانه قصته في مواضع متعددة مبسوطة تارة ومختصرة تارة؛ وذلك أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم، وهم شعب بني إسرائيل الذي هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض، وقد تسلط عليهم هذا الظالم الغاشم الكافر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع. ولما بلغه أنه سيخرج من ذرية إبراهيم من بني إسرائيل غلام يكون هلاكه على يده؛ أمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل؛ حذراً من وجود هذا الغلام. ولن يغني حذر من قدر. فاحترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى حتى جعل رجالاً وقوابل يدورون على النساء الحوامل ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه من ساعته.

ولما ولد موسى عليه السلام ضاقت به أمه ذرعاً وخافت عليه، فألهمها الله أن اتخذت له تابوتاً -أي صندوقاً-، وكانت دارها مجاورة لنهر النيل. فوضعت موسى في ذلك التابوت وألقته في النهر، فحمله الماء حتى مر على دار فرعون ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ ولما فتحوا التابوت ووجدوا فيه ذلك الغلام ووقع نظر امرأة فرعون عليه أحبته حباً شديداً. فلما جاء فرعون طلبت منه أن لا يقتله ودافعت عنه وقالت: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ وقد أنالها الله ما رجت منه من النفع، فهداها الله بسببه وأسكنها جنته.

ولما استقر هذا الغلام في دار فرعون أرادوا أن يغذوه بالرضاع فلم يقبل ثدياً فحاروا في أمره. واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يقبل كما قال تعالى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ [القصص:12] فأرسلوه مع القوابل لعلهم يجدون من المراضع من يقبل ثديها، فرأته أخته ولم تظهر أنها تعرفه، بل قالت: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ ففرحوا بذلك وذهبوا معها إلى منزلهم فأخذته أمه فالتقم ثديها وأخذ يمصه ويرضعه وكان ذلك بتقدير الله وعنايته. قال تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾.

فلما كبر موسى عليه السلام كانت له بديار مصر صولة بسبب نسبته إلى تبني فرعون له وتربيته في بيته، وكان يركب مراكبه ويلبس مثل ما يلبس. وفي يوم من الأيام دخل المدينة في وقت غفلة من أهلها، ووجد رجلين يتضاربان؛ أحدهما من شيعة موسى -أي من بني إسرائيل-، والآخر من عدوه -أي من جماعة فرعون-، فضرب موسى الذي من عدوه فنتج عن ذلك وفاته. وندم موسى على ذلك فدعا الله وسأله المغفرة فغفر له. ثم فر هارباً لما سمع أن جماعة القتيل طلبوه يريدون قتله، فتوجه إلى أرض مدين ووصل إليها وتزوج هناك، ومكث عشر سنين أو ثمان سنين يرعى الغنم، ثم رجع بزوجته يريد أرض مصر، وفي طريقه أكرمه الله برسالته وأوحى إليه بوحيه وخاطبه بكلامه العظيم، وأرسله إلى فرعون بالآيات والسلطان المبين. أرسله إلى فرعون الذي تكبر على الملأ وقال: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾. فدعاه إلى الله فأنكر فرعون وقال: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فأجبه موسى بأنه هو ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ففي خلق السماوات والأرض وما بينهما من الآيات ما يوجب الإيقان بأنه هو الرب المستحق للعبادة وحده، فقال فرعون لمن حوله -مستهزئاً ساخراً بموسى-: ﴿أَلا تَسْتَمِعُونَ﴾ فذكّره موسى بأصله، وأنه مخلوق من عدم ومتسلسل من آباء سبقوه وهلكوا، وأن الله هو رب الجميع ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ حينئذ بهت فرعون وانقطعت حجته فلجأ إلى دعوى أن موسى مجنون لا يؤخذ كلامه، فرد عليه موسى بأن الجنون هو إنكار الرب العظيم ﴿قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء:28] فلما عجز فرعون عن رد الحق لجأ إلى الإرهاب، فتوعد موسى بالسجن ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء:29] وهكذا لم يملك حجة يرد بها الحق إلا التهديد. فما زال موسى يأتي بالآيات كل آية أكبر من أختها فيحاول فرعون إخفاءها وردها. ويفتخر بقوته وسلطانه فيقول: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف:51] ويحقر موسى فيقول: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ(54)﴾ [الزخرف 53: 54] .

ولما تمادوا في كفرهم وطغيانهم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً. فخرج بهم فساروا مستمرين قاصدين بلاد الشام فلما علم فرعون بذهابهم غضب عليه غضباً شديداً وجمع جيشه وجنوده ليلحقهم ويمحقهم (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشعراء53: 56]  فأخرجه الله (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)؛ ليجعلها لموسى وقومه من بعهدهم، فركب في جنوده طالباً موسى وقومه فأدركهم عند شروق الشمس قريباً من البحر. وتراءى الجمعان ولم يبق إلا المقاتلة فعند ذلك ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ وذلك لأنهم انتهوا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه وهذا ما لا يستطيعه أحد. والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وسد عليهم طريق الرجعة في جيوشه وجنوده، وقد عرفوا منه البطش والفتك، فشكوا إلى نبي الله موسى ما هم فيه وقالوا: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ فقال لهم الرسول -الصادق المصدوق-: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾.

فأوحى الله إليه: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ فتقدم صلوات الله وسلامه عليه إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه، فلما ضربه ضربه انفلق وانفتح اثني عشر طريقاً يابسة لا وحل فيها، وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال. فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، ودخل فرعون وجنوده في أثرهم. فلما جاوزه موسى وقومه وخرج آخرهم منه. وتكامل فرعون وقومه في داخل البحر أطبقه الله عليهم وعاد إلى حالته الأولى، فأغرقهم أجمعين.

فانظروا -رحمكم الله- إلى ما في هذه القصة العظيمة من العبر. وقد وقع هذا الحدث العظيم والنصر المبين الذي ظهر فيه الحق على الباطل في يوم عاشوراء أي اليوم العاشر من شهر محرم؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" فقالوا: هذا يوم ظهر في موسى على فرعون. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أنتم أحق بموسى منهم فصوموا".

فيستحب -يا عباد الله- صيام هذا اليوم؛ شكراً لله، فقد صامه كليم الله موسى؛ شكراً لله، وصامه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".

وينبغي للمسلم أن يصوم اليوم الذي قبله لتحصيل مخالفة اليهود بذلك، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع". فصوموا اليوم التاسع العاشر، أو العاشر والحادي عشر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)  [النازعات 15: 26]

 


تم تحميل المحتوى من موقع