أثر الذنوب على الأمة

محمد حسان
عناصر الخطبة
  1. ركّاب سفينة واحدة .
  2. خطر الذنوب والمعاصي .
  3. ما المخرج .
  4. متى سنتوب؟ .

اقتباس

للذنوب آثار عظيمة على الأمم، فما نزل بلاء ولا كرب ولا شدة إلا بذنب، والذنوب هي سبب هلاك الأمم السالفة، وهي سبب حلول النقم وزوال النعم، وهي سبب في تسلط أعداء الإسلام على الأمة، والواجب علينا هو المبادرة بالتوبة حتى يرفع الله -عز وجل- ما بنا، والله -عز وجل- يفرح بتوبة عبده، إذ هو ...

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.

وصل اللهم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

فحياكم الله جميعاً -أيها الإخوة والأخوات-، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم -جل وعلا- الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه.

أحبتي في الله: أثر الذنوب على الأمة، هذا هو موضوع محاضرتنا هذه، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية:

أولاً: ركّاب سفينة واحدة. ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي. ثالثاً: ما المخرج؟ وأخيراً: متى سنتوب؟

فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يغفر لنا الذنوب، وأن يستر علينا العيوب، وأن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال.

أولاً: ركّاب سفينة واحدة: إن الطالحين والصالحين ركاب سفينة واحدة، فإن هلك الطالحون لطلاحهم فسيهلك معهم الصالحون، وإن غرق المفسدون فسيغرق معهم الصالحون، والله -تبارك وتعالى- يقول: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25].

فلا يتوهمن متوهم -ولو كان صالحاً- أنه سينجو إن نزلت العقوبة الجماعية، نسأل الله أن يرفع عن الأمة البلاء.

ففي صحيح البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا جميعاً".

فكثير من المسلمين الآن يتصور أنه ما دام قد حقق الصلاح وامتثل الأمر واجتنب النهي فقد نجا، وينظر إلى المنكرات وإلى الذنوب والمعاصي التي خيمت سحبها القاتمة المظلمة الكثيفة على سماء الأمة ثم يهز كتفيه ويمضي، وكأن الأمر لا يعنيه ما دام يأكل ملء فمه، وينام ملء عينه، وظن المسكين أنه قد نجا، بل وربما يستدل على نجاته بقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[المائدة: 105].

وقديماً خشي صديق الأمة -رضي الله عنه- هذه السلبية القاتلة، وهذا الفهم المغلوط المقلوب للآية، فارتقى المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده".

وفي لفظ: "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم"[رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صحيح].

وفي الصحيحين أيضاً من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها -: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها يوماً فزعاً، وفي لفظ في الصحيح: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- من نومه عندها يوماً فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق النبي -صلى الله عليه وسلم- بإصبعيه السبابة والإبهام، فقالت أم المؤمنين زينب -رضي الله عنها-: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم؛ إذا كثر الخبث".

والله الذي لا إله إلا هو لقد كثر الخبث، فلا ينبغي أبداً أيها الأفاضل أن تخيم على سمائنا سلبية قاتلة.

لقد صار كثير من الناس لا يعنيه أمر هذا الدين ما دام آمناً في سربه معافى في بدنه، رزقه الله قوت عمره لا قوت يومه، بل صرنا الآن إلا من رحم ربي ننظر إلى أكفان إخواننا التي تحمل على الأكتاف كل ساعة في أرض فلسطين وكأن الأمر لا يعنينا، حتى المشاعر قتلت في القلوب، وحتى الهم صرنا نبخل به، بل ربما لا يتذكر كثير من الناس الآن الواجب الذي عليه لله - جل وعلا - إلا إذا ذُكر في محاضرة، أو إلا إذا سمع شريطاً عابراً، فقد يسأل حينئذٍ هذا العالم أو هذا الداعية: ما الذي يجب علي أن أفعله؟ إنه أمر عجب! وكأن المسلم الصادق ما زال ينتظر أن يحدد له عالم ما يجب عليه أن يفعله، صحيح أن هذه ظاهرة صحية لا أقلل من شأنها، بل أحيي كل من يسأل، لكن الذي يدمي القلب -وهذا هو الذي يؤلمني، وهذا هو الشاهد- أن ينتظر المسلم حتى يرزقه الله - عز وجل - عالماً ليسأله بعد ذلك عما يجب عليه أن يبذله ويقدمه لدين الله، بل من المسلمين الآن من يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضاع الدين! لا حول ولا قوة إلا بالله! دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! بل ومنهم من يقول: دع ما لله لقيصر! وامش إلى جوار الحائط، ورب أولادك، فالفتن كثيرة، والحوائط لها آذان، انتبه لنفسك، لا تنشغل بأمر الدين، ابتعد عن المساجد، ابتعد عن المتطرفين من الملتزمين أصحاب اللحى! لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد إلى آخر هذه الكلمات التي تشل حركة وفكر من يريد أن يخطو على طريق الدين خطوات منضبطة بضوابط الشرع، فالمهزوم نفساً مشلول الفكر والحركة، وربما يُنظِّر لها بالآية الجليلة التي ذكرت، مع أن الفهم للآية مغلوط ومقلوب.

فنحن جميعاً -أيها الأحبة- نركب سفينة واحدة، وعلينا جميعاً أن نعي هذه الحقيقة، ولا أريد أن أطيل مع كل محور من محاور هذا اللقاء المهم.

خطر الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع

ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي: الذنوب إن انتشرت واستشرت ربما يعم العذاب والعقاب، ويهلك الصالحون مع الطالحين، ثم يبعث بعد ذلك كل واحد على نيته، كما في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها-، لكن سيهلك الجميع.

فما الذي أخرج آدم من الجنة؟ وما الذي أهلك قوم نوح؟ وما الذي أهلك قوم إبراهيم؟ وما الذي أهلك قوم عاد؟ وما الذي أهلك ثمود؟ وما الذي أهلك قوم لوط؟ وما الذي أهلك فرعون وجنده؟ وما الذي أهلك الظالمين في كل زمان ومكان؟ الجواب في كلمة واحدة: إنها المعصية، إنها الذنوب على تفاوتها، ابتداءً بالشرك وانتهاءً بأقل ذنب أو معصية ترتكب في حق الله -جل وعلا-، قال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30].

وقال سبحانه: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)[فاطر: 45].

والآيات في هذا الباب كثيرة، فلا ينزل أي بلاء إلا بذنب، ولا يرفع أي بلاء إلا بتوبة.

وتدبروا هذا الحديث الذي رواه البيهقي في السنن، والحاكم في المستدرك بسند صحيح، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم".

وأنا أقسم بالله أن الفاحشة قد أعلنت، بل إن من المسلمين الآن من يقضي الليل كله لمشاهدة الفاحشة، لقد دخلت صور الفاحشة غرف النوم، وقام كثير من المسلمين الليل بطوله لا بين يدي الله -جل وعلا-، بل لمشاهدة الأفلام الفاضحة الداعرة.

ثم والله! لقد كنت مع الشيخ محمد صفوت نور الدين -أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة- في أمريكا، وكنا نمشي سوياً بعد صلاة العصر قبيل المغرب إلى مركز إسلامي، فوالله الذي لا إله غيره! لقد رأينا بأعيننا شاباً يزني بفتاة على الطريق، فقلت: سبحان الله! صدق المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى. وحين كنت في ألمانيا في زيارتي الأخيرة دخلت فتاة ألمانية لتعلن إسلامها، وأنا في كل مرة أحب أن أتعرف على سبب إسلام كل من دخل علينا في إحدى هذه المراكز ليعلن إسلامه، فقلت: يا أختاه! أود أن أتعرف على سبب دخولك في الإسلام، فقصت هذه الفتاة الألمانية التي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها قصة عجيبة، قالت: كنت في سفر في هولندا، فرأيت حلقة كبيرة من الناس، وسمعت صراخاً وتصفيقاً إلى غير ذلك، تقول: اقتربت فنظرت وسط هذه الحلقة، فوجدت -والعياذ بالله- رجلاً يزني بامرأة، والناس تصفق له! إنه مشهد بهيمي قذر، وهؤلاء ما زالوا إلى يومنا هذا يعزفون على وتر التقديس والتمجيد للحرية والديمقراطية المشئومة المزعومة، ويدَّعون أنهم أصحاب حضارة، وهي حضارة عفنة نتنة تعفنت روحها، ويفعل فيها الإنسان بالإنسان ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات. تقول: فاتصلت على صديقة لي ألمانية مسلمة وقلت لها: هل يمكن أن يزنى رجل بامرأة في الإسلام وتقبل أن يراها الناس؟ قالت: أعوذ بالله! بل يحرم على الرجل أن يجامع امرأته أمام أولاده.

إنه جواب يسير جميل من امرأة ألمانية لا تحسن أن تتكلم بالدليل، ولكن كلامها منضبط، فهذه الفتاة الأولى تقول: فدخل حب الإسلام قلبي، وعلمت أنه دين العفة.

هذه قيمة ربما لا تخطر لنا على بال، نعم؛ إنه دين العفاف، إنه دين الطهارة، إنه دين النقاء، إنه دين حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].

قال صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم".

فقد ظهر الإيدز، وهو مرض نقص المناعة، ظهر بصورة بشعة مروعة، وظهر السيلان، وظهرت الكلاميديا، وكلها أمراض تتعلق بهذا التجاوز الواضح لحدود الله - جل وعلا -، بل ينفق الشرق والغرب الآن مليارات ضخمة لمحاصرة هذا المرض، لكنهم إلى الآن ما استطاعوا، مع أن النبي الصادق قد حدد المخرج من هذه الأمراض الفتاكة منذ أربعة عشر قرناً، حين دل الأمة على الطهارة، وحرم عليها الزنا، قال صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان".

لقد وقع تطفيف المكيال والميزان من كثير من الناس، فوقعوا في الضنك والضيق وجور السلاطين: "ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً فأخذ بعض ما في أيديهم".

صلى الله على من لا ينطق عن الهوى، لقد ضاعت الأندلس، والقدس الآن في أيدي اليهود، وكذلك العراق، والشيشان، واحتلت الأرض، وأخذ الأعداء بعض ما في أيدينا، بل تحولت الأمة إلى قصعة مستباحة لأقذر وأنجس وأسفل أمم الأرض، وصدق فيها قول الصادق كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها".

فهل تذكر القصعة؟ وهل تذكر طبق الطعام الذي تقدمه كل صباح لمجموعة من الطيور أو الدواجن في بيتك؟ وهل تتصور وتتذكر هذا المشهد وأنت تقدم الطبق بعد ليل طويل، وترى الطيور تتقاذف وتتطاير من أجل أن يصيب كل طائر حظه من هذه القصعة؟ إنه تشيبه نبوي بليغ لما عليه الأمة الآن: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها" قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: "كلا، ولكنكم يومئذٍ كثير -مليار وثلث-، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

وفي مسند أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة- ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".

قال صلى الله عليه وسلم: "وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم" آه! لقد استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، والله -جل وعلا- يقول: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[النساء: 65].

قال ابن القيم في كلام نفيس قلما تقف عليه لغيره: تحكيم رسول الله في كل أمر إسلام، وعدم وجود الحرج في الصدر من حكمه مقام إيمان، والرضا بحكمه مقام إحسان.

قال الله - عز وجل -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب: 36].

وقال جل وعلا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)[النور: 51-52].

وقال في شأن المنافقين: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً)[النساء: 60-61].

فشعار المؤمن: حب الله ورسوله، والسمع بلا تردد، والطاعة بلا انحراف والتواء، وشعار المنافق: السمع والإعراض، والسمع والصد عن دين الله -جل وعلا-.

إن قلت قال الله قال رسوله *** همزوك همز المنكر المتغالي

أو قلت قال الصحابة والألى *** تبع لهم في القول والأعمال

أو قلت قال الشافعي وأحمد *** وأبو حنيفة والإمام الغالي

صدوك عن وحي الإله ودينه *** واحتالوا على حرام الله بالإحلال

يا أمة لعبت بدين نبيها **** كتلاعب الصبيان بالأوحال

حاشا رسول الله يحكم بالهوى **** والزور تلك حكومة الضلال

قال جل وعلا: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26].

هذا هو خطر الذنوب، فوالله ما وقعنا في هذا الذل والمهانة إلا بسبب الذنوب.

الذنوب سبب الهزيمة

يا إخوة: لقد هُزم المسلمون في أحد وقائد الميدان رسول الله، فكيف يهزم المسلمون وقائدهم المصطفى وعدوهم المشركون؟! وكيف يهزمون وهم الصحابة؟! أسئلة كثيرة، بل قالوا ذلك، ورد الله - جل وعلا - عليهم بهذه الآية المحكمة: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا)[آل عمران: 165].

يعني: يوم بدر (قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)[آل عمران: 165] أي: كيف نهزم؟ فاسمع إلى الجواب من الله، قال جل وعلا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)[آل عمران: 165].

ونحن دائماً نعلق الأخطاء على مشاجب خارجية، ونقول: الأعداء، العلماء، الحكام، ولا يفكر واحد منا أبداً في أن يفتش عن خطئه الشخصي، بل أنا أنظر إلى القذاة في عينك وأنسى العود في عيني، وأنت تنظر إلى القذاة في عيني وتنسى العود في عينك، وأنا لا أقلل من خطر العداءات الخارجية على الأمة، وإنما أود أن نعلم علم اليقين أن هذه الأعذار والتبريرات التي نبررها لهزائمنا المتلاحقة المتتالية، ولأخطائنا المتتابعة، إنما هي أعذار واهية، وتبريرات لا قدم لها ولا ساق.

قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[الأنفال: 53] والأمة قد غيرت.

وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[الرعد: 11].

والأمة قد غيرت، ففي جانب العقيدة غيرت، وفي جانب العبادة غيرت، وفي جانب التشريع غيرت، وفي جانب الأخلاق غيرت، وفي جانب المعاملات والسلوك غيرت، وفي الجانب التربوي غيرت، وفي الجانب النفسي تغيرت، وفي الجانب الإعلامي غيرت، وفي الجانب الفكري غيرت، وفي كل الجوانب غيرت.

إن الله سنناً ربانية في الكون لا تتغير ولا تتبدل ولا تجامل تلك السنن أحداً من الخلق بحال، فمهما ادعى الإنسان لنفسه من مقومات المحاباة فالنعم تزول بالذنوب والمعاصي.

روى أبو نعيم في الحلية وغيره بسند صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته".

وقد يسألني كثير من الشباب، ويقول: فما ردك إذاً على هؤلاء الكافرين الذين وقعوا في أبشع المعاصي والذنوب والشرك، ومع ذلك نرى أن الله قد مكن لهم، وقد وسع عليهم أرزاقهم؟ والجواب يسير، ولن أخرج الجواب من كيسي ولا من عند نفسي، إنما هو قول ربنا وقول نبينا، ونحن بفضل الله - عز وجل - لا نتكلم كلمة إلا بدليل من كتاب الله أو بحديث من أحاديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتدبر قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه، فاعلم بأنه استدراج له من الله - عز وجل -، وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 44-45][والحديث رواه أحمد في مسنده وغيره بسند صحيح من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -].

إذاً: القضية محسومة بنص القرآن: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) كان الجواب: (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 45-46].

الذنوب والمعاصي سبب هلاك الأمم   

ثم انظر -يا أخي- إلى الأمم السابقة الظالمة الجائرة المذنبة العاصية ماذا صنع الله بها؛ لأننا دائماً ننسى، فماذا صنع الله بعاد الأولى؟ قال - تعالى -: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)[الحاقة: 6-7].

والله - جل وعلا - يسأل حبيبه فيقول: (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)[الحاقة: 8] أي: هل تروا لهؤلاء الظالمين الأولين من باقية؟ قال الله - جل وعلا -: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)[فصلت: 15].

وهذه هي الكلمة الثانية التي ترددها عاد: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)[فصلت: 15] أم لا زال عندك شك فيه؟ والله إن كثيراً من المسلمين

عندهم شك في هذه المسألة إلا من رحم ربك، فبالمقارنة إلى قوة الملك تضعف كل القوى، بل تزول، فلنملأ قلوبنا بالثقة به سبحانه.

والله إن ما يعنيني في كل محاضرة هو أن تملأ القلوب بالثقة بالله.. بإجلال الله، بعظمة الله، بقدرة الله، بهيبة الله، بالتعرف على أسمائه الحسنى وصفاته العلا.

بالتعرف على اسم القوي القهار الجبار القدير العليم الخبير الحكيم، فاملأ قلبك بمعاني هذه الأسماء؛ لتعلم أن كل قوى الأرض ليست شيئاً يذكر أمام قوة رب السماء والأرض، قال عز وجل: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 26].

 كل الأمور بيد الله -عز وجل-

       

اعلم أخي: أنه لا تسود دولة ولا تزول دولة ولا يسود حاكم ولا يزول حاكم إلا بأمر من بيده الملك، فهل تتصور أن قاذفة أو صاروخاً أو قنبلة أو طائرة تسقط على شبر من الأرض بعيداً عن سمع وبصر الملك؟ الجواب: لا، قال عز وجل: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام: 59].

فلا يوجد جبل في الأرض إلا ويعلم الله ما في وعره، وما من بحر ولا نهر على سطح الأرض إلا ويدري الله ما في قعره، ولا تحمل أنثى ولا تضع على وجه الأرض إلا بعلمه.

جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة: أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحق، وقرأ النبي قول الله -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الزمر: 67].

فهذه هي مشكلتنا، وهذه هي المصيبة، أي: أننا كما قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر: 67] جل جلاله.

قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)[فصلت: 15].

انظر إلى الجواب وانظر إلى النتيجة: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[فصلت: 16-18].

اللهم اجعلنا من المؤمنين المتقين؛ لنكون أهلاً لنجاتك يا أرحم الراحمين.

وجوب الثقة بالله -جل وعلا-:

فلا ينبغي أن تهتز ثقتك أيها المسلم في ربك، أو أن يضعف إيمانك بربك - سبحانه وتعالى -، ثم تدبر قول الله - جل وعلا -: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ) [الفجر: 6-13] انظر إلى فاء الترتيب والتعقيب التي تضمد الجراح: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)[الفجر: 13-14].

والله! إننا لفي انتظار خوض العذاب من الملك لهذه الأمم الكافرة الجائرة التي قالت: من أشد منا قوة؟ والتي تنتهك الأعراض، وتدنس المقدسات والأرض.

ثم تدبر -يا أخي- قول ربك: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)[الفيل: 1-5].

ثم في عصرنا: أين الاتحاد السوفيتي؟! يقول المفكر الشهير اشبنجلر: إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هنالك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة، ألا وهي حضارة الإسلام، فهو الدين الوحيد في الأرض الذي يملك أقوى قوة روحانية نقية.

وأجمل من قوله قول ربي: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران: 140].

فالأيام دول، فلا ينبغي أن ينظر الناظر إلى قوة دولة ظالمة غاشمة متكبرة متجبرة على أنها هي النهاية لهذا التاريخ ولهذا الكون، فالله - جل وعلا - أخذ الأمم التي انحرفت عن منهجه - سبحانه - جميعاً، أخذهم الله - عز وجل - بذنوبهم ومعاصيهم وإعراضهم عن الله -تبارك وتعالى-.

المخرج من حال الأمة الراهن بالأمر بالمعروف وتغيير المنكر

ثالثاً: ما المخرج؟

المخرج أنه لا يكفي صلاحك أبداً، بل يجب أن تكون صالحاً مصلحاً، ولا ينبغي أن تنظر إلى المنكرات وتهز كتفيك وتمضي وكأن الأمر لا يعنيك.

أيها الأفاضل: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في هذا الدين، وهو وظيفة الأنبياء والمرسلين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعمت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، فهو شرط من شروط خيرية أمة النبي محمد، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عمران: 110].

فلا ينبغي أن ترى المنكر دون أن تغيره.

ضوابط تغيير المنكر

لكن اعلم يا أخي أن تغيير المنكر له ضوابط، فحماسك وحدك لا يكفي، وإخلاصك وحدك لا يكفي، بل لابد أن يكون حماسك وإخلاصك منضبطين بضوابط الشرع؛ حتى لا تفسد من حيث تريد الإصلاح، وحتى لا تضر من حيث تريد النفع، ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

فالتغيير باليد له ضوابطه، فمر بالمعروف بمعروف، وانه عن المنكر بغير منكر، وقد اتفق علماء الأمة على ذلك.

قال ابن القيم لله دره: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله.

وتدبروا -أيها الشباب- فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر فهو أمر بمنكر، وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها.

قد يرد علي شاب من شبابنا المتحمس المخلص ويقول: هذه المرحلة كانت مرحلة استضعاف.

لكن تدبر -أيها الحبيب اللبيب- يقول ابن القيم: "ولما فتح الله عليه مكة وصارت دار إسلام وعزم على هدم البيت الحرام ورده على قواعد إبراهيم، لم يفعل النبي ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام".

وهذا تفصيل في غاية الأهمية، فالتغيير إذاً له ضوابط.

التغيير بالكلمة الطيبة

ثم إن لم تستطع أن تغير هذا المنكر بيدك فبلسانك، بكلمة حلوة رقيقة عذبة.

جرب - يا أخي- إذا رأيت منكراً أن تأمر بالمعروف بمعروف، وأن تنهى عن المنكر بغير منكر، فوالله الذي لا إله غيره لتجدن ثمرة ما خطرت لك على بال. وفي إحدى الزيارات لألمانيا عرفني الإخوة هناك برجل ألماني من الدعاة، وقالوا: هذا الرجل كان يعمل ملاكماً، وأخذ بطولات في الملاكمة، ودعي هذا الرجل ليكرم في بلاد الحرمين في الرياض، يقول لي: وكان من بين الحضور أخت مسلمة تقدمت إلي بحجابها، وقدمت لي هدية، هذه الهدية عبارة عن ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية، دفعت له الهدية وخرجت، يقول: ومضى عشرون عاماً على هذه الهدية لم أفتحها، ولم أعرفها، قال: وبعد عشرين سنة جلست أرتب وأعيد كتبي في مكتبتي الخاصة، فوقعت يدي على هذا الكتاب، وتعجبت! وتذكرت السنوات الخالية، قال: وجلست على كرسي المكتب بسرعة ملفتة، وفتحت هذا الكتاب، وقدر الله أن أفتح على ترجمة سورة الإخلاص: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الإخلاص: 1] فقرأت السورة، يقول: فارتعد جسدي، وبكت عيني، ثم عدت إلى الكتاب من أوله، فقرأت تفسير سورة الفاتحة، قال: فبكيت وخرجت مباشرة إلى المركز الإسلامي، وقلت لهم: ماذا تصنعون إن أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟ قالوا: اغتسل، فاغتسل، قالوا: انطق الشهادتين، فنطق الشهادتين. هذا الرجل العجيب الذي دخل الإسلام للتو ما مكث إلا أياماً تعرف فيها على نزر يسير، ثم أخذ المطويات والكتب والمنشورات وأخذ منضدة، وخرج إلى ميدان عام من الميادين العامة في ألمانيا ووقف، وكان الشباب والفتيات إذا رأوا هذا الرجل وهو معروف نزلوا ليوقع لهم على الأوتجراف، فيدعوهم إلى الإسلام، ويمنحهم المطويات والمنشورات والكتب الصغيرة، يقسم الإخوة لي بالله أنه أسلم على يديه في عام واحد أكثر من مائتي رجل وامرأة، وكل هؤلاء في ميزان الأخت الفاضلة التي أهدته هذه الترجمة.

فيا أخي: غير أنت، ودع النتائج إلى الله، قل كلمة جميلة، إن لم تستطع أن تقولها بلسانك فقلها بلسان عالم مخلص أو داعية صادق؛ بشريط أو بكتاب أو بكتيب أو بمطوية أو برسالة أو بهدية أو بكلمة جميلة، فما عليك إلا أن تزرع، ودع الثمرة لله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)[إبراهيم: 24-25].

فشجر الناس منه ما يثمر في الشتاء، ومنه ما يثمر في الصيف، ومنه ما يثمر في الربيع أو الخريف، أما الشجرة الطيبة التي ضربها الله في القرآن مثلاً للكلمة الطيبة فهي لا تتأثر بصيف ولا بشتاء، ولا بربيع أو خريف، بل لا تحطمها المعاول، ولا تعصف بها الرياح الهوجاء والأعاصير الشديدة، لأنها متغلغلة في قلب الصخور، وامتدت إلى عنان السماء، إنها الكلمة الطيبة التي تتخطى الحواجز والعقبات والسدود يقيناً، فما عليك إلا أن تخرج هذه الكلمة الطيبة بأدب على منهج رسول الله، ودع النتائج بعد ذلك لله - تعالى -.

قال الشاعر:

بين الجوانح في الأعماق سكناها *** فكيف تنسى ومن في الناس ينساها

الأذن سامعة والروح خاشعة *** والعين دامعة والقلب يهواها

ولم لا؛ وهي كلمة الله - جل وعلا -؟ ولم لا وهي كلمة الصادق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنت لا تقول إلا قال الله قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فغير بلسانك، وقل كلمة جميلة رقيقة رقراقة مهذبة مؤدبة، فنحن لا نتعامل مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صلبة، إنما نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام، وفيها الطاعة والمعصية، وفيها الخير والشر، وفيها للحلال والحرام، وفيها الفجور والتقوى، وفيها الهدى والضلال، فلنكن على بصيرة بمفاتيح هذه الأنفس، والمفاتيح هي: الرحمة، والحكمة، والرقة، والأدب، والتواضع، فإن امتثلت هذا المنهج سبرت أغوار النفس، وتغلغلت إلى أعماقها، وبلَّغت من تريد ما تريد من قول الله ومن قول رسول الله.

شروط تغيير المنكر بالقلب

فإن لم تستطع إنكار المنكر لا بيدك ولا بلسانك فبقلبك، لكن اعلم أن إنكار المنكر في القلب له شرطان:

الخطبة كاملة في المرفق للتحميل ..


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي