معاشر الصائمين: فإننا نتقلب بين منح الله -سبحانه وتعالى- ونعمه التي لاتعد ولا تحصى، وقد أكرمنا جل جلاله ومن علينا سبحانه وتعالى بأن بلغنا هذا الشهر العظيم، وهذا وثمة علاقة وطيدة، ورباط متين بين القرآن وشهر الصيام، تلك العلاقة التي يشعر بها كل مسلم في قرارة نفسه مع أول يوم من أيام هذا...
الحمد لله الكبير المتعال، ذي العزة والجلال، نحمده سبحانه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، صاحب المقام الموعود، والحوض المورود، عليه من الله أفضل صلاةٍ وأزكى تسليم، صلاةً وسلامًا دائمين وآله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الوصية المبذولة لي ولكم -عباد الله- هي تقوى الله -سبحانه-، إذ هي الأنس عند الوحشة، والقوة عند الضعف، والبركة عند المحق، والعلم عند الجهل: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 282].
معاشر الصائمين: فإننا نتقلب بين منح الله -سبحانه وتعالى- ونعمه التي لاتعد ولا تحصى، وقد أكرمنا جل جلاله ومن علينا سبحانه وتعالى بأن بلغنا هذا الشهر العظيم، وهذا الموسم الكريم الذي فيه يقول الله -عز وجل- فيما يرويه عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ"[متفق عليه].
فاللهم كما بلغتنا الفرحة الأولى، فبلغنا الفرحة الثانية يا رب العالمين.
عباد الله: شهر رمضان شهر مبارك، مصداق ذلك في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففي مسند الامام أحمد وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: "أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مِرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ".
"أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ" فرمضان -وفقني الله واياكم لصيامه وقيامه- بركاته كثيرة، ولعلنا في هذه الخطبة -إن شاء الله- نستعرض جملة من هذه البركات:
فأول بركات شهر رمضان: أن اختص الله -جل جلاله- وأعلى منزلته بين الشهور بأن فرض الله صيامه؛ كما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه) [البقرة: 185].
بل إن صيام شهر رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام؛ ففي الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبد الله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت".
بل بشر بمغفرة الذنوب نبينا -صلى الله عليه وسلم- من صام رمضان ايمانا واحتسابا، فقال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- المراد بالإيمان: الاعتقاد بفرضية صومه. وبالاحتساب: طلب الثواب من الله – تعالى -، فالمؤمن يصوم رمضان يرجو ما عند الله من الثواب، وهو يعلم يقينا أن من فرض الصوم هو الله -جل جلاله-.
أيها المسلمون: ومن بركات رمضان: أنه شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين".
"إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار".
أبواب الجنة تفتح تنشيطاً للعاملين، من المؤمنين ليتسنى لهم الدخول، وتغلق أبواب النار، لأجل انكفاف أهل الإيمان عن المعاصي، حتى لا يلجوا هذه الأبواب.
ومن بركات هذا الشهر العظيم: أنه شهر تصفد فيه الشياطين، قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- معلقا على هذا الحديث: "وصفدت الشياطين" يعني: المردة منهم، كما جاء ذلك في رواية أخرى.
والمردة يعني: الذين هم أشد الشياطين عداوة وعدوانا على بني آدم. والتصفيد معناه الغل، يعني تغل أيديهم حتى لا يخلصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، وكل هذا الذي أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- حق أخبر به نصحا للأمة، وتحفيزا لها على الخير، وتحذيرا لها من الشر .
عباد الله: ومن أجل بركات هذا الشهر العظيم: أن الشهر الذي أنزل فيه القرآن على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].
وثمة علاقة وطيدة، ورباط متين بين القرآن وشهر الصيام، تلك العلاقة التي يشعر بها كل مسلم في قرارة نفسه مع أول يوم من أيام هذا الشهر الكريم، فيُقْبِل على كتاب ربه يقرأه بشغف بالغ، فيتدبر آياته، ويتأمل قصصه، وأخباره وأحكامه، وتمتلئ المساجد بالمصلين والتالين، وتدوي في المآذن آيات الكتاب المبين، معلنة للكون أن هذا الشهر هو شهر القرآن، ولقد كان جبريل -عليه السلام- يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيدارسه القرآن كل ليلة في رمضان - كما في "الصحيحين"-.
وكان يعارضه القرآن في كل عام مرة، وفي العام الذي توفي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عارضه جبريل القرآن مرتين.
معاشر الصائمين: في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليهم وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان".
فمن بركات رمضان: أنه شهر الجود، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- هو أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فقد كان صلى الله عليه وسلم كريماً معطاءً، يجود بالمال والعطاء بفعله وقوله، يعطي صلى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر، قال الله تعالى: (من ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً) [البقرة: 245].
حتى أنه صلى الله عليه وسلم عمق هذا المفهوم في نفوس أصحابه -رضوان الله عليهم- عملياً، سألهم مرة عن أحب المالين إلى الإنسان هل هو المال الذي بيده أو مال وارثه، ثم وضح لهم أنه ليس للإنسان إلا ما أنفق وقدم لآخرته.
وعمقه أيضاً صلى الله عليه وسلم بقوله في أحاديث كثيرة منها: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا"[متفق عليه].
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "انفق يا ابن ادم أنفق عليك"[متفق عليه].
وغيرها من الأحاديث التي تبين فضل وأجر هذه العبادة العظيمة.
من أنواع الجود المالي والذي هو من بركات هذا الشهر الكريم: تفطير الصائمين، قال صلى الله عليه وسلم مبشرا: "من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء"[رواه أحمد].
اللهم وفقنا لفعل الخيرات..
استغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ووفقنا لإدراك شهر الصيام والقيام، أحمده سبحانه وله الحمد في البدء والختام، والصلاة والسلام على خير من صلى وصام، وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-..
إخوة الإسلام: ومن بركات هذا الشهر المبارك شهر رمضان، ما نص عليه الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً"[رواه البخاري ومسلم].
فمن بركة السحور: التقوي على العبادة، والاستعانة على طاعة الله –تعالى- أثناء النهار.
ومن بركة السحور: أنه من السنة أن يكون في آخر الليل، وهذا الوقت هو وقت النزول الالهي، حينما يقول ربنا -جل في علاه-: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟".
أيها الصائمون: فشهرنا هذا كما نص النبي -صلى الله عليه وسلم- شهر مبارك، أيامه ولياليه مباركة، وأفضل أيامه ولياليه العشر الأواخر منه، وأعظم تلك الليالي بركة الليلة التي أنزل فيه القرآن، وهي الليلة التي هي خير من ألف شهر، إنها ليلة القدر، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 1-5 ].
وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان: 3].
اللهم أعز الاسلام والمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي