لا فرق في ذلك بين الأمم أو بين الأشخاص، فالكل سيان في ذلك، سواء نظرنا في هذا الموضوع إلى البشرية كأمم، أم نظرنا إلى البشرية كأفراد، فالكل مطالبون بتحقيق الإيمان، فإن حققته الأمة كتب الله لها التمكين في الأرض، وكتب لها النصر والعزة، وإن أخلت به كتب الله عليها الذلة والصغار، ثم في ....
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإن الله -عز وجل- خلقنا لأمر نفعله، وسنسأل عنه يوم القيامة، وهو الإيمان به وتوحيده، وهو أول ما افترضه الله -عز وجل- علينا، وما أخذ عليه العهد منا ونحن في صلب أبينا أدم؛ لأن الله أوجدنا في هذه الأرض، لا لنلهو ونعلب فحسب، ولكن لنحقق ما اقترضه علينا في عبادته.
وقد أقسم جل وعلا في أكثر من آية في كتابه أن من أخل بعبادته، وأعرض عنها فإنه خاسر، قال الله -تعالى-: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1-3].
فالإيمان هو أعظم واجب كلف به الإنسان في هذه الحياة؛ لأنه حق الله -عز وجل- على عباده، ومن حققه كان له الفوز والفلاح، وكان له التمكين في الأرض، ومن أخل به كان له الخسران المبين، ولو بعد حين.
ولا فرق في ذلك بين الأمم أو بين الأشخاص، فالكل سيان في ذلك، سواء نظرنا في هذا الموضوع إلى البشرية كأمم، أم نظرنا إلى البشرية كأفراد، فالكل مطالبون بتحقيق الإيمان، فإن حققته الأمة كتب الله لها التمكين في الأرض، وكتب لها النصر والعزة، وإن أخلت به كتب الله عليها الذلة والصغار، ثم في الأجر المعدود محقها وسحقها، وجعلها عبرة لمن يعتبر.
ولنا فيما قص الله -عز وجل- علينا في كتابه من إهلاكه للأمم الماضية أكبر واعظ، قال تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[العنكبوت: 40].
ولذلك حين ندعو الناس، فنقول: عودوا إلى ربكم، عدوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، فإن الأمر لا يعني تعصبا لمذهب معين، ولا يعني قصرا وضرب للناس على رأي من الآراء البشرية، أبداً، ولكنها دعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ودعوة إلى المنهج القويم الذي يضمن ويكفل للإنسانية أفرادا وشعوبا أفضل الحياة في الدنيا، ويحقق لها النجاة في الآخرة.
أيها الأخوة: ما هو أثر الإيمان على حياتنا وتصوراتنا التي نبني عليها أهدافنا وحلولنا للمشاكل، وخططنا للنجاح؟
إن العالم اليوم يخاف من الانهيار ويخشى منها، وما من دولة، أو مجتمع إلا وهو يخشى ذلك، ويحسب له كل حساب، حتى أقوى وأغنى دول العالم نراها تتحدث كثيرا عن مسألة الوجود، وإثبات الوجود، وتضع الخطط البعيدة المدى، لتبقى ولتصارع ولتزاحم في معترك الحياة التي جعلوها هم صراعا كصراع الوحوش في الغابات.
ولكن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر يدرك أن هذا العالم إلا من ندر لا ينظر إلى مسألة الانهيار، وأسباب سقوط الأمم إلا من زاوية واحدة فقط، وهي الزاوية المادية، أو الاقتصادية، حتى هذه الأمة المباركة، بل حتى الذين يقرؤون كتاب الله ويسمعونه آناء الليل والنهار، ويسمعون الأذان خمس مرات في اليوم والليلة، وأكثرهم من هذه الأمة أصبحوا يصدقون هذا، فيبنون خططهم وأفكارهم وآرائهم على أن الحياة مرتبطة بالاقتصاد وبالمادة، وأن أهم خوف يجب أن يكون لدى الأفراد والأمم، هو الخوف من الفقر، والخوف من الجانب المادي أن ينهار، فينهار الفرد، أو تنهار الأمة.
وأشغل ذلك حيزا كبيرا من الناس، المسلم منهم والكافر، ونحن أمة الإسلام والقرآن يجب علينا أن نعرض كل أمر من الأمور على كتاب ربنا -تعالى- وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
هذا هو مصداق إيماننا وإلا ما الفائدة، نقول: نحن مؤمنون ثم نتمسك بآراء ورؤى لا تتفق مع إيماننا ما الفائدة؟!
كلا، ينبغي أن نعرض الأمور على الكتاب والسنة، لنعرف قيمة هذا الإيمان وحقيقته، وأنه هو الذي به تصلح دنيانا وأخرانا.
وأما المقاييس والمعايير التي يقيس بها الكفار والماديون هي مقاييس محدودة وسطحية، وهي ليست بحجة عند من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويؤمن بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا نبي الهدى والرحمة -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا، فيقول: "والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم".
فأي رحيم وأي مشفق وأي ناصح أفضل وأعظم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ لا أحد –والله- من البشر يساويه فضلا ولا حكمة ولا علما.
وهو الذي يخشى علينا من أي ضرر، وإن كان قليلا، بشهادة رب العالمين: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة: 128].
فمن دأبه عليه الصلاة والسلام أن يدلنا على ما ندفع به كل شر، وإن كان بعيداً، فقوله: "ما الفقر أخشى عليكم" أي أنه لا يخشى علينا الفقر مع أن الفقر فيه ضرر، لكنه ليس سبب للانهيار والهلاك، ألم تسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة -الحيلة على الربا، الربا المقنع- وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى تعدوا إلى دينكم".
الخوف هو أن تطرأ الدنيا على قلوبنا، نحن نعرف أنه تعوذ من الفقر صلى الله عليه وسلم، واستعاذ بالله منه كما أن الفقر مما يحاربه هذا الدين من خلال الزكاة والصدقة وأنواع التكافل الاجتماعي، وكان من قوله عليه الصلاة والسلام: "اليد العليا خير من اليد السفلى".
ولكن النظرة في ديننا تجاه انهيار الأمم تختلف عن كل دين محرف يجب على أمة القرآن وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أن تلغي النظرة التي تكثر أسباب الانهيار في ضعف، أو قلة الموارد الاقتصادية، أو الجوانب المادية.
وبالتالي ماذا يحدث؟
نركز على هذه المشكلة ونبحث عن أسباب زوالها فقط، كلا، إننا بهذه النظرة ننظر إلى السطح وننسى الأعماق، إننا ننسى البحث عن أسباب الانهيار الأخرى، والأهم من خلال هدي رسولنا وسنة ربنا الجارية -سبحانه وتعالى-.
لقد بين الله لنا في كتابه الكريم أوضح البيان حال الأمم قبلنا، والعجب أنه ما من أمة أهلكها الله -تبارك وتعالى- إلا وهي في أوج قوتها، وذروة تعاليها، وفخرها وكبريائها، ويشهد بذلك كتاب ربنا، ويشهد لذلك التاريخ وواقع الأمم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)[الفجر: 6 - 10].
نحتوا الصخر في الواد: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)[الفجر: 11-15].
(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 44- 45].
الذين نحتوا الجبال، وبنوا وشادوا المصانع، هل أتاهم عذاب الله وهم في حالة ضعف، أو في حالة انهيار اقتصادي؟ أبدا.
لقد أتاهم وهم في أقوى ما يمكن أن يكونوا عليه من القوة والتمكن، وفرعون أيضا متى أهلك؟ ومتى دمر الله تلك الأمة القبطية الفرعونية الظالمة؟ هل دمرت وهي في حالة ضعف؟
أبدا، بل دمرت وانهارت وسقطت، وهي في أشد قوتها عندما تكبر زعيمها ذلك الرجل الذي بلغت به الوقاحة والجرأة على رب العالمين أن يقول: أنا ربكم الأعلى.
ففي أشد القوة المالية والمادية والتمكن يدمر الله الأمم الظالمة، بل أخبرنا جل وعلا عمن عاد رسوله -صلى الله عليه وسلم- من كفار قريش بأنهم أضعف بكثير من الأمم السابقة.
قال الله -تبارك وتعالى-: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)[سبأ: 45].
فصل المعشار بأنه عُشر العُشر، مما آتى الله الذين قبلهم من الأمم من القوة والنعمة، وطول العمر، فالأمم قبلنا سادت وشادت وبنت، وبلغت من القوة ما بلغت، ومع ذلك أهلكت وعذبت بسبب ليس هو الضعف المادي بأي حال من الأحوال، وحتى لا يساء الفهم لابد أن نشير هنا إلى أن حديثنا اليوم هو عن أثر الإيمان في مصير الأمم، وليس عن تعاملنا مع أعدائنا، فالقوة تقابل بالقوة هي سنة الله: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال: 60].
نعود ونقول: عندما دمر الله -تبارك وتعالى- مملكة الفرس والروم بعد أن استمرت الأولى مئات السنين، تستعمر الجزء الشرقي من العالم، تنهب من خيراته، واستمرت مملكة الروم تستعمر الشام ومصر غرب أفريقيا سبعمائة عام، حتى دمرتها جيوش الصحابة والتابعين، وطهرت بيت المقدس، هل كانت تلك، أو إحدى المملكتين تعاني من ضعف مادي؟
أبدا، لماذا انهارت إذاً؟ هل كان سبب الانهيار الضعف التقني، أو العسكري، أو الاقتصادي، أو التفكك السياسي؟
مع الأسف هذا هو الذي نقرأه في التاريخ، أو نسمعه في محاضرات، أو ندوات، أو ما يكتب في الصحافة والكتب، حتى أدى ذلك إلى أن غفلة أمة الإسلام عن الحقائق القرآنية البالغة الباهرة بأسباب الانهيار، وأصبحت أمة مادية تنظر إلى التاريخ، وإلى أسباب البقاء والفناء، وإلى الحياة الطيبة، وإلى أسباب الحياة الشقية، نظرة مادية بحتة.
إن أسباب انهيار الأمم الحقيقية هو بطر النعمة التي ينعم الله بها عليهم، وكفرها وعدم شكرها.
إن أسباب الانهيار هو رفض الحق، والتعالي على أهله، والإمعان في اضطهاد أهل الإيمان، فبذلك يمهلهم الله حينا من الزمان، ويمدهم في طغيانهم يعمهون، ثم في الأجل المحتوم يسلط الله عليهم أسباب الهلاك والبوار؛ كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)[إبراهيم: 28].
وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) [الكهف: 59].
وقال أيضا مبينا مصير الأمم الظالمة بعد أن يملي لها ردحا من الزمان: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)[الحـج: 48].
أستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي زحام الإعلام، وكثرة الآراء والأقوال، يجب أن نراجع تصورا صحيحا للأحداث حولنا، ولا ننسى أن وراء هذا العالم الفسيح ربا عليما، حكيما خبيرا، يدبر الأمور ويقدر أوقاتها، ويصرف الأحوال ويضعها في مواضعها، يحيي ويميت، يبسط ويقدر، يعز ويذل: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)[الرعد: 8-9].
(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ)[يونس: 31].
لا أحد ينكر أن الله -تعالى- خلق الأسباب الكونية الطبيعية الظاهرة، لكن المؤمن لا يقف عند هذا الحد، لا يقف عند الأسباب الظاهرة دون أن يجاوزها إلى الأسباب الشرعية.
المؤمن لا يمضى في تحليل الأسباب الطبيعية أكبر الوقت، إن لم يكن كل الوقت، وينسى الأسباب الشرعية، هو أمر خطير؛ لأن الأسباب الطبيعية تبعا للأسباب الشرعية، وإنما تفتح بركات السماء والأرض بالتقوى، وتغلق بالتكذيب والظلم.
ولو حصل شيء من الضراء للصالحين، فالفرق بين العقوبة والابتلاء إنما يكون بحسب حال المخلوق، فإن كان فاجرا أو ظالما كان ما يحل به من النكبات عقوبة، وإن كان صالحا كان ما يحل به من البأس ابتلاءا وتمحيصا، ورفع للدرجات.
هي سنة الله، والمؤمن اليوم يبتلى برؤيته الخيرات المادية تغدق على أهل الكفر، فيقول كيف: كل هذه الخيرات تغدق عليهم؟!
فنقول: هي سنة الله في عطاء الدنيا ومنعها، فالدنيا كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل ذلك الجناح لما سقى منها كافر شربة ماء.
ولهذا لما رأى الفاروق عمر حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته، ورأى أثر الحصير في جنبه بكى رضي الله عنه، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما يبكي؟ فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه. وفي رواية الإمام أحمد: "أعلم أنك أكرم على الله -عز وجل- من كسرى وقيصر، وهما يعبثان في الدنيا فيما يعبثان"، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة".
فالدنيا وليمة متاحة للجميع، لكن الآخرة محفوظة ومقصورة على أهلها.
أخيرا أقول: من ينكر تدبير الله للكون؟ من ينكر تدبيره لمسار المجرات؟ لجريان الشمس ودوران القمر حولها؟ لا أحد.
إذاً لماذا لا نوسع دائرة التدبير حين نحلل الأحداث، وحين نستعرض أسباب انهيار الأمم، فالله من فوق خلقه محيط.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي