ليالي الرجاء (2)

إبراهيم بن محمد الحقيل

عناصر الخطبة

  1. مظاهر الرجاء أواخر رمضان
  2. نعمة الرجاء الحقيقي
  3. الرجاء دأب الأنبياء
  4. الليالي العشر أرجى الليالي
  5. القنوط من رحمة الله كبيرة
  6. زكاة الفطر
  7. منكرات العيد
  8. صيام ست من شوال

الحمد لله العفو الغفور، الكريم الشكور؛ يغفر الذنوب، ويستر العيوب، ويضاعف الحسنات، ويرفع الدرجات، نحمده على ما أعطى من الخيرات، ونشكره على ما شرع من أنواع الطاعات، وما كتب فيها من الأجور والحسنات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له في هذه الليالي المباركة هبات وعطايا؛ فيا لهف قلوب المؤمنين عليها! ويا خسارة من حرمها!. 

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان أشد الناس خوفا من الله تعالى، وأعظمهم رجاء فيه، وكان يربي أصحابه على الخوف والرجاء؛ فيضع الخوف في موضعه، ويضع الرجاء في موضعه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا ما بقي من الشهر الكريم، وأكثروا في ختامه من الاستغفار، وألحوا على الله تعالى بقبول الأعمال، واعلموا أن الله تعالى كما شرع الصيام لحصول التقوى فإنه يتقبل عمل من اتقى، ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ [المائدة:27].

أيها الناس: في هذه الليالي المباركة من هذا الشهر الكريم يعظم رجاء المؤمنين في ربهم سبحانه وتعالى، فيخلو به العاكفون، ويلح عليه الداعون، وتتعلق به القلوب وحده دون سواه، لا تسكن فيها مساجد المسلمين من الدويِّ بالقرآن في أول الليل وآخره، ولا تمل الجباه من طول السجود، ولا تشتكي الأقدام طول القنوت؛ فالرغبة في الله تعالى عظيمة، والرجاء فيه -سبحانه- كبير.

حتى إذا كان الهزيع الأخير من الليل عظمت الرغبة والرجاء فيه تبارك وتعالى، وتمتمت الشفاه بدعوات مباركات تتيقن القلوب قبولها؛ لأنها دعوات ترفع للجواد الكريم من نفوس تظهر الافتقار والحاجة للعلي الكبير، سبقتها قربات صالحة تمهد للقبول، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:10] فيا لله العظيم! ما أجمل هذه الليالي المباركات! وما أعظم لذة المناجاة في الصلوات! وما أطيب الاستغفار في الأسحار! أدام الله تعالى علينا هذه النعم بالثبات على دينه، ومعرفة حقه، والإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته.

إن الرجاء -يا عباد الرحمن- موجود عند كل الأمم، وفي كل المذاهب والديانات المحرفة والمبدلة والمخترعة، لكنه رجاء لا ينفع أصحابه؛ لأنه وضع في غير موضعه، وبذل لمن لا يستحقه، فالراجي متعلق بالأوهام والأماني، ونحن -يا عباد الله- قد وهبنا الله تعالى الرجاء الحقيقي النافع، الذي ينفعنا في الدنيا والآخرة، وهو الرجاء به تبارك وتعالى في كل أمورنا الدنيوية والأخروية.

إن الرجاء في الله تعالى هو عمل المرسلين، لا يجدون قنوطا في قلوبهم، ولا يعرف اليأس طريقهم؛ لعلمهم بالله تعالى، ويقينهم بقدرته -سبحانه- ورحمته وكرمه، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يتعاظمه شيء أعطاه، وخزائنه ملآى، فلا محل للقنوط واليأس.

بُشر الخليل -عليه السلام- بإسحاق على كبر في سنه، وعقم في زوجه، فاستبعد ذلك لبعده، ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر:54] فقال له الملائكة -عليهم السلام-: ﴿بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ﴾ [الحجر:55] فنفى الخليل -عليه السلام- باستفهام إنكار أن يكون قانطا، ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر:56].

فمن كانت له عند الله تعالى حاجة -ولا ننفك ونحن عبيده عن الحاجة إليه تعالى في كل لحظة- فليدع ربه سبحانه بقلب موقن راج، لا يشك في أن الله تعالى يعطيه ما سأل. قال سُفْيَانَ بن عيينة رحمه الله تعالى: مِنْ ذهب يُقنط الناس مِنْ رحمة الله تعالى، أو يقنط نفسه فقد أخطأ، ثُمَّ نزع بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾.

وتكرر هذا الحال مع نبي الله زكريا -عليه السلام- فدعا ربه دعاء الراجي يطلب الولد، وقد وهن منه العظم، واشتعل الرأس شيبا، لكنه لا يزال يرجو قديرا كريما، ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [آل عمران:38] فكانت إجابة الله تعالى له أسرع من مفارقته لمحراب صلاته، ومحل دعواته؛ إذ جاء التعقيب الفوري على دعوته: ﴿فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران:39].

فما أسرع استجابة الله تعالى له! وهنا، وفي مثل هذا المقام تقع المعجزات والكرامات؛ لعظيم أمر الدعاء عند الله تعالى، لقد تلاشت الأسباب الاعتيادية، وتجلت القدرة الربانية، واستجيبت الدعوة المباركة، ووقعت الكرامة بالولد الصالح. فهل يقنط عبد يسأل الكريم حاجة وهو يقرأ خبر إبراهيم وزكريا عليهما السلام؟!.

ومن خاف عدوا يطلبه، أو أمرا يقلقه؛ فلينطرح على باب الله تعالى قانتا داعيا؛ وليتذكر رجاء الخليل -عليه السلام- في ربه تبارك وتعالى حين أضرم قومه النار لطرحه فيها بعد أن كسر أصنامهم، فما زاد على قوله: حسبنا الله ونعم الوكيل! فقال الله تعالى للنار: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء:69]، معجزات باهرة، وكرامات عجيبة من الله تعالى لأهل الرجاء. فأين الراجون الذين لا يرجون سوى الله تعالى؟!.

وموسى -عليه السلام- والمؤمنون معه طوردوا من فرعون وجنده حتى كان البحر أمامهم، والعدو وراءهم، ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء:61]، ولكن رجاء الأنبياء -عليهم السلام- ليس كرجاء غيرهم، وثقتهم بالله تبارك وتعالى لا تزعزعها المواقف مهما عظمت، ولا تميد بها الخطوب وإن اشتدت، قال موسى معلنا رجاءه في الله تعالى، وثقته به في هذا الموقف العصيب: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:62]، فخلق الله تعالى في البحر طريقا يبسا بضربة عصا، في معجزة ربانية تخرق الأمور الاعتيادية، ولا يقدر على ذلك إلا مَن إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.

إن عباد الله الصالحين يرجون في هذه الليالي رحمة الله تعالى ومغفرته، وقد أخذوا بأسبابها، وعملوا بأعمالها، في ليال هي أرجى الليالي، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر:29] وهذه الأعمال كلها تتجسد في هذه الليالي المباركة أكثر من غيرها؛ فهم يتلون كتاب الله تعالى، ويقومون به في تراويحهم، وقد أقاموا الصلاة وحافظوا عليها، وأيديهم ندية بالإنفاق والإحسان في هذه الأيام سرا وجهرا، وقد أخبر الله تعالى أنهم يرجون بأفعالهم هذه تجارة لن تبور، ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر:30].

فبالله عليكم ألا يعظم رجاء العباد في الله تعالى وقد قاموا بهذه الأعمال في تلك الليالي كما لم يقوموا بها في غيرها؟! ألا يعظم رجاؤهم في ربهم -سبحانه- وهم حين ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر وهم قانتون يتلون كتاب الله تعالى ويستمعون إلى آياته، ويخشعون عند مواعظه، ويلحون في دعاء الله تعالى وسؤاله؟! فإذا لم تكن هذه الليالي هي ليالي الرجاء، فمتى تكون؟!.

قَالَ ابن مسعود -رضي الله عنه-: الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقَنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ. رواه الطبراني

فاعملوا صالحا -عباد الله- وأنتم ترجون الله تعالى أن يقبل منكم، وألحوا عليه في الدعاء وأنتم ترجونه سبحانه أن يستجيب لكم، وتوبوا إليه وأنتم ترجونه أن يقبل توبتكم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزُّمر:9].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…

الخطبة الثانية:

الحمد لله الجواد الكريم؛ يعطي جزيلا على القليل، ويغفر الذنب العظيم، نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى، وأحسنوا ختام شهركم بالأعمال الصالحة، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه:112].  

أيها الناس: شرع الله تعالى لكم في ختام صومكم إخراج زكاة الفطر عن أبدانكم، وترقيعا لما تخرق من صيامكم؛ كما جاء في حديث ابْنِ عَبَاسٍ -رَضِيَ اللُه عَنْهُما- قَال: "فَرَضَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً لِلْصَائِمِ مِنَ الَّلغْوِ والرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِين، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ" رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ.

وهي فريضة يخرجها الرجل عن نفسه، وعمن تلزمه نفقته من أهل بيته؛ كما في حديث ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَال: "فَرَضَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعَاً مِنْ تَمرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بها أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلى الصَّلاةِ" رَوَاهُ الشَّيْخَان.

وَفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَاري، قَالَ نَافِعٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: فَكَانَ ابْنُ عَمَرَ يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، حَتَى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَها، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَين.

واحذروا عباد الله منكرات العيد؛ فليس من شكر الله تعالى على نعمة إدراك رمضان والتوفيق لصيامه وقيامه أن يقلب العباد يوم العيد إلى يوم معصية، وكفر للنعم، والله تعالى يقول: ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:185].

وأتبِعوا رمضان بصيام ستة أيام من شوال، فمن صامها مع رمضان كان كمن صام الدهر كله، كما جاء في الحديث.

وصلوا وسلموا على نبيكم…


تم تحميل المحتوى من موقع