حقيقة الصيام

علي مشاعل
عناصر الخطبة
  1. الرضا عن النفس سبب كل غفلة .
  2. ما هي حقيقة الصيام؟! .
  3. معنى قوله تعالى: \"فإنه لي وأنا أجزي به\" .
  4. الإخلاص حقيقة الصيام .
  5. الابتعاد عن المحرمات يتأكد في رمضان .
  6. خلل في حياتنا يكشفه الصيام .

اقتباس

أتساءل هذه الأسئلة لكي لا نرضى عن نفوسنا بأي عمل لأن الرضا عن النفس سبب كل غفلة، والمؤمن دائم المحاسبة، دائم المجاهدة، لا يفتر عن الترقي في درجات المتقين، فإذا كانت ثمرة الصيام كما أفصحت عنها الآية الكريمة هي التقوى عندما قال الله – تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، إذا كانت ثمرة الصيام هي التقوى فإن التقوى درجات، وإن أجر الصائمين على حسب تقواهم، مع...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد كما أنت أهله وصلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كما هو أهله، وافعل بنا ما أنت أهله، فأنك أهل التقوى وأهل المغفرة.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

أوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].

أما بعد:

فيا إخوة الإيمان والعقيدة: مع اللقاء الثاني والتسعين بعد المائة ومع "حقيقة الصيام".

المسلمون جميعًا يصومون، أقصد من يطيع الله -عزّ وجل- ويمتثل أمره، ولكن هل جميع الصائمين عند الله سواء؟! هل نحن نؤدي حقيقة الصيام كما أمر الله سبحانه؟!

أتساءل هذه الأسئلة لكي لا نرضى عن نفوسنا بأي عمل لأن الرضا عن النفس سبب كل غفلة، والمؤمن دائم المحاسبة، دائم المجاهدة، لا يفتر عن الترقي في درجات المتقين، فإذا كانت ثمرة الصيام كما أفصحت عنها الآية الكريمة هي التقوى عندما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183]، إذا كانت ثمرة الصيام هي التقوى فإن التقوى درجات، وإن أجر الصائمين على حسب تقواهم، مع أن الصائم لا يحد أجره ولا يعد؛ لأن الصوم هو الصبر أو هو نصف الصبر، ولأن الصبر لا حدود لجزائه كما قال مولانا -تبارك وتعالى-: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].

فما حقيقة الصيام؟! إخوة الإيمان: الصيام أولاً وقبل كل شيء "إخلاص"، كلنا يرى أن العبادات لها أقوال ولها أفعال ظاهرة، سواء كانت صلاة أو زكاة أو حجا أو قربة أخرى من القربات، أما الصيام فعمل قلبي لا يظهر أثره، لا يفرّق بين الجائع وبين الصائم، بل قد لا يفرق الشبعان والصائم.

لذلك الحديث الصحيح الذي يرويه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -تبارك وتعالى-: "كل عمل ابن آدم كله له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". ومن المعلوم أن أعمال ابن آدم كلها له يرجع ثوابه كله له.

لماذا خص الله تعالى الصوم بقوله: "فإنه لي"؟! إذا نظرنا إلى كسب الأعمال وأجرها فكلها لابن آدم، وإذا نظرنا لتوفيق الله للأعمال فكلها من الله خلقًا وإيجادًا وتوفيقًا، إذًا لمَ هذه التفرقة وهذا الاستثناء: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"؟!

تعددت تفسيرات العلماء وشروحهم كما ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلى أكثر من عشرة أقوال موجزها "أن الصيام لا يدخله الرياء"، كل عبادة يمكن أن يدخلها الرياء إلا الصيام لا رياء فيه.

ومن ضمن أيضًا التوضيحات والشروح في هذا الاستثناء أن ثواب الصيام لا يعلمه إلا الله، لا تعرفه الملائكة ولا الكتبة: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، فالله وحده هو الذي يتولى جزاء الصائمين، الملائكة تكتب الحسنات والأعمال، عمل بحسنة، عمل بعشر حسنات، عمل يضاعف إلى مائة إلى مائتين إلى ثلاثمائة إلى سبعمائة إلى أكثر... الصوم فوق ذلك إن صدق صاحبه.

ومن ضمن ما يقال في هذا الاستثناء أيضًا: "أن الصيام لا يأخذ منه في المظالم يوم القيامة"، حيث روى سفيان بن عيينة "أنها يوم القيامة يؤخذ من الإنسان من حسناته للمظالم التي ارتكبها والمظالم التي أخذها من غيره، فإذا لم يبق عنده إلا الصوم تكفل الله بإعطاء من له حق عليه وأدخله الله بالصوم".

حقيقة الصيام الإخلاص -أيها الإخوة-، الإخلاص لله والصدق مع الله، هكذا يعلمنا الصيام، ليس في رمضان فقط، إنما يعلمنا هذا الدرس ليكون معنا في سائر الأيام عندما يصوم، حتى الذي يعصي الله يصوم ويمتنع عن الطعام والشراب، إنه لو تأمل نفسه قليلاً لقال: لماذا لا أكون طائعًا لله في كل ما أمر بدل أن أكون طائعًا له في الصيام فقط؟! أليس الذي أمر بالصلاة هو الذي أمر بالصيام؟! أليس الذي أمرنا بالصيام هو الذي أمرنا بسائر الطاعات من صلاة وزكاة واستقامة وبعد عن الفواحش والمنكرات وصدق في اللسان وأمانة في الأخلاق ووفاء في الوعد وغير ذلك من مكارم الأخلاق!! إنما هو الله -عز وجل- وحده.

إذًا لماذا نجد الكثيرين يطيعون الله –عز وجل- في الصيام طاعة مطلقة وإن تفاوتت مقدار الطاعات فابتعد بعضهم عن الطعام والشراب والشهوة، ووقع البعض الآخر في المحرمات من غيبة ونميمة وكذب وما إلى ذلك من المنكرات على تفاوت في مقدار الالتزام أمام الله وفي فهم الطاعة، لكن الجميع يمتنعون عن الطعام والشراب والشهوة المحرمة وكانت حلالاً قبل رمضان.

الجميع يمتنع، هذا الامتناع يعطينا قوة على نفوسنا وسيطرة على توجهاتنا، حتى إذا انقضى رمضان ومضى أصبحنا نملك أزمَّة النفوس فنسيطر عليها، هكذا أراد الله لنا وهكذا شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هديه وسنته منهجًا يربي النفوس ويصفيها ويطهر القلوب ويزكيها.

إخوة الإيمان والعقيدة: فحقيقة الصيام إذًا الإخلاص والصدق في جانب القلب؛ لنتعلم أن لا نرائي وأن لا نعمل الشيء لأجل الناس، إنما نعمل لله –عز وجل-، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه، وهو -جل جلاله- أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معه أحدًا تركه وشركه، بل أحبط عمله، بل أهلكه في الدنيا والآخرة عندما يعلم الله من قلب عبده أنه غير مخلص.

وما من حقيقة أيضًا إلا ولها جوانب، هذا العمل القلبي للصيام، الصيام يثقل القلب ويهذبه ويزيل شوائبه، قد يخطر لأحدنا أن يعمل الشيء لغير الله، أن يصلي، أن يطيل الصلاة، ولكن عندما يأخذ درس الصيام على حقيقته يعيد ويراجع حساباته ويقول: لا ينبغي أن يخطر لك في عملك غير الله -عز وجل-، فأخلص له واصدق معه وصفِّ النية لأجله كما قال مولانا في الحديث القدسي: "يدع أحدكم طعامه وشرابه وشهوته لأجلي"، هنا الإخلاص: "لأجلي"، ليس مراعاة للأهل ولا للأقارب ولا للناس، ولا خوفًا من أحد أو خشية من كلام أحد، إنما "لأجلي".

يدع كل ذلك لأجل الله، من هنا كان ثواب الصوم عند الله عظيمًا، ومن هنا استحق الصوم أن يجعله الله له، واستحق أن يدخل صاحبه الجنة، بل استحق أن يكون جُنة كما في الحديث: "الصيام جُنة"، ستر ووقاية؛ أولاً: من المعاصي، ثانيًا: من النار -والعياذ بالله-.

ثم إن حقيقة الصوم -أيها الإخوة- تعني أيضًا البعد عما حرم الله -عز وجل-، إذا أخلصنا لله في الصوم فالإخلاص يقتضي أن نبتعد عما حرم علينا، ومن المحرمات ما هي خاصة في الصيام، ومنها ما هي عامة في كل وقت، وفي الصيام تحريمه آكد وأشد.

فالذي هو حلال وحُرِّم في الصوم في نهار رمضان: الطعام والشراب والجماع؛ "يترك أحدكم طعامه وشرابه وشهوته"، الشهوة هنا إما أنها الشهوة الخاصة المحددة وإما أنها الشهوات كلها يتركها الصائم حتى يترك شم الرياحين صيامًا عن كل رفاهية، وليس هذا بحرام، إنما لأنه شهوة والله يقول: "يترك أحدكم طعامه وشرابه وشهوته"، فبعض العلماء أخذ الشهوة على المعنى الخاص كما وضح الحديث وهو القرب من الزوجة، والبعض الآخر فهم الشهوة على عمومها فقال: هذا حمل للعام على الخاص، الخاص الطعام والشراب، والعام هو الشهوة التي تشمل هذا وغيره.

فالصائم يترك كل ذلك، لماذا؟! لأجل الله -سبحانه وتعالى-، حتى إن من الشهوات شهوة الجشع والطمع، وشهوة الاستغراق في الدنيا، وشهوة الانهماك في مطاعمها وحطامها، تلك شهوة قاتلة، فالصائم يجب أن يوقف النفس ويلجمها.

الصوم يجب أن يقول لصاحبه: على رسلك، على مهلك، إلى متى تبقى غافلاً عن الله، إلى متى تبقى جامعًا للدنيا غير مسخرًا لها للآخرة، فنعمة الدنيا مطية المؤمن، ولكن بئست الدنيا إذا قطعت صاحبها عن الله، أو شغلت صاحبها عن الآخرة، والدنيا والآخرة ضارتان، من أحب إحداهما أضر بالأخرى، ومن أضر بإحداهما أحب الأخرى.

هكذا يعلمنا الصوم ويكشف عن حقيقته، وهو أن نترك المحرم، نترك ما يغضب الله، هذا كان حلالاً، كنا نأكل قبل نهار رمضان، ولما دخل هلال رمضان أمسكنا عن الطعام والشراب من الفجر إلى غروب الشمس: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) [البقرة:187].

إذًا نأكل بالليل إلى أن يتبين الخيط الأبيض ويطلع الفجر ثم نمسك عن الطعام والشراب والشهوة إلى الليل، وهو غروب الشمس، فالليل يبدأ بغروب شمس كل يوم.

فترك الحرام هذا خاص في رمضان، ولكن المحرمات الأخرى التي حرمت علينا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن من الخمور والمسكرات والمشروبات المؤذية المضرة، التي هي من ضمن الخبائث والفواحش، فالله قد حرم على عباده الخبائث وأحل لهم الطيبات.

إن المنكرات باللسان والجوارح المختلفة كلها حرام علينا في سائر أيامنا وليالينا وحياتنا، ولكنها في رمضان ونحن صائمون أشد حرمة وأعظم غلظة، فالمسؤولية علينا أكبر، فيجب علينا إذا عجزنا عن ضبط أنفسنا قبل رمضان بعض الشيء أن نتقوى على ضبطها في رمضان؛ لأن رمضان يعطينا قوة وشحنة هائلة، ويعطينا معونة من الله –عز وجل- في السيطرة على نفوسنا والسيطرة على جوارحنا، يكفي أننا نرى الطعام والشراب متاحًا لنا ونرى الماء العذب أمامنا ونشعر بالجوع والعطش، ومع ذلك وكأننا نحس بسد منيع وحجاب سميك وفاصل واسع وبون شاسع أمامنا وأمام هذه المشتهيات.

ما الذي يمنعنا؟! إذا كان خوف الله يمنعنا فلماذا لا نمتنع عما حرم الله -عز وجل- بكل أوقاتنا، لما هذا الخلل في منهاج حياتنا؟! إذا نظرنا إلى أنفسنا وجدنا أن ذلك فعلاً يشكل خللاً، لماذا نمتنع عن هذا المباح في نهار رمضان وكما ذكرت هو حرام في نهار رمضان ومباح قبله، لماذا نمتنع؟! لأن الله حرمه علينا، وإن الصيام لا يصح في ظاهره إلا بترك الطعام والشراب، ثم بعد ذلك نتجرأ ونحن صائمون على الغيبة والنميمة والكذب وعلى النظر الحرام بل وعلى منكرات أشد.

أليس هذا تناقضًا؟! وأليس هذا خللاً؟! وأليس هذا ضعف إيمان خطيرًا لا يقبله الله عز وجل؟! بلى، إذًا حقيقة الصيام -إخوة الإيمان- تتطلب منا نظرة دقيقة وتأملاً فاحصًا، وتتطلب منا أيضًا عزيمة نعممها في حياتنا وقد اكتسبناها في رمضان، اكتسبناها بالصبر والتحمل، واكتسبناها بالوقوف عند حدود الله، واكتسبناها أيضًا بالخشية من الله سبحانه والمراقبة له.

فنسأل الله -عز وجل- أن يجعل هذه المعاني الإيمانية عميقة وقوية ومصاحبة دائمًا وأبدًا لنفوسنا في رمضان وفي غير رمضان حتى نعبده وكأننا نراه، فإن لم نكن نراه فإنه يرانا.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله المصابيح الغر، ما اتصلت عين بنظر ووعت أذن بخبر، اللهم صل عليه ما ذكره الذاكرون، وصل عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، اللهم صل عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين، اللهم صل على هذا النبي الكريم صاحب الخلق العظيم الذي أرسلته رحمة للعالمين، وارض اللهم عن صحابته الذين آزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وارض اللهم عن آل بيته الأطهار، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن بناته وأولاده الطاهرين، وعن سبطيه الحسن والحسين، وعن عميه الحمزة والعباس، وعن بقية الآل والقرابة والصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك في هذه الساعة المباركة أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمتي الحق والدين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي